استمتعوا
عندما أصبح صوت تنفّسها منتظمًا،
وهدأت كتفاها اللتان كانتا تهتزّان، كان ذلك هو الوقت.
‘آه.’
حينها فقط، خطر ببال هيلي وجود ديلان الذي كانت قد نسيته تمامًا.
استدارت ببطء وقد شعرت بالإحراج لأنها أظهرت جانبًا ضعيفًا منها. والتقت عيناها بعيني ديلان. ثم خرج صوت متشقّق من شفتيها التي ابتسمت ابتسامة خفيفة بخجل.
“شكرًا لك. بفضلك، أشعر براحة أكبر.”
“……قلت لكِ، أنا فعلت هذا ليشاهده شعب بلوتاروس فقط.”
ربما بسبب الإطراء المباشر، تململ قليلاً وغمغم بكلمات خجولة لا تشبهه.
عينا هيلي ضاقتا وهي تحدّق به، فقد كان هناك شيء عالق في شعر ديلان الأسود.
“جلالتك، هل يمكن أن تنحني قليلًا ناحيتي……؟“
“هم؟“
سؤاله لم يكن له معنى، فقد تحرّك جسده قبل أن يسمع الجواب. ودون أن يعرف السبب أو يشعر بالحاجة لمعرفته، انحنى جسده كما طلبت منه هيلي.
مدّت يدها ببطء نحو شعره، فأغمض ديلان عينيه لا إراديًا. وعندما تحرّكت يدها فوق رأسه كما لو كانت تمسّد شعره، ارتجفت أهدابه برقة. فتح عينيه بهدوء وتمتم بصوتٍ مضطرب.
“أنا لم أقم بأي تصرّف جميل بعد……”
“؟“
أمالت هيلي رأسها متسائلة عن معنى ما قاله.
“كان هناك شيء عالق في شعرك.”
ولوّحت بيدها لتريه.
وعند النظر، تبيّن أن خيطًا أبيض كان عالقًا في طرف إصبعها.
“هاه.”
انحنى ديلان ضاحكًا.
“يبدو أنني فقدت عقلي حقًا.”
نظرت إليه هيلي بوجه جاد.
“لا تبدو كذلك…… لكن، لا يمكننا الحكم من المظاهر فقط. عليك أن ترى طبيب البلاط. كما تعلم، الأمور النفسية لا تُعالج بالطاقة المقدّسة.”
“سأفعل.”
أومأ برأسه متقبّلًا نصيحتها، ثم رسم ابتسامة ساحرة.
يا لها من غرابة.
أن يشعر بهذه السعادة، فقط من مجرّد لمسة خفيفة.
والأغرب، أن هيلي هذه المرة هي التي بادرت بمد يدها نحوه.
بالطبع، تركته هيلي وتوجّهت نحو اللوحة التالية. وبينما كان يحاول ترتيب أفكاره، تبعها ديلان وهو يدندن لنفسه بصوت خافت.
***
بينما كان ديلان يتبع هيلي باستمرار، متفحّصًا اللوحات، قال.
“لم أكن أعلم أن كاريل رسم هذا العدد من اللوحات.”
“هل هذه هي المرة الأولى التي تراها فيها يا جلالتك؟“
“أجل، كنت فقط أسمع باسمه، لكني لم أرَ أعماله من قبل.”
أومأت هيلي برأسها وهي تحاول أن تُظهر اهتمامًا وهي تتفقد اللوحات. على عكس فريكسوس، لم تكن تهتم كثيرًا بالرسم،
لذا كانت معلوماتها محدودة.
“هناك لوحة عن العناكب في الجهة الأخرى، إنها مذهلة حقًا.”
اقترب ديلان منها أكثر، وهو يتحدث بحماس.
استدارت هيلي لتواجهه.
“الآن أفهم لماذا أحبّه ابن الماركيز ترافيا…… ما بك؟ لماذا تنظر إلي هكذا؟“
توقف ديلان فجأة عندما قابلت عيناه عينيها الزرقاوين.
مالت هيلي برأسها وسألت.
“ألم تقل إنك تشاهد هذه اللوحات لأول مرة اليوم؟“
“……”
أغلق ديلان فمه.
فتحه محاولًا التفسير، لكنه لم يجد الكلمات المناسبة.
“……أهمم، الأشياء الجيدة يجب أن تُشاهد مرارًا، أليس كذلك؟“
خرجت تلك الكلمات بعد تردّد طويل،
وكانت ضعيفة لدرجة يصعب حتى اعتبارها عذرًا.
ضحكت هيلي بصوت مرتفع، لدرجة أنها بدأت تلهث.
رغم أن الحفاظ على الهدوء يُعدّ من آداب المعارض، إلا أن الأمر لم يهم، لأن المكان لم يكن فيه سواهما، باستثناء الحراس عند المدخل.
ضحكت هيلي طويلًا.
أما ديلان، فقد نظر إليها مطولًا،
ناسياً أن يُنبّهها بأن تتوقف عن الضحك من شدة الإحراج.
حدّق بها أطول مما حدّق بأي لوحة، وبتركيزٍ أشد.
فقد خشي أن تختفي تلك الابتسامة بسرعة،
فأراد أن يحفظها في ذاكرته.
‘أنا مجنون فعلًا.’
أفاق متأخرًا وهو يهز رأسه ساخرًا من نفسه.
‘قلت إنني لم أرَ لوحات كاريل من قبل؟ يا لهذا الهراء……’
حين كان في العاصمة، رأى ديلان الكثير من لوحات كاريل حتى سئم منها.
فكاريل لاكريني كان فنانًا تدعمه ديانا.
لكنه تظاهر اليوم وكأنه يشاهدها لأول مرة.
بل وادّعى أنه يستمتع بها وكأنه يراها بصدق،
ما جعله يسخر من نفسه.
لكنه علم، لو أنه قال الحقيقة، لما استطاعت هيلي أن تستمتع بالمعرض براحة.
‘كانت ستشعر بالتوتر ولم تكن لتستمتع باللوحات.’
ولم يكن من اللائق أن يطلب منها أن تذهب وحدها.
وقد بدا حديثها عن كاريل وفريكسوس هشًّا للغاية،
فلم يُرِد تركها وحدها.
حتى قراره بعدم إرسال أي حارس معها، ومرافقته الشخصية لها إلى المعرض، كان نابعًا من مزيج بين مراعاة وشيء من الغرور، كونه الشخص الوحيد الذي يعرف عن علاقة هيلي بكاريل وفريكسوس.
‘……غريب.’
رأسه أصبح مشوشًا.
تلك الابتسامة التي اختفت سريعًا، تركت أثرًا كألوان الزيت على قلبه، وظلّت صورة وجه هيلي الضاحك تحلّق في رأسه كالفراشة.
ومع كل دقّة في قلبه، كان يشد قبضته ويحررها تكرارًا.
***
بعد انتهاء المعرض، وبينما كانت هيلي وديلان يصعدان العربة معًا بارتياح، فرك ديلان يديه بلطف أمام الباب قبل أن يمدها.
رمشت هيلي بدهشة وهي تراه، فسارع بتفسير تصرّفه.
“يدي باردة. إن أمسكتُ بيد أحد فجأة،
يتفاجؤون. كنت أحاول تدفئتها قليلًا.”
لكن رغم تلك المحاولة اللطيفة، بقيت يده باردة كالجليد.
جهده لم يجدِ نفعًا.
أمسكت هيلي برسغه ثم قبضت على يده كما لو كانت تتحقق من دفئه، وابتسمت. ثم قالت مقولة سمعتها من قبل.
“يقولون إن من يده باردة، قلبه دافئ.
ويبدو أن جلالتك تُجسّد هذه المقولة حرفيًا.”
مجرد رؤيته يحاول تدفئة يده من أجل من سيصافحها،
كان كافيًا ليدل على دفء قلبه. إضافة إلى أنه جلبها لهذا المعرض.
“……”
تجمّدت ملامح ديلان بعد سماع كلامها.
“جلالتك؟“
أشاح بوجهه بعيدًا عن عينيها، ثم رفع يده التي لم تمسك بها ليغطي بها فمه ويتمتم.
“……هذه العبارة خطيرة جدًا في بلوتاروس. لا ينبغي قولها بهذه البساطة.”
“ما معناها……؟“
هل قلت شيئًا خاطئًا؟ ما معناها في بلوتاروس؟
وقد احمرّت أذناه، مما يعني أنه انزعج بالفعل.
هيلي بدت مذهولة من ردّة فعله غير المتوقعة.
“هل أنتِ فضولية؟“
“……نعم.”
نظر ديلان إلى وجهها، وشيئًا فشيئًا، بدأت ملامحه ترتخي.
ثم قال.
“لن أخبرك.”
وبتعبير مرح وابتسامة ساحرة، أجاب كما لو أنه يضع قناعًا.
بالطبع، بدت هيلي مذهولة تمامًا.
“ماذا؟ لا بد أن تخبرني بمعناه كي أقرر ما إذا كنت سأستعمله أم لا!”
“لا أريد. لن أخبرك. إنها عبارة خطيرة، لذا أنصحكِ ألا تقوليها لأي أحد.”
……عبارة خطيرة؟
فكّرت هيلي في معناها، وخطر ببالها احتمال غريب.
“هل هي نوع من اللعنات؟“
“أمم، لو أردنا تصنيفها، فهي نوع من اللعنات، نعم.”
قال ديلان هذا وهو يبتسم لها.
لكن لا يبدو منطقياً أن يبدو بهذا السرور بعد أن سمع لعنة في وجهه.
‘لا، كيف تكون “من يده باردة قلبه دافئ” لعنة؟‘
بما أنه يرفض إخبارها بالمعنى، فلا بد أنه يمزح. قررت أن تسأل شخصًا آخر عن معناها.
***
ذهبت هيلي إلى روز.
أرادت أن تسأل بيل عند وصولها، لكن ديلان لوّح برأسه رافضًا، ورفع إصبعه السبّابة إلى شفتيه مشيرًا لها أن تلتزم الصمت.
‘يعني بما أنه هو من يدفع راتبها، فهي ستطيعه؟‘
لا أحد أسوأ منه.
لذا لم يكن أمامها خيار سوى أن تذهب إلى غرفة روز،
وسألتها عن معنى عبارة “من يده باردة، قلبه دافئ” في بلوتاروس.
“هل قلتِ هذه العبارة لأخي؟“
“نعم، لكنه لم يخبرني بمعناها.
قال إنها خطيرة ولا يجوز قولها، وأظن أنه كان يمزح.”
رمشت روز بدهشة ثم انفجرت ضاحكة.
بما أنها تضحك هكذا، فلا بد أن موضوع اللعنة كان كذبة.
بعد أن ضحكت طويلًا، نهضت من مكانها وسحبت كتابًا من الرف.
“اقرئي هذا! إنها حكاية مشهورة جدًا في بلوتاروس.”
“فرينا“
ناولتها كتابًا يحمل هذا الاسم، وكان كتابًا مصوّرًا للأطفال.
انتقلت روز لتجلس بجانبها، وكأنها تنوي قراءة القصة معها،
وبدأت تدندن بهدوء وهي تهز قدميها.
في ظل شكوكها تجاه ديلان، بدأت هيلي تقلّب صفحات الكتاب.
“في أقصى الشمال، على جبل لوغريت،
كانت هناك جنية تُدعى ‘فرينا‘، وُلدت بقلب من الثلج.
ولأنها وُلدت بقلب ثلجي وكان جسدها كله باردًا كالثلج،
فقد كانت دائمًا وحيدة.
الناس كانوا يخشون فرينا المتجمّدة، ولم تستطع الاندماج معهم.”
‘……’
يبدو أن هذه قصة تقضي على آمال كل من يعاني من برودة الأطراف.
“لم تغادر فرينا الجبل. وبعد مرور عقود طويلة،
جاء يوم ضاع فيه فتى صغير في الجبل الشتوي،
وطرق باب منزل فرينا.
“……أرجوكِ، ساعديني.”
كان على وشك أن يموت متجمّدًا،
لكنه تمكن من الوصول إلى منزلها.
فقد الفتى وعيه عند الباب، فأنقذته فرينا.
وعندما ذاب الثلج، شكرها الفتى ونزل إلى الوادي لأنه كان يحمل أعشابًا لجدّه المريض.
“شكرًا لكِ. سأعود ومعي شيء لذيذ!”
“افعل ما شئت.”
لم تصدّقه فرينا، فقد وعدها الكثيرون من قبل بأن يعودوا،
ولم يفِ أحد بوعده.
لكن بعد أيام قليلة،
طَرق!
عاد الفتى إلى الجنية على غير ما توقعت.
يحمل في يديه سلّة كبيرة من الفراولة.
وظلّ يعود إليها بعد ذلك باستمرار.
فسألت فرينا وهي تنظر إليه.
“ألا تخاف مني؟“
“لا أخاف.”
“ألا ترتعش عندما تلمسني؟“
“قالوا إن من يده باردة، قلبه دافئ. لهذا، لست خائفًا منكِ.”
وهكذا، أصبح الفتى والجنية صديقين.”
كبر الفتى، وقضى مع الجنية أيامًا جميلة،
حتى جاء اليوم الذي نشب بينهما خلاف كبير.
الفتى أراد أن يُعرّف فرينا على أهل قريته،
لكنها لم تكن ترغب في لقاء أحد. وتجادلا بشدّة.
“غضب الفتى وتوقف عن زيارة فرينا، ومضت أسابيع.
وفي شتاء آخر، قررت فرينا أن تبحث عن الفتى، فنزلت من الجبل، وتوقفت عندما سمعت صوتًا غريبًا أسفل الجرف.
كان الفتى الذي كانت تنتظره هناك.
أثناء صعوده للقاء فرينا،
تعثّر وسقط من الجرف وكان يحتضر متجمّدًا.
اقتربت منه فرينا، وأمسك الفتى بيد الجنية وهو يفتح عينيه ببطء.
“أنا آسف فرينا. كنت مخطئًا. قلت كلامًا سيئًا وأعتذر.”
“لابأس. وأنا أيضًا آسفة.”
“……أحضنيني.”
عانقته فرينا، ووضع خده على كتفها.
“أنتِ دافئة……”
وكانت تلك كلماته الأخيرة قبل أن يتوقّف تنفّسه.
فرينا، غارقة في الحزن، فكّرت في تجميد بلوتاروس كلها.
لكنها لم تفعل.
لأن الزهور التي كان يحبها الفتى ستزهر قريبًا. وإذا انتظرت قليلًا، سيأتي صيفه المفضل، وسترى أوراق الخريف الحمراء التي كان يستخدمها كعلامات للكتب.
وقريبًا، سيأتي الشتاء الذي التقيا فيه لأول مرة.
وهكذا، قرّرت فرينا أن تحب العالم الذي أحبّه الفتى.”
‘……أي نوع من القصص هذه؟‘
أغلقت هيلي الكتاب.
أعيدوا الفتى للحياة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 29"