استمتعوا
حتى صدور قرار العقوبة، كان على هيلي أن تبقى تحت الإقامة الجبرية في غرفتها الخاصة داخل المعبد.
وبحسب القوانين، كان من المفترض أن يُنتظر ديلان أيضاً نتيجة اجتماع المعبد وهو محتجز في زنزانة منفردة داخله، إلا أن احتجاز أحد أفراد العائلة الإمبراطورية في المعبد أمر لا يمكن السماح به.
لذا، طالب المعبد بأن يقيم ديلان في قصره بالعاصمة حتى صدور قرار الاجتماع.
كان المعبد يكاد يُجن من فكرة طرد هيلي. لم يكونوا يرغبون في ذلك على الإطلاق، بل كانوا يبحثون بكل الطرق عن وسيلة لتجنب هذا المصير.
لكن المشكلة أن عدد من شاهدوا ما حدث في غرفة الصلاة كان كبيراً جداً.
وكانت الشائعات قد انتشرت بالفعل على نطاق واسع.
“لو لم يرَ كل هؤلاء ما حصل، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد…”
غطى البابا جبهته بكفه.
ما فاجأ الجميع هو أن الناس كانوا غاضبين من تصرفات هيلي أكثر مما توقعوا.
رغم أن هناك نبوءة مسبقة، إلا أن العامة استشاطوا غضباً من فكرة أن تقوم القديسة بارتكاب فعل مشين كهذا داخل غرفة الصلاة.
صحيح أن بعض الناس تقدموا بعريضة تطالب بمنح هيلي فرصة ثانية، بحجة أن البشر يخطئون، إلا أن الأغلبية كانت تطالب بطردها فوراً.
فهل كانت تلك العريضة تعبيراً عن تعاطف؟
لا.
بل كانت شكلاً ناعماً من أشكال القمع، مغطاة بستار من الرحمة.
“سنمنحك فرصة ثانية، ولكن عليك أن تعودي لتكوني القديسة المطيعة.”
ومن وجهة نظر هيلي، لم تكن تلك العريضة شيئاً يدعو إلى الامتنان. بل كانت مثيرة للسخرية.
ومع تأخر قرار المعبد، خرج الناس في مظاهرات يطالبون بطرد هيلي.
وأحرق بعضهم صورها في الشوارع.
“امرأة منحطة كهذه لا يمكن أن تتزوج بطلنا،
صاحب السمو الأمير الثاني!”
رأى كثيرون أن زواج هيلي من ديلان، لا من ثيسيوس، هو السبيل لتحقيق السلام في الإمبراطورية.
ورغم أن المظاهرات الغاضبة لم تكن متوقعة، إلا أن مجريات الأمور كانت تسير تماماً وفقاً لما خططت له هيلي وديلان.
فالناس، إلى جانب مطالبتهم بطردها، بدأوا يرون زواجها من ديلان أمراً ضرورياً.
الطريف في الأمر، أن ديلان، شريكها في هذه الفضيحة، لم يُنتقد كثيراً.
المتظاهرون حذفوا ديلان من المعادلة، وجعلوا هيلي وحدها هدفاً لغضبهم.
ولو كان من ارتكب تلك الحماقة في غرفة الصلاة أحد الكهنة الآخرين، لما أثار الأمر كل هذا الغضب.
سبب الحنق كله أن هيلي خرجت عن الصورة المثالية للقديسة التي أرادها الناس.
ولكن هيلي لم تكن من النوع الذي ينهار بسبب كره الناس لها. إن وجدت وقتاً للذعر، كانت لتستخدمه لتناول شطيرة بدلًا من ذلك.
***
وبعد عدة أيام، أعلن المعبد نتائج الاجتماع.
「 يعلن المعبد، بتاريخ 25 مايو عام 682، طرد هيلي ترفبيا من صفوفه. يُمنع على هيلي ترافيا دخول أي معبد في تيلون،
ويُجردها المعبد من جميع حقوقها كقديسة. تُكلّف هيلي ترافيا بالوفاء بمحتوى النبوءة عن طريق الزواج من الارشيدوق هايدل .」
هيلي، التي كانت محبوسة في غرفتها،
تسلمت الورقة التي تحتوي على تفاصيل العقوبة من إيفي.
وظلت تحدق بها طويلاً.
“هممم.”
لم تكن لتخاف، إذ لم يكن هناك في الأصل أي حقوق تهمها كقديسة.
وبما أن زواجها من ديلان أصبح ‘واجباً لتنفيذ النبوءة‘،
فلن يستطيع منزل الماركيز أن يعترض.
في أسفل الصفحة، كُتبت جملة أخرى بحروف صغيرة:
「 يدفع الارشيدوق هايدل، ديلان سول،
للمعبد خمسين مليون قطعه ذهبية.」
بما أنه فرد من العائلة الإمبراطورية، كان من الصعب معاقبته، فقرروا أخذ المال بدلاً من ذلك.
نظرت هيلي مرة أخرى إلى أعلى الصفحة، وبدأت تقرأ العقوبة من البداية.
وفجأة توقفت عيناها عند جملة محددة.
「طرد هيلي ترافيا..」
‘أخيراً!’
أعجبتها هذه الجملة كثيراً.
قرأت الكلمات وكأنها تنقشها في ذاكرتها.
شعرت برغبة في الحصول على نسخة إضافية منها لتعليقها في إطار.
فسألت.
“إيفي، هل تقدرين على جلب لي نسخة اخرى من هذي الورقة؟“
“البابا غاضب جداً، لن يكتب نسخة اخرى. النسخة الأخرى تم إرسالها إلى الأرشيدوق، فحاولي ان تطلبيها منه.”
“آه، فكرة جيدة.”
ديلان لن يحتاجها على الأرجح،
وإن طلبتها منه هيلي فسيعطيها إياها بلا تردد.
توقفت إيفي عن ترتيب أغراض هيلي معها.
“الآن، من سيلعب معي إن لم تكوني هنا؟“
“ادخلي هنا إذًا.”
عندما أشارت هيلي إلى حقيبة الأمتعة، هزّت إيفي رأسها ضاحكة.
“أشعر بإغراء كبير… لكن لا، سأبقى هنا، لدي أشياء يجب أن أفعلها.”
“أي أشياء؟“
بناءً على ما قامت به حتى الآن، من المؤكد أن ما ستفعله لن يكون في مصلحة المعبد.
“لن أخبرك. أنتِ أيضًا لم تخبريني شيئًا عن خطة الطرد.”
“… لم يكن بوسعي–”
“أعرف. كنتُ أقولها فقط، لا أكثر.”
قالت ذلك، ثم ابتسمت وهي تغلق قفل الحقيبة.
طَقّ. دوى صوت إغلاق قفل حقيبة السفر،
ثم ناولت إيفي الحقيبة إلى يد هيلي وقالت.
“مبروك على الطرد، هيلي.”
كان صوتها وكأنها تهنئها بعيد ميلاد.
لقد كان الطرد، الذي يعتبره البعض عارًا يدوم مدى الحياة،
يُحتفل به لأول مرة.
“رغم أن الوقت كان قصيرًا، لكن بفضلكِ استطعت أن أتمالك نفسي وأصمد دون أن أجن. شكرًا لك.”
“إن كنتِ ممتنة، فأرسلي لي رسالة. أنتِ قد لا تتمكنين من وطء أرض المعبد، لكن الرسائل يمكنها ذلك.”
“حسنًا.”
“فقط، لا ترسليها باسمك.”
أومأت هيلي برأسها.
حتى في مكان بائس كهذا، يمكن أن تنشأ روابط ثمينة.
***
وكان أول مكان ينبغي على هيلي التوجه إليه بعد طردها هو القصر الإمبراطوري. كان من المفترض أن تلقي التحية على الإمبراطور، لكنه رفض مقابلتها، فقررت الذهاب مع ديلان لمقابلة الإمبراطورة المعزولة.
وحين وصلتها أخبار وصول عربة ديلان إلى المعبد،
أمسكت بحقيبتها وسارت بخطى بطيئة نحو الخارج.
كان ديلان واقفاً بانحناءة طفيفة أمام العربة،
وما إن رأى هيلي حتى اعتدل.
“سأعتمد عليك خلال هذا العام.”
“وأنا كذلك، أرجو أن تعتمدي علي، قديسة.”
“ليس هكذا.”
هزّت هيلي رأسها، فسألها ديلان.
“ما الأمر؟“
“ليس قديسة، اسمي هيلي. هذا هو اسمي الحقيقي.”
“إذًا، يجب أن أحييك من جديد.”
كانت هيلي تحب اسمها كثيراً.
لكنها منذ دخولها المعبد،
أصبح يُنادَى عليها بـالقديسة أكثر من اسمها.
كان هناك من يناديها باسمها، مثل البابا،
لكنها شعرت بأن هويتها بدأت تختفي شيئاً فشيئاً.
أما الآن…
“سأعتمد عليك خلال هذا العام، هيلي.”
“وأنا كذلك، أتمنى أن نعتمد على بعض.”
شعور وكأنها ولدت من جديد غمر قلبها.
ابتسمت وهي تنظر إلى ديلان، فبادلها الابتسامة.
“ما رأيك؟ اليوم ارتديت نفس القميص الذي كنت أرتديه في تلك الليلة، خصيصًا.”
أشار ديلان إلى قميصه.
وبنظرة متفحصة، أدركت هيلي أنه كان القميص الأبيض الذي ارتداه يوم تلك الليلة التي تنكّرا فيها في قاعة الانتظار.
“……؟“
لم تدرك هيلي مغزى السؤال،
فاكتفت بعد لحظة من التفكير بردّ تقليدي.
“نعم، حسنًا… يبدو أنيقًا عليك.”
“لكنني لست هنا اليوم لأغويك، فلا تسيئي الفهم.”
“انظروا إلى هذا القميص الضيّق الملتصق بجسده! من الواضح أنه جاء لإغرائي!”
يا إلهي… يا له من جنون.
تذكّرت هيلي ما قالته في قاعة الاجتماعات،
واشتعل وجهها خجلًا، فأنزلت عينيها بعيدًا.
“…لننطلق فحسب.”
تجاهلت ديلان وصعدت إلى العربة أولًا.
“هاهاها!”
ارتفعت ضحكة صافية من الخلف،
وصعد ديلان إلى العربة خلفها، وجهه محمرّ من الحرج.
‘ما بال هذا الرجل؟ هو نفسه يخجل من تصرفاته ثم يمازحني بهذا الشكل؟‘
لم تستطع هيلي فهم ديلان إطلاقًا. لكنها فكّرت.
‘ربما لأنه حصل على كاهنة ذات قدرة علاجية،
فمن الطبيعي أن يكون مسرورًا؟‘
نعم… لو كنت مكانه، لفرحت أنا أيضًا.
وبهذه الفكرة، بدأت تتفهم تصرفات ديلان بعض الشيء.
***
“هل كنتِ بخير، أمي؟“
“ألم أقل لك ألا تأتي قبل الظهيرة؟ في هذا الوقت أكون نائمة.”
الإمبراطورة المخلوعة ميديا، التي خُلعت بتهمة عبادة حاكم آخر.
كانت ترتدي نظارة ذات عدسة واحدة، وضربت ظهر ديلان براحَتها.
“آه! ألم تقولي ذلك لديانا فقط؟ أنا لم أسمع شيئًا.”
“أحقًا؟ الآن وقد فكرتُ، أظن أنك لم تكن موجودًا ذاك اليوم.”
“ومع ذلك، لماذا أصبحتِ تستيقظين متأخرة أكثر؟
ألم يكن الوقت سابقًا هو الساعة الحادية عشرة؟“
اشتكى ديلان من تغيير مواعيد الزيارة،
وتظاهر بالألم وهو يربّت على ظهره رغم أنه لم يشعر بشيء.
“أزح نفسك يا ديلان.”
لوّحت ميديا بيدها وكأنها تطرد ذبابة، ووقفت قبالة هيلي.
بشرتها الداكنة وشعرها الأسود جعلا الأميرة الأولى والأمير الأول يبدوان وكأنهما نسختان منها، لولا عيونهم الذهبية الموروثة من الإمبراطور، لكان من السهل تصديق أنها أنجبتهما وحدها.
“قالوا إنكِ القديسة.”
“لم أعد كذلك.”
“صحيح، أنتِ الآن القديسة المطرودة.”
قبضت ميديا على كتف هيلي بيد واحدة.
“……!”
انتشرت طاقة غريبة في جسد هيلي،
مشابهة لقوة المقدسة ولكنها مختلفة.
‘هذه الطاقة…’
ارتعش كتف هيلي، فابتسمت ميديا بزاوية فمها،
بعينين لامعتين تذكّرانها بديانا.
أشارت لهما بالجلوس، فجلس كل من هيلي وديلان.
“يبدو أن هناك تشابهًا ما بين القوة المقدسة والسحر.”
‘سحر…؟‘
إذًا، هل الإمبراطورة تستخدم السحر؟ هل هي ساحرة؟
ولكن… أليست الساحرات مجرد شخصيات من القصص الخيالية؟
في الأجزاء 3 إلى 5 من الرواية، لم يُذكر شيء عن ميديا على وجه الخصوص.
أغمضت هيلي عينيها، وكانت تدرك دون أن تُقال صراحة أن ما يُقال الآن سرّ.
القوة المقدسة والسحر…
كلاهما ينبع من أصل واحد، لكن مسار انتشارهما مختلف.
القوة المقدسة كانت مثل حصان أليف مدرَّب بقي في الإسطبل،
أما السحر فكان طاقة جامحة ترفض الانصياع، تهيم بحرّيتها.
بينما كانت هيلي متفاجئة من أثر السحر، قدّمت ميديا نفسها.
“اسمي ميديا. كنتُ إمبراطورة تيلّون، وساحرة.”
رغم هول ما كشفت عنه،
كان صوتها هادئًا وكأنها تتحدث عن أمر عادي.
‘انتظري لحظة… كنتُ؟‘
ظهرت تجاعيد على جبين هيلي السلس.
“كأنكِ تقولين إنك لم تعودي ساحرة… هل فهمت الأمر بشكل صحيح؟“
هل السحر شيء يمكن خلعه وإعادة تركيبه؟!
ضحكت ميديا بخفة كالمجنونة،
وومضت عيناها الحمراوان كالرمّان.
“في يومٍ ما، اختفى مني كل سحري.
فكيف لي أن أُسمي نفسي ساحرة وأنا بلا سحر؟“
“اختفى؟!”
لم يعد لوجود ديلان بجانبهما أي تأثير،
وتركيز هيلي كله كان مع ميديا.
“نعم، لم أستطع استخدام السحر لأكثر من عشرين عامًا. ما شعرتِ به الآن لم يكن سوى بقايا تلك الطاقة، صدى السحر، وليس السحر ذاته.”
“……هل عرفتِ السبب؟“
“نعم. السبب أنني قمت بـ‘فعل‘ ما. الغريب أن القوة المقدسة لا تتأثر بذلك، فالكهنة الذين فعلوا الشيء نفسه ما زالوا قادرين على استخدام قواهم.”
قامت بالفعل نفسه، لكن القوة المقدسة ظلت مستقرة في أجسادهم، كحصان مروّض لم يغادر إسطبله، أما سحر ميديا فقد رحل، كمهر ثائر هرب إلى البراري.
‘……ما هو ذلك الفعل؟‘
لم تُصرّح ميديا بما فعلته.
لم تكن ترغب بذكره.
‘أنا فضولية… لكن إن كانت القوة المقدسة لا تتأثر به، فلا حاجة لأن أضغط عليها.’
وغالبًا، لم تكن من النوع الذي يجيب حتى لو سألتِه.
قبضت ميديا على يدها ثم بسطتها، في حركة تشبه طقوس الإمساك بقبضة تراب في معابد القداسة، لكنها في نظر هيلي بدت كأنها تحاول استرجاع بقايا سحرها المتبعثرة.
“…….”
راقبها ديلان بصمت، واهتزّت يده قليلًا.
رفع يده الأخرى ليُخفي الاهتزاز، وسرعان ما هدأ.
لكن عينَي هيلي لم تفوّتا تلك اللحظة الوجيزة التي اهتزّت فيها يد ديلان.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 18"