استمتعوا
“في المرة الماضية، قلتِ إن إيدن هو من قتل فريكسوس، أليس كذلك؟“
أومأت برأسها مستذكره حديثهما أمام قبر فريكزوس.
“ربما كنتُ أنا من قتله في الحقيقة.”
“لماذا تظنين ذلك؟“
في هذه اللحظة،
لم يكن هناك أحد يعرف أن هيلي تستطيع سماع صوت الحاكم.
السبب وراء إخفائها لهذه الحقيقة هو أنها خشيت أن يتسبب ذلك في مضايقات لها داخل المعبد.
لكن بعد أن تم نفيها، لم يكن هناك سبب يدفعها لإخفاء الأمر عن ديلان، لذا بدأت تتحدث بسهولة.
“جاءني اوراكل. لقد سمعتُ بنفسي مصير فريكسوس.”
سماع صوت الحاكم مباشرة؟ ارتفع حاجبا ديلان بدهشة.
“هل كنتِ تحت تأثير غاز ما أو شيء مشابه؟“
“لا. أنا من أولئك الذين انفتحت آذانهم لسماعه.”
ثم قامت هيلي بإزاحة شعرها، كاشفةً عن أذنيها المخفية تحته.
“…هاه!”
ضحك ديلان ضحكة قصيرة، بعدما أدرك حقيقة جديدة.
‘لا بد أن المعبد يعضّ أصابعه ندماً الآن.’
لقد طُردت الكاهنة التي تمتلك أكبر قوة روحية من المعبد بسبب اتهامها بسلوك فاحش، وتبيّن في النهاية أنها كانت تستطيع سماع صوت الحاكم أيضاً.
وعدم قدرتهم على تزويج صاحبة الوحي، هيلي، بـ ثيسيوس سيظل حسرة تلازمهم مدى الحياة.
فكّر ديلان في كيف كان رجال المعبد يتصرفون بخسة في مسألة اختيار الكهنة، فشعر بشيء من الراحة. لكن سرعان ما جاهد لكتم ابتسامته، حين بدا أن الحديث الجاد سيبدأ.
“إذاً، ماذا قال لكِ الحاكم؟“
حين عجزت هيلي عن نطق الكلمات من شدة الرهبة،
أغمضت عينيها بقوة وارتشفت كأساً من الخمر.
اندهش ديلان من فعلها، فناولها قطعة فاكهة.
تناولتها هيلي بعنف ومضغتها بحدة. كان تصرفها أشبه بمقاتلة.
“قال إن فريكسوس ترافيا سيسقط من جبل يمكن صعوده في خمس وعشرين خطوة ويموت. هذا ما قالته.”
“أنا دفعتُ أخي من على الدرج وقتلته، ثم اكتشفتُ أن إيدن كان مختبئاً-“
“ذلك الجبل… كان سلّماً خشبياً، أليس كذلك؟“
استخرج ديلان الجواب من حديثه مع هيلي. رمشت هيلي بدهشة.
“نعم، كان درجاً يؤدي إلى قبو المبنى الجانبي. كيف عرفتَ هذا بهذه السرعة؟“
وبينما كانت تلوم نفسها وتصفها بالغبية التي لم تستطع تفسير الوحي، لوّح ديلان بيده مرتبكاً.
“أنتِ أخبرتِني سابقاً أن إيدن هو من دفع ابن ترافيا من على الدرج وقتله. أنا لم أفسّر الوحي مباشرة. لذا، هذا لا يعني أنكِ كنتِ غبية أو غير كفؤة.”
“آه…”
استعادت هيلي وعيها بعد أن كانت غارقة في جلد الذات.
ثم شربت كأساً آخر من الخمر وابتسمت بمرارة.
“لم أكن أعلم أن الجبل المقصود في الوحي هو ذلك الدرج،
لذا أبقيتُ فريكسوس محتجزاً في المبنى الجانبي.”
رغم أنها لم تظهر ذلك،
إلا أن فريكسوس كان يرغب دوماً في الخروج.
فمنذ انتشار شائعة إصابته بمرض، لم يُسمح له بالخروج أبداً.
“كان علي أن أتركه يرحل حينها. لم يكن يجب أن أُبقي شخصاً يعرف مصيره محاصَراً في المنزل.”
حين تجاهل تحذيرها وحاول مغادرة القصر،
كان عليها أن تتجاهله وتدعه يرحل.
“لكي يرى لوحة كاريل.”
كان ينبغي أن تتركه يذهب.
كان هذا هو الصواب، لكنها لم تستطع فعل ذلك.
“بسبب أنانيتي، لأنني لم أرغب في البقاء وحدي في المبنى الجانبي، ولأنني لم أفسر الوحي بشكل صحيح… مات فريكسوس.”
ربما لهذا السبب شعرت بأنها قتلت شقيقها.
شدّ ديلان يده الموضوعة على ركبته.
خرج صوته مرتجفاً من بين شفتيه المبتعدتين قليلاً.
“ليس ذنبكِ…”
تجرأ ديلان على مواساتها.
لم يسبق له أن فقد أخاً، لذا لم يكن قادراً على فهم مشاعرها بالكامل، لكنه حاول تقديم كلمات عزاء – مهما كانت غير مكتملة.
“حقاً؟“
لكن كلماته لم تكن كافية بالنسبة لهيلي.
لم يكن ذلك علاجاً للشعور بالعجز الذي أحاط بها.
في تلك اللحظة، كانت تتمنى لو كانت قادرة على فعل شيء.
“الباقي كما قلتُ لك سابقاً. جلستُ مشوشة الذهن،
ثم رأيتُ إيدن مختبئاً وضربته بشمعدان فضي على رأسه.”
كانت لا تزال تشعر بإحساس تلك الضربة في أطراف أصابعها.
“ظننت أنه مات. كنت أعتقد أنني أتحكم في نفسي، لكنني لم أكن كذلك. حين ظننت أنني قتلت إنساناً، شعرتُ بضرورة مغادرة القصر على الفور.”
أو ربما، كما فكّرت هيلي، التعبير الأدق هو أنها أرادت الهروب.
لكنها لم تغير عبارتها، فقد أنهتها بالفعل.
“هربتُ من القصر، وفي طريقي…”
وضعت ذراعيها على الطاولة،
ووضعت ذقنها على كفّيها المتشابكتين.
“صدمتني عربة.”
ثم ابتسمت ابتسامة مشرقة.
“وحين فتحتُ عينيّ، كان شهر مارس قد حلّ… وأدركت أنني أستطيع استخدام القوة الإلهية. بعد أن عثرت على هذا، بدأت في إحداث الفوضى في المعبد، وهناك التقيتُ بجلالتك. وهكذا تنتهي قصتي.”
كرر ديلان كلماتها الأخيرة بصمت في ذهنه.
‘قصتي… انتهت، قالت.’
شعر حقاً أن شيئاً ما قد انتهى بداخلها.
تلاقت عيناه بعينيها، وبعد أن حدّق فيها طويلاً، ابتسم وقال.
“إذن، الجزء الثاني سيبدأ الآن.”
“المعذرة؟“
“أعني، قصتكِ. ما ذكرتِه قبل قليل هو المجلد الأول.
أما المجلد الثاني، فسنبدأ كتابته هنا، في بلوتاروس. ما رأيكِ؟“
ربما كان ذلك أفضل من القول إن قصتها انتهت.
رمشت هيلي بعينيها، واهتزت حدقتاها الزرقاوان قبل أن تهدأا تدريجياً.
“…لا يبدو أمراً سيئاً.”
ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تأخذ نفساً عميقاً.
فمدّ ديلان يده تلقائياً ومسح دموعها عند طرف عينيها.
شعر بطرف إبهامه يبتل، لكنه شعر وكأنه يمرره فوق لهب، لا دموع.
“حسناً، حان الوقت الآن لأروي قصتي.
حتى لو كانت مملة، لا تنامي، اتفقنا؟“
“لا تقلق، لن أنام.”
“كذبة. عيناكِ نصف مغلقتين بالفعل.”
بدأت هيلي ترمش ببطء.
كانت تحاول أن تُبقي عينيها مفتوحتين،
لكنها حثّت ديلان على مواصلة الحديث.
لم تشأ أن تكون الوحيدة التي تفتح صندوق ذكرياتها.
ارتشف ديلان كأساً من النبيذ،
وبدأ الحديث بسهولة أكبر من ذي قبل.
“أنا… تماماً مثلكِ، وُلدتُ كالأخ الأصغر في توأم.
وُلدتُ فجأة، وذات يوم قيل لي إنني ابن أهم رجل في هذا البلد.”
قيل له إنه وُلد بالمصادفة،
لكن طالما أنه وُلد فعلاً، فعليه أن يعيش حياته بأفضل ما يمكن.
كان هناك من قال له هذا، لكنه لم يتذكر من هو.
ضحكت هيلي بصوت مسموع عند سماع ‘وُلدتُ بالمصادفة‘.
ربما خُطط لإنجابهم بعناية من قبل والديهم،
لكن من وجهة نظر الأطفال، لم يكن الأمر كذلك.
هي أيضاً كذلك.
وُلدوا صدفة، ووُضعوا في المهد بفضل الحظ.
“كنتُ بطيئاً في الكلام وضعيف البنية مقارنةً بمن في سني.
كنتُ دائماً ألاحق ديانا.”
كان يلاحق ديانا، ويعيش كما تأمره.
“لكن تبين أن هذا يناسبني.”
ظن الناس أنه حين يكبر ديلان ويقوى، سيتمرد على ديانا.
لكنه لم يفعل. لا حاجة لذلك طالما أنه يعيش وفق ما يراه مناسباً.
“وهكذا أصبحت مساعد ديانا بإرادتي.”
ثم بدأ ديلان يحكي عن كيفية مجيئه إلى بلوتاروس، وثرثر طويلاً.
لكن في لحظة، توقف فجأة.
‘لماذا لا أتذكر؟‘
كان هناك شيء كبير حدث في طفولته، لكنه لم يتذكره.
‘آه، صحيح. قالوا إنني سقطتُ من شجرة.’
قالت ديانا ذلك. أنه كان يلعب معها، فسقط من الشجرة، وغرق في الماء، وأُصيب بحمى، ومنذ ذلك الحين لم يعد يذكر ما حدث ذلك اليوم.
عندها أدرك لماذا كانت هيلي تشرب بهذا الشكل.
الحديث عن الماضي جعله يعود إليه مراراً،
فكان الخمر وسيلته الوحيدة للمواصلة.
ملأ كأسه من جديد، واستأنف الحديث.
وكانت هيلي ترد عليه بنظراتها وتتفاعل معه بلطف.
بدأ جو من الدفء والنعاس يسود بينهما.
شعرت هيلي بالنعاس، ورمشها اصبح أبطأ.
ثم توقفت نظراتها عند النافذة، وتقدّمت بهدوء نحوها.
كان مشيها بخفة وردائها المتطاير يُشبه مشية فراشة.
“جلالتك.”
“همم؟“
كان ديلان يراقبها بشرود، ثم انتبه فجأة.
“ما هذه الأصيصات؟“
أشارت إلى أصيص صغير على حافة النافذة.
رغم أنه لم يكن هناك أي زهور فيه،
إلا أنها اهتمت به كفراشة تنجذب للأزهار.
“آه…”
نهض ديلان من مكانه.
ربما بسبب الخمر، ترنّح قليلاً.
شعر بدوار، فبدلاً من الوقوف بجانبها،
جلس على حافة السرير بجوار النافذة.
“زرعتُ فيها بذور زهرة هيالوس.”
“ومتى زرعتها؟“
رغم مرور وقت طويل، لم يظهر منها شيء بعد.
أجاب ديلان بصوت داكن كسماء الليل.
“أكثر من شهر. بدأتُ أظن أنني زرعتُ بذوراً محمصة.”
في بلوتاروس، لم يكن من الممكن رؤية زهور هيالوس.
كانت نادرة جداً وصعبة الإنبات.
جلست هيلي بجانبه وهي تمسك بالأصيص برفق. ثم سألت.
“هل تحب الزهور؟“
“…أجل.”
أومأ برأسه، خجلاً كما لو أنه كشف سر حبه الأول.
“إذاً، هيلي، لدي طلب صغير…”
“تفضل.”
“هل يمكنكِ… إنبات هذه الزهرة؟“
“…؟“
“أرجوكِ.”
ابتسم ديلان بعينيه كصبي يتوسل، ومال برأسه ببراءة.
“من أول يوم تطلب مني استخدام قوتي الإلهية؟ أنت وقح نوعاً ما.”
قالتها مازحة.
لم يكن استخدام القوة الإلهية في أمر سيئ، مجرد إنبات زهرة.
وقد سبق أن فعلت ذلك في المعبد.
و… كيف لها أن ترفض وهو يطلب بهذا اللطف؟
“حقاً؟“
تذكر ديلان أمراً وقال ممازحاً.
“لكن بالمقابل، أنتِ استخدمتِ قوتكِ الإلهية على حلقكِ ورئتيكِ بعدما دخنتِ. هذا هو التبذير بعينه.”
لم يقلها بسخرية حقيقية، بل كنوع من الدعابة.
عضّ شفتيه ليكتم ضحكته.
أما هيلي، فقد شعرت وكأن وجهها غُمر بماء بارد،
وكأن الخمر بدأ يتبخر.
شهقت بحيرة، ثم سألت بتردد.
“…هل رأيتَ ذلك؟“
“أجل. وديانا كانت معي. عالجتِ نفسكِ بمهارة تامة.”
ضحك ديلان قائلاً إنه رأى كهنة يدخنون من قبل، لكن هذه أول مرة يرى كاهنة تعالج نفسها باستخدام القوة الإلهية.
“هاه-“
ضحكت هيلي بسخرية، كأنها لا تصدق.
“عجيب أنك لم تبلغ المعبد عني.”
لأنها أساءت استخدام مكانتها ككاهنة.
“بالطبع لا. في وقت لا يكفيكِ فيه فعل الأشياء الجميلة، لماذا أزعج نفسي بإيذائك؟“
تأملت هيلي قليلاً، ثم قالت بصوت بارد كالثلج.
“لكنّك لم تفعل.”
“هاه؟“
“الأشياء الجميلة. قلتَ إن الوقت لا يكفي حتى لفعلها، فلماذا لم تفعل شيئاً جميلاً لي؟“
ابتسمت بمكر، وبدا ديلان مرتبكاً من نبرتها الباردة، ولم يعلم إن كانت تمزح أم لا.
“…؟“
“هاها، كنتُ أمزح فقط.”
انفجرت ضاحكة، وظل ديلان يحدق بها كما لو كان مسحوراً.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 23"