استمتعوا
عندما سُمِع صوت تنفّسٍ أشبه بالبكاء والنشيج، شعرت روز والفارسات الذين يشاركون هيلي الغرفة بأن ثمة أمرًا غير طبيعي.
“جلالتك، هل أنتِ بخير؟“
“سيدة هيلي؟“
نهضت الفارسات من أماكنهم وتوجهوا نحو جانب السرير حيث كانت هيلي مستلقية.
“جلالتك!”
“ما الذي…؟“
“سأذهب وأُخبر صاحب السمو الأرشيدوق بما حدث.”
“سيدة هيلي، افتحي عينيك. أرجوكِ، سيدة هيلي!”
عندما نقرت روز على كتف هيلي لتحاول إيقاظها، فتحت هيلي عينيها.
أخذت هيلي تتنفس بصعوبة، كسمكة انتُزعت لتوها من الماء.
دخل رجل إلى الغرفة، فالتفتت أنظار الفارسات وروز نحوه للحظة.
“جلالتك…”
انحنى ديلان نحو هيلي وتفقد حالتها وهو يسألها.
“هل أنتِ بخير؟“
“…في الحقيقة، كنت أعلم. أعلم أن لا مفر من النبوءة.
كل الكتب وكل من حولي كانوا يجمعون على هذا.”
بدأت هيلي تتحدث بعينين غائمتين.
لم تجب على سؤال ديلان عمّا إذا كانت بخير.
“…”
ساد الصمت. وأصغى الجميع لكلمات هيلي التي بدت كأنها اعتراف في كنف الكاهن.
على الأقل في هذه اللحظة، كل من كان في الغرفة شابه كهنة المعبد.
وتابعت هيلي بصوت مرتجف.
“لكنني فكرت أنه ربما، ربما لو حاولت، قد أستطيع الهروب منها… حاولت أن أقطع عليه الطريق كي لا يصل إلى هناك، لكن لم يكن بالإمكان تجنّبها.”
كثيرون حاولوا تفادي النبوءات، لكن مصيرهم كان دائمًا يتحقق بطريقة أو بأخرى.
“كان عليّ أن أستسلم مبكرًا وأدعه يذهب…”
قبضت هيلي بقبضة مشدودة.
اقترب أحدهم من وجهها ممسكًا بكيس ورقي، وحين بدأت تتنفس من خلاله، هدأت أنفاسها بعض الشيء. ثم بدا أنها أمسكت بكتف أحدهم بشدّة دون وعي.
‘كتف مَن هذا؟‘
آه، صحيح. إنه ديلان. كان كتف ديلان.
حين أدركت هيلي متأخرةً أنها قد تكون آلمته، خفّفت من قبضتها. لكنه أمسك بيدها وأعاد وضعها على كتفه.
“لا بأس، يمكنكِ الإمساك بي.”
لكن لسوء الحظ، وما إن خفف قبضته،
حتى سقطت يد هيلي عن كتفه وارتطمت بالأرض بهدوء.
***
فتحت هيلي عينيها. لم تكن في النزل الذي نامت فيه مع روز وثلاثة من الفارسات، بل في غرفتها الخاصة داخل قصر الأرشيدوق.
‘لماذا أنا هنا؟‘
لكنها لم تبقَ مشوشةً طويلًا، إذ دخلت خادمة وأخبرتها بما حدث. بدأت ذكريات الليلة السابقة تتضح لها.
‘لا بد أنني كنت مجنونة.’
رغم شعورها بالارتباك، قررت أن تأكل. لا يمكنها فعل أي شيء إن لم تأكل أولًا. ثم طلبت من الخادمة أن تتركها وحدها، فغادرت.
والأغرب من ذلك أن أحدًا لم يأتِ لزيارتها بعدها.
يبدو أن الخادمة بيل قد أوصلت الرسالة إلى الجميع.
هذا الهدوء الذي لم تعهده منذ زمن، جعل هيلي تشعر بشيء غريب.
كانت قد تمنّت يومًا أن يدوم هذا الهدوء إلى الأبد.
لكن الغريب أن هذا الشعور لم يعد كما كان.
‘حتى الجبال تتغير خلال عشرة أعوام،
فبالطبع أنا أيضًا قد تغيّرت.’
وبينما كانت تحدّق بشرود في ورق الحائط،
لاحظت ورقةً مدسوسة عند حافة الباب.
‘منذ متى كانت هناك؟‘
لم تكن موجودة قبل قليل.
نهضت هيلي عن السرير، وقد استثقل جسدها بعد الجلوس طويلًا.
شعرت وكأن أحد جانبي جسدها قد انضغط ليُصبح غير متساوٍ.
جلست القرفصاء عند الباب والتقطت الورقة.
كان على ظهرها رسالة قصيرة.
[روز هنا. هل أنتِ بخير؟]
‘الأميرة الثانية؟‘
لا تدري متى وُضعت الرسالة،
لكن… هل من الممكن أنها لا تزال خلف الباب؟
بدلًا من أن تفتح الباب، قررت هيلي أن تطرقه من الداخل.
لا لسبب خاص، فقط شعرت أن الفكرة ممتعة.
أن يطرق مَن في الداخل الباب أولًا…
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة.
نوك نوك—
ما إن طرقت هيلي الباب من الداخل حتى شعرت بحركة مفاجئة بالخارج.
“سيدة هيلي؟“
يبدو أن البطلة، روز، كانت لا تزال تنتظر خلف الباب.
وما إن تأكدت من وجودها، فتحت هيلي الباب.
“منذ متى وأنتِ هنا؟“
“ليس منذ وقت طويل.”
وبدعوة منها، دخلت روز إلى الغرفة وجلست على الأريكة، تتفحّص هيلي بنظرات قلقة.
“هل أنت بخير؟“
“أفضل بكثير من البارحة.”
“يا لها من راحة…”
تلقت هيلي هذه النظرات من فتاة صغيرة،
مما جعلها تدرك أن حالتها بالأمس كانت بائسة حقًا.
فغطّت وجهها بكفها.
عندها وضعت روز علبة صغيرة كانت تخفيها خلف ظهرها على الطاولة.
“هذه… هدية.”
في داخلها، كان هناك صائد أحلام مزين بريش أزرق.
نُسج داخل الدائرة شبكة دقيقة، وعلّقت في مركزها وفي أسفل الريش حجارة شفافة تلمع عند ملامسة ضوء الشمس.
“يُقال إن تعليقه قرب النافذة يمنع الكوابيس.”
فالنوم يمر عبر الشبكة، فيُحجز السيئ ويُسمح فقط بالأحلام الجميلة. هذه اللفتة كانت عذبة للغاية، حتى أن هيلي أمالت رأسها وضحكت بهدوء.
“شكرًا لكِ. بفضلك سأستطيع أن أنام بطمأنينة.”
لكن على عكس هيلي التي بدا عليها الارتياح،
جلست روز متوترة تُحرّك أصابعها.
ثم نادت بصوت مرتجف.
“…أتعلمين، سيدة هيلي.”
صمتٌ طويل تبِع كلماتها.
تردّدت روز أكثر من المرة التي طلبت فيها من هيلي مرافقتها إلى الجبل.
“تحدثي، جلالتك.”
“هل النبوءة… لا يمكن تغييرها إطلاقًا؟ هل يتحقق المصير مهما حصل؟“
اهتزّت عيناها الذهبيتان مثل شعلة على وشك أن تنطفئ.
“أنا آسفة، أعلم أنك بحاجة للراحة، لكن لم أستطع منع نفسي من السؤال.”
“…لقد نزلت نبوءة على جلالتك أيضًا، أليس كذلك؟“
‘إذا كان أول مولود بينك وبين تالوفي ذكرًا، فسيكون بطلًا يرفع مجدك.’
كانت تلك نبوءة روز.
لمجرد التفكير فيها، شعرت هيلي أن صوت الحاكم يتردد في رأسها. أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما.
“إذًا، لا يمكنني أن أكون بطلة؟“
سألت روز.
بلهجة يائسة.
“في الجبل البارحة، كنت أرجو شيئًا واحدًا فقط… أن يتغير مصيري.”
…إذًا هذا ما كنتِ تدعين من أجله.
هيلي تعرف هذا الشعور.
تعرف ألم الرغبة في الهروب من النبوءة أكثر من أي أحد.
فقد كانت هي أيضًا يائسة عندما سمعت بمصير فريكسوس.
نظرت هيلي إلى روز.
كانت روز تضغط على رقبتها بأصابعها الصغيرة، وسعلت قليلًا كأنها تتألم.
“فإن لم يتغير مستقبلي رغم كل هذا،
فلن يكون هناك سبب للاستمرار في الدعاء…!”
ارتفع صوتها شيئًا فشيئًا،
إلى أن بدأت تبكي بصوتٍ عالٍ بعد أن نفد منها الصبر.
كانت دائمًا قوية، لكنها انهارت أمام كلمة من الحاكم.
كم هو أمر قاسٍ.
أرادت هيلي أن تكذب عليها بكلماتٍ جميلة.
أن تقول: يمكن تفادي ذلك.
أن تقول: مصيرك بيدك، لا بيد أحد.
لكنها تعلم أيضًا أن الحقيقة ليست كذلك.
المصير لا مفر منه.
ومع ذلك، كانت هيلي من النادرين الذين أفلتوا من الموت في سن الحادية والعشرين.
لكنها لا تستطيع الجزم أن هذا ينطبق على الجميع.
فربما كان السبب الوحيد لنجاتها هو تعرضها لضوء خاص تحت سرير فريكسوس.
لذا، لا يمكنها أن تعد أحدًا بإمكانية الهروب من المصير دون دليل.
ستحاول إنقاذ ديلان أولًا، وإن نجحت، فسيكون لديها مزيد من اليقين.
لذلك، الآن…
‘فلنبحث عن ثغرة في النبوءة.’
ليست كل النبوءات محكمة.
إن وجدت ثغرة صغيرة يمكن تأويلها بشكل مختلف،
فستكون تلك المدخل.
بدأت هيلي تردد النبوءة مرارًا في ذهنها.
تبحث عن منفذ للهروب.
‘وجدتُها.’
وبصوت ناعم، قالت.
“لماذا تعتقدين أنكِ لا تستطيعين أن تصبحي بطلة؟“
“لأن النبوءة قالت إن أول مولود إذا كان ذكرًا، فسيصبح بطلًا…”
أجابت روز، مترددة.
“لكن الحاكم لم تقل إن الفتاة المولودة من الإمبراطور والتالوفي لا يمكن أن تصبح بطلة، أليس كذلك؟“
“…ماذا؟“
رفعت روز رأسها فجأة. تابعت هيلي شرحها.
“لو أن أول مولود كان صبيًا، لكان مصيره أن يصبح بطلاً فقط،
لأن الحاكم رسم له الطريق بوضوح.”
الصبي لا خيار له. سيكون بطلًا، ولا غير.
“لكن إن كانت فتاة، فلم يتم تحديد طريقها.”
وهذا يعني أنكِ مجهولة المصير.
“وهذا يعني أن جلالتكِ يمكن أن تسيري في أي طريق، وتصبحي أي شيء.”
إن أردتِ أن تصبحي بطلة، يمكنكِ ذلك.
وإن أردتِ غير ذلك، فلكِ حرية الاختيار.
“التفسير ببساطة: الاحتمالات لا نهائية. ولهذا، من الآن فصاعدًا، ما تشعرين به وكيف تتصرفين هو ما سيُحدد الطريق.”
“…”
“أنا أُجيد تفسير النبوءات، صدقيني.”
لم يكن هناك مثل هذا الكلام في الرواية الأصلية.
فقد كانت روز تتبع قدرها كما هو.
ولأجل منحها ذرة أمل، تظاهرت هيلي بالثقة ورفعت كتفيها.
‘أجيد التفسير؟ هراء.’
شخص لم يعرف حتى أن الجبل ما هو إلا درج، يتحدث وكأنه عالم.
“أنا أستطيع أن أكون أي شيء.
لذا، ما أشعر به وما أفعله هو الأهم.”
“…أصدقكِ. سأصدقكِ بكل جوارحي.”
كيف لا أصدق هذا الكلام؟
راحت روز تكرّر كلمات هيلي في ذهنها،
حتى ابتلعتها بكل إيمان، ثم أومأت برأسها بجديّة.
حين رأت هيلي ملامح روز وقد استعادت بعضًا من قوتها، ارتخت قليلاً وسألتها.
“هل جلالتكِ تريدين أن تصبحي بطلة لترفعي مجد والدكِ؟“
“لا.”
أجابت روز بحزم، كأن كلماتها سقطت في حفرة عميقة.
“إذن، لما تريدين أن تصبحي بطلة؟“
“لأتمكن من الولاء للإمبراطور التالي، لا ذلك الـ…”
“…؟“
ذلك الـ…؟
فتحت هيلي فمها ورفّت بعينيها، متفاجئة من التعبير.
“آه، زلّة لسان.”
غطّت روز فمها خجلاً، لكن شفتيها لم تستطيعا كتم الابتسامة. كانت سعيدة جدًا بالمستقبل الجديد الذي رُسم لها، فلم تستطع إخفاء فرحتها.
“هلّا أبقيتِ ما قلته سرًا؟ أرجوكِ؟“
“سأفعل.”
طرف ابتسامتها كان يشبه ديانا.
الأميرة الثانية روز تُحب ديانا،
وتريد أن تُكرّس ولاءها لها حين تصبح إمبراطورة.
‘لكنني لا أظن أن مستقبلها كان هكذا في الرواية.’
عندما كبُرت روز، لم تكن ترفع مجد ديانا، بل أصبحت بطلة لفضائح كثيرة أزعجتها وجلبت لها المتاعب.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 26"