استمتعوا
لم يكن يجب على الحكاية أن تنتهي على هذا النحو.
كان ينبغي أن تعثر الجنيّة على الفتى مصادفةً،
وتعالجه مرةً أخرى، وتُمنحه فرصة للنجاة.
‘صحيح، موت الفتى ترك وقعًا أعمق…’
لكن، أليست الحكايات الخيالية من المفترض أن تكون دافئة،
ومليئة بالحنين والرقة؟
راحت هيلي تمسح الغلاف بأطراف أصابعها.
“ما رأيكِ؟“
لو كانت إيفي موجودة لقالت. “الكاتب الذي يؤلف حكاية كهذه يجب أن يُسجن بتهمة تمزيق قلوب القرّاء“،
لكنها كانت تتحدث مع روز، لذا أجابت هيلي بهدوء.
“ممتعة. النهاية حزينة قليلًا، لكن…”
ثم أضافت.
“……مقولة إنّ الأيدي الباردة تعني قلوبًا دافئة، اخترعها الفتى ليدافع عن الجنيّة ذات اليدين الباردتين، ويُعزيها.”
أهل القرية لم يفهموا لماذا كان الفتى قريبًا من فرينا.
“تلك المرأة، قلبها من جليد.”
“لا يمكنها فهم مشاعر الآخرين.”
“تغضب منك قليلاً فتقوم بتجميدك حتى الموت.”
“بصراحة، شعرتَ بالقشعريرة عندما لمستها، أليس كذلك؟“
وكان رد الفتى.
“هل سمعت من قبل أن الأيدي الباردة دليل على دفء القلب؟ هذا الكلام صحيح. يد فرينا كانت باردة، لكن قلبها كان دافئًا حقًا.”
هكذا دافع الفتى عن الجنيّة.
“صحيح! لذلك في بلوتاروس، نستخدم هذه العبارة لنعبر بها عن الحب!”
“…….”
وهكذا، تكون هيلي قد قالت عبارة تعني ‘أحبك‘ على الطريقة بلوتاروس لديلان.
“آااه…!”
بدا الأمر كحكم بالإعدام،
وضربت هيلي رأسها بالوسادة على الأريكة.
تركت رأسها على الوسادة وأطلقت أنينًا مؤلمًا.
كان الموقف محرجًا جدًا،
حتى أنها شعرت بأنها ستموت من الخجل.
‘لماذا لم يخبرني مباشرة؟ لماذا كان عليه أن يلمّح بتلك الطريقة الماكرة؟‘
ثم سمعت ضحكة روز، فأفاقت من أفكارها.
‘صحيح. روز تعتقد أنني تزوجت الدوق لأنني أحبه.’
صحيح أن العلاقة بدأت بأوراكل،
لكنها تعتقد أن الحب نشأ بينهما لاحقًا.
‘يجب ألا أُظهر أي ردة فعل غريبة كي لا أثير شكوكًا لا داعي لها.’
لا يجب أن تندم على قولها لتلك العبارة التي تعني الحب.
بل عليها أن تتصرف وكأنها شعرت بالحرج فقط لأنها لم تكن تعرف معناها.
هيلي عدّلت تعابير وجهها، ثم أعادت الكتاب إلى روز.
“……شكرًا لأنكِ أعرتِني الكتاب.”
“لا شكر على واجب.”
“سأذهب الآن.”
“إلى أين؟ إلى شقيقك؟“
“نعم.”
قبضت هيلي على قبضتها بإحكام.
‘ذلك الإنسان سخر مني.’
كان بإمكانه أن يخبرها مباشرة،
لكنه اختار أن يلوّح بكلمات أشبه بلعنة ليخيفها.
سارت بخطى سريعة في الممر،
فرأت ديلان واقفًا في الطابق الأول.
فركضت على الدرج بجنون حتى وصلت إلى الطابق السفلي، ووقفت أمامه وهي تفتح ذراعيها لتحول دونه.
“هيلي؟“
أخذت نفسًا عميقًا، ثم نظرت إليه بعينين نصف مغمضتين.
“لا يليق بشخص بقلب دافئ أن يتصرف بهذا الشكل الطفولي.”
آه.
فهم ديلان ما تقصده، ورد عليها بوجه غير مبالٍ.
“درجة حرارة القلب لا علاقة لها بالنضج.”
ابتسم ابتسامة جانبية ذات طابع مشاكس.
هيلي تأملت تلك الابتسامة.
‘أشعر أنني رأيت شخصًا يبتسم بهذه الطريقة من قبل…’
لكن الشك اختفى بسرعة بسبب كلماته التالية.
“لكن على الأقل قلتِها لي أنا.
لو قلتيها لرجل آخر، لكان الأمر خطيرًا.”
“لا أظن أن ذلك كان سيحدث.”
“لماذا؟“
“لأنني لم أمس يد أحد غيرك منذ وصولي.
عندما نخرج، لا تترك يدي أبدًا، أليس كذلك؟“
“……!”
هـ، هل كنتُ أفعل ذلك فعلًا؟
تفاجأ ديلان بردّها غير المقصود.
“ذ، ذلك لأننا يجب أن نبدو كأن علاقتنا جيدة أمام الآخرين…”
“نعم، صحيح.”
أشاح بنظره بعيدًا.
“كح، هل أعارتك روز الكتاب؟“
“نعم.”
حين تذكرت محتوى الكتاب،
شعرت بالإحراج مجددًا، فعبست وجهها.
“لم تكن لعنة، بل كانت تعني ‘أحبك‘.”
تمتمت، وكأنها تتساءل إن كان يُسعده أن يسخر من الآخرين.
عندما أعاد ديلان التفكير في كلماتها، قال بجديّة.
“لكن… إذا أردنا التدقيق، فالحب يمكن اعتباره نوعًا من اللعنات. لو لم يحب الفتى الجنيّة، لربما لم يمت.”
في تلك الليلة الباردة من الشتاء…
لو لم يصعد الجبل لملاقاة الجنيّة، لربما نجا.
لقد صعد الجبل مدفوعًا بالحب.
بالنسبة للفتى، كان الحب بمثابة لعنة سلبته حياته.
نظرت هيلي إلى ديلان بعينين ثابتتين.
“ربما تكون محقًا.”
وإن كان كذلك، فأنت أيضًا يا ديلان وقعت في تلك اللعنة.
لقد أحببت روز، بطلة القصة، حبًا شديدًا، حتى أنك متّ من أجلها.
‘لو أنك لم تحب الأميرة الثانية، لربما لم تكن لتموت.’
لو استعارت كلماته هو قبل قليل، لقالت ذلك.
ثم خطرت على بالها صورة شخص آخر.
‘فريكسوس.’
لو كنتَ ذكيًا كما عهدتك، فلا بد أنك كنت تعرف أنك ستموت.
“فكرت بالأمر، وأدركت أنني سأموت على أية حال.
لا أحد نجا من قدرٍ أعلنه الحاكم من قبل.”
أجل، كنت تعرف.
‘ورغم معرفتك أنك ستموت، بقيت إلى جانبي.’
لأن…
“……أرجوك، لا تذهب.”
‘لأنني طلبت منك ذلك.’
كان من الغريب أن تستخدم كلمة ‘حب‘ لوصف ما بينهما.
لكنها لم تجد مصطلحًا أدق يعبّر عن تلك العلاقة.
‘حب، هاه…’
في لحظةٍ ما، فقدت هيلي إيمانها بالحب، وفقدت قدرتها على التعبير عنه.
بشكل أدق، كان ذلك بعد أن أحضر والدها إينو إلى المنزل.
الرجل الذي لطالما تحدّث عن الحب،
توقف عن حب والدتها بعد مجيء إينو.
ومنذ أن رأت ذلك، توقفت عن ذكر الحب.
تمامًا كما قال ديلان، كلمة ‘حب‘ بدت وكأنها لعنة.
لا شيء أبدي، وكل شيء لا بد أن يتغير يومًا ما.
لذا كان من الصعب عليها الاعتراف بأنها تحب.
لكنها الآن أدركت ذلك بوضوح.
‘أنا أحببتك، وأنت أحببتني.’
كان فريكسوس واقعًا في لعنة تُدعى الحب.
وهي أيضًا لم تتحرر من تلك اللعنة بعد.
لقد أحبت شخصًا مات، ولم تستطع نسيانه بعد.
وأحبت والدتها، فدفعتها إلى الهرب نحو بلدٍ آخر.
ابتسمت هيلي بعدما اعترفت لنفسها بأنها كانت تحب.
رغم أنها كانت تظن دومًا أن لا علاقة لها بالحب،
فإنها كانت تحمله في قلبها طوال الوقت.
كان شعورًا مؤلمًا للغاية.
لم ترغب في هذا النوع من المشاعر.
أن تفقد من تحب، أو أن ترى الحب يتغير، كل ذلك كان مرهقًا جدًا.
“إذًا، لن تحب، أليس كذلك؟
لأنك لا تريد أن تقع تحت تأثير هذه اللعنة؟“
“إنها لعنة محببة.”
أي أنه لا يخشى الوقوع في اللعنة.
بل يرى أن لحظة التحرر منها هي الأشد ألمًا.
قال ذلك وهو يبتسم.
اكتفت هيلي بالنظر إليه بصمت.
***
لن تسمح لنفسها مجددًا بأن تقع في مواقف محرجة بسبب جهلها بثقافة بلدٍ آخر.
اليوم مرّت الحادثة بسلام،
لكنها أدركت أنها قد ترتكب إساءة كبيرة إن لم تكن حذرة.
لذلك، في تلك الليلة، ذهبت إلى مكتبة الطابق الأول في القصر بحثًا عن كتب في هذا الشأن.
عن اللباس، أو الطعام، أو غيره من العادات.
وبينما كانت تقلّب الكتب، جذبتها كتبٌ أخرى.
تذكّرت الحكاية التي قرأتها في النهار،
وأحبتها أكثر مما توقعت، فاختارت بعض الروايات لقراءتها.
كانت قد اعتادت قراءة كتب المعبد التي تنقل كلمات الحاكم،
لذا وجدت الروايات ممتعة مضاعفة.
في وقتٍ مضى، كانت تتجاهل هذه الكتب تمامًا.
لكن بعد أن عاشت في المعبد بضعة أشهر،
أصبحت تجدها ممتعة بشكل لا يُصدّق.
أكثر قصة أثارت إعجابها كانت عن فارسٍ مخلصٍ لعمله وعائلته، وقع في إغواء الإمبراطورة، وأصبح يدخل إلى غرفة الإمبراطورة كل ليلة.
أما أكثر ما صدمها، فهو أن زوجة الفارس – التي كانت تظن أنها لا تعلم عن خيانة زوجها– وقعت تحت إغراء الإمبراطور الطاغية بأحد الليالي.
‘يا لها من فوضى!’
قرأت عدة مجلدات، ثم بدأ النعاس يغلبها بسبب الشبع والتعب.
لا تدري كم مضى من الوقت، لكنها كانت تغفو تدريجيًا وهي تضع ذراعها وسندًا لرأسها.
كرك–
اهتزت فجأة، واستيقظت بسبب الحركة التي أحدثتها بنفسها.
لقد اعتادت أن تستيقظ بهذه الطريقة أثناء صلوات المعبد، لذا هدأت بسرعة. لكن…
“ماذا هناك؟ ما بكِ؟“
“……جلالتك؟“
كان ديلان جالسًا مقابلها، وقد فوجئ بها.
“هل أنتِ بخير؟“
“ما الذي تفعله هنا؟“
تفاجأ كل منهما بوجود الآخر. لكن هيلي كانت أول من أجاب.
“أنا بخير. فقط غفوتُ للحظة.”
سقطت بطانية على الأرض، كانت البطانية التي غطّاها بها ديلان قبل قليل وهي نائمة.
نهض ديلان من مكانه، وأخذ البطانية عن الأرض، ثم أعاد تغطيتها بها. بعدها أجاب عن سؤالها.
“لم أستطع التركيز في المكتب، فجئت إلى المكتبة.”
يقولون إن من لا يجيد الدراسة دائمًا يلوم المكان، ويبدو أن ديلان اعترف بذلك.
“أنا لستُ بارعًا، لذا ألوم الأدوات والمكان. لا مفر من ذلك.”
على الطاولة كانت كتب هيلي التي اختارتها، بجانب أوراق ديلان. وكان هناك كوبان من الشاي ما زالا يبعثان البخار.
رأت هيلي الشاي، فسألها ديلان.
“ما رأيك؟“
أمال رأسه وابتسم.
“هل فعلت شيئًا لطيفًا؟“
“هاه؟“
رمشت هيلي كأنها لا تفهم ما يقول.
“آه، تقصد تصرفًا لطيفًا.”
تذكّرت لاحقًا، فعرفت قصده. عندها غطى ديلان وجهه بيده.
“……يا له من إحراج.”
“ما المضحك في الأمر؟“
لم تقل له ‘أحبك‘ على طريقة بلوتاروس مثل بعض الناس، فما المزعج؟
“أشعر بالإحراج لأنني أتصرف وكأنني أطلب الثناء لمجرد أنني فعلت شيئًا بسيطًا.”
ليس طفلًا صغيرًا يريد مدحًا لأنه أنجز واجبه.
تمتم بذلك، فتأملته هيلي.
إحضار الشاي، وتغطيتها بالبطانية.
إن دققنا، فهذه لم تكن واجبات عليه. بل كانت لطفًا منه، لا أكثر.
“إذا تصرفتُ بلطف، هل ستُعجبين بي؟ … لا، لستُ أسأل لأنني أنوي التصرف بلطف، فقط أتساءل من باب الفضول.”
“رغم ذلك، الشعور جيد. أن يُقال لي إنني لطيف.
رغم أنها لم تكن موجهة لي مباشرة.”
‘يريد أن يُحَبّ ويُرى جميلاً، أليس كذلك؟‘
كان واضحًا أن ديلان يتوق إلى أن يُنظر إليه بعين المحبة والجمال.
هذا أمر لا شك فيه.
ولكن، ما لم تفهمه تمامًا هو السبب الكامن وراء هذا التوق
ومع ذلك، فطالما لا مفر من نيل المشاعر، فالحب خيرٌ من الكراهية.
إذ إنه حين تُتبادل العواطف بين البشر، فليس من شك أن الطيب منها أولى من الخبيث
‘لكن كيف؟‘
لم تكن هيلي تعرف كيف تُظهر له هذا الحب، لذا سألت مباشرة.
“ما الذي تريده إذًا؟“
“في المعرض،“
أبعد بصره قليلًا، ثم عاد لينظر إليها.
“عندما لامستِ شعري، شعرت بشيء جميل…”
أمسك بأطراف أصابعها الموضوعة فوق الكتاب.
“هل يمكنكِ أن تمسحي على رأسي؟“
سألها وهو يراقب ردة فعلها.
“على رأسك؟“
“أجل.”
ليس بالأمر الصعب.
مدّت يدها ببطء، ومسحت على رأسه.
تسللت خصلات شعره السوداء بين أصابعها البيضاء.
ارتعشت عيناه مجددًا.
أحسّ وكأنه يتلقى حنانًا حقيقيًا.
وكان شعورًا رائعًا.
عندما توقفت يدها، رفع رأسه.
لكنها مسحت على شعره مرة أخرى.
فسألها مذهولًا.
“لماذا مرتين؟“
هل وجدتِ نبتة النفل ذات الأوراق الأربع اليوم؟
“لأنك أريتني الرسمة أيضًا.”
“آه.”
“لا تكن محرجًا من أشياء كهذه في المستقبل.”
“سأحاول أن أكون أكثر جرأة.”
ضحكا معًا وهما يتبادلان النظرات.
في تلك الليلة، قرأت هيلي كتابًا وهي تحتسي الشاي، بينما أكمل ديلان عمله.
لحسن الحظ، استطاعت هيلي أن تبقى يقظة وتركّز في القراءة.
لكن ديلان لم يستطع التركيز إطلاقًا،
لأن عينيه بقيتا معلقتين بمن تجلس أمامه.
كان قلبه ينبض أسرع من يده.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 30"