استمتعوا
صعدت هيلّي وديلان إلى المنبر في قاعة الانتظار الخلفية،
واحتجبا خلف منصة الكهنة التي توضع عليها الأسفار المقدسة،
وقد احتضنا بعضهما بعضًا. كانت المنصة عريضة بما يكفي لتخفي جسديهما معًا.
لم يتبقّ سوى القليل حتى يبدأ الناس بالتوافد للصلاة.
“سأوقظك عندما يحين الوقت، لذا يمكنك النوم الآن إن شئتِ.”
“إذًا، أستأذنك لبعض الوقت.”
هيلّي لم ترفض.
لقد كانت مرهقة للغاية، حتى إنها أغمضت عينيها دون أن تدري، وأسندت جسدها إلى كتف ديلان.
وما إن تجمّد جسد ديلان من التوتر، حتى فكرت هيلّي في نفسها.
‘كان عليّ، على الأقل، أن أُظهر ترددًا من باب اللياقة.’
وحين أدركت متأخرة ذلك، تمتمت ببطء.ظ
“سأتناوب معك لاحقًا…”
عندها ابتسم ديلان بخفة، وهيلّي، التي سمعت صوته، غطّت في نومٍ عميق.
***
لم يمض وقت طويل حتى فتحت هيلّي عينيها.
لكنها لم تكن في المعبد، بل واقفة في أحد زوايا قبو قصر الماركيز.
‘ها هو الحلم ذاته مجددًا.’
وكما في كل مرة، كانت ساقاها متحجرتين كأنما تحوّلتا إلى صخر، لا تقويان على الحراك.
إنه عقاب.
عقابٌ وهمي فُرض عليها لأنها لم تستطع إنقاذ شقيقها.
ولذا، فهي تستحق أن تتحمّله.
لكن هذا الحلم مؤلم جدًا، لدرجة جعلتها تفكر أن دحرجة صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه مرارًا وتكرارًا، كما في العذاب الأبدي،
قد تكون أهون من هذا العذاب.
ولمّا تنهدت هيلّي تنهيدة ثقيلة، إيذانًا ببداية العقاب من جديد—
طخ!
صوت خافت لجسدٍ يهوي، ثم ظهر رجل يسقط من على الدرج.
‘…فريكسوس.’
سقط فريكسوس على الأرض برأسه أولًا،
وبدأ جسده يرتعش كدودة دُوست بالأقدام—
واحد.
اثنان.
ثلاثة.
أربعة.
خمسة.
وما لبث أن توقفت حركته.
هيلّي، التي كانت تقف بصمت في زاوية القبو، راقبت اللحظة التي تحوّل فيها فريكسوس من حيّ إلى جثة، دون أن تستطيع فعل شيء.
أرادت أن تجري نحوه حالًا، لكنها لم تستطع تحريك جسدها بسبب ساقيها المتحجرتين. وسرعان ما بدأ خصرها يتحوّل إلى صخر بدوره. ولم يبقَ إلا القليل، حتى يتحوّل جسدها بأكمله إلى حجر.
ثم نزل إيدن من على الدرج، يحمل في يده سلاحًا ثقيلًا، وبدأ يركل جسد فريكسوس بقدمه للتأكد من موته. أرادت أن تصرخ في وجهه. “ما الذي تفعله؟!” لكن صوتها لم يخرج.
وفجأة—
“فريكسوس!”
دوّى صوت يائس، فتجمد وجه إيدن شاحبًا.
ومع اقتراب خطوات متسارعة نحو القبو، بدأ إيدن، الذي كان قبل لحظات مطمئنًا، يتلفّت بسرعة باحثًا عن مكان يختبئ فيه.
‘…’
يا لسخرية القدر، هذا الحلم لا يسمح لهيلّي حتى بأن تُغمض عينيها.
انهمرت دموع على خديها الشاحبين.
ليس حزنًا فحسب، بل لأن عينيها قد أرهقتهما الجراح من البقاء مفتوحتين دون انقطاع.
“فريكسوس… أنت هنا؟“
اقترب إيدن من الزاوية التي تقف فيها هيلّي،
ثم اختبأ في الجهة المقابلة بسرعة.
وبعد لحظات، ظهرت شابة.
كانت هيلّي، في الحادية والعشرين من عمرها، أصغر بسنة من عمرها الحالي، قد انحنت فوق جسد شقيقها الميت وبدأت في البكاء بنحيب مدوٍّ.
حينها، كما الآن—
لم تستطع هيلّي فعل أي شيء.
وفجأة، تجمدت أطراف أصابعها أيضًا.
‘…حتى في أحلامي، لا أستطيع إنقاذك.’
صرخت باسمها مرارًا في داخلها، لكن هيلّي لم تستطع رؤية إيدن، وغادرت القبو كما في المرة الأولى.
ساقاها، ثم خصرها، ثم صدرها—
وأخيرًا، حتى فكها بدأ يتحوّل إلى حجر.
‘التنفس…’
وعندما تصلّب أنفها، بدأت تشعر بالاختناق.
حاولت التملص والسعال، لكن جسدها المتحجّر لم يكن يطاوعها.
وهكذا، في اللحظة التي تحجّر فيها جسدها بالكامل حتى الرأس، فتحت هيلّي عينيها.
“……!”
ويبدو أنها لم تكن تصارع في الحلم فقط، إذ ارتطم جسدها فجأة بمنصة المنبر الذي كانت تتكئ عليه.
ظنّت أن رأسها سيصطدم بالأرض، لكن لم يحدث ذلك.
لأن ديلان كان قد لف رأسها بيده.
“…سموك؟“
“هل أنتِ بخير؟“
أومأت هيلّي برأسها. فقد نجا رأسها من الإصابة بفضل تدخله. لكن ديلان لم يكن يسأل عن سلامة رأسها، بل عن حالتها ككل.
وقبل أن يستطيع التحقق أكثر—
“ماذا… ما الذي يحصل؟!”
انطلقت صرخة من أحدهم.
بسبب حركة هيلّي المفاجئة،
انكشف جسدها وجسد ديلان من خلف المنبر.
ووقعت أعين من كانوا في القاعة على الاثنين.
“ذلك هو…؟“
“القديسة… ومعها الارشيدوق؟!”
تجمّع الناس الذين جاؤوا لصلاة الصباح،
وشاهدوا الاثنان يحتضنان بعضهما، وهما شبه عاريين.
وكان وجه هيلّي الشاحب، الملطخ بأثر الكابوس،
كأنه وجه من ضُبط في لحظة يجب ألّا يُرى فيها أبدًا.
“في قاعة الصلاة… الاثنان؟! يا إلهي!”
رغم أن انكشافهما حدث قبل الموعد المقرر بسبب حركات هيلّي،
إلا أن الأمر لم يكن مشكلة.
فكل شيء كان مخططًا له مسبقًا.
في داخل المعبد، وخارجه، ستندلع عاصفة من الجدل.
وكانت هيلّي واثقة أن تلك العاصفة، ستجلب معها ‘الطرد‘.
***
في مساء اليوم نفسه، عقد المعبد الجلسة الأولى لتقييم الحادث واتخاذ قرار بشأن معاقبة هيلي وديلان.
وقد جلس الاثنان على كرسيين في الزاوية بعد أن تم استدعاؤهما للمثول أمام اللجنة.
بعض الكهنة رمقوا هيلّي بنظرات امتعاض ولاموا تصرفها،
لكنها كانت راضية تمامًا عما يجري.
فما بعد ذلك لا يهم، إذ لم يتبقَّ سوى خطوة واحدة فقط على ‘الطرد‘ الكامل.
أمر رئيس الجلسة الكاهن المسؤول عن صلاة الصباح أن يدلي بشهادته عمّا رآه.
“أنا الكاهن الذي تولّى صلاة الصباح. عندما دخلتُ إلى قاعة الانتظار، وجدت الناس محتشدين أمام المذبح… فاقتربت، ورأيت القديسة وسمو الارشيدوق، وهما يعانقان بعضهما وهما شبه عاريين.”
كان من الواضح أن الكاهن شعر بالحرج، إذ بدأ يتصبب عرقاً.
حوّل رئيس الجلسة نظره نحو هيلي وديلان حيث كانا جالسَين، وسأل.
“هل هذا صحيح؟“
“نعم، هذا صحيح.”
“صحيح.”
أومأ الاثنان برأسيهما بكل هدوء.
“آه… يا للأسف.”
انطلقت آهات الاستياء في القاعة، لكن هيللي تجاهلتها.
وما إن أنهى الكاهن شهادته، حتى حان دورها للكلام.
“هيلي ترافيا، هل لديكِ ما تقولينه؟“
كان الكهنة الحاضرون في الاجتماع يأملون في قرارة أنفسهم أن تعتذر هيللي وهي تبكي، معترفة بخطئها.
لكنها نهضت ببطء من مقعدها، وبدأت الحديث.
“أعتقد أن الجميع هنا يعلم أنني أتممتُ الثانية والعشرين من عمري هذا العام.”
تفاجأ الكهنة من وقوفها بلا خجل أو رهبة.
“وماذا يعني هذا؟“
“اثنان وعشرون! يعني أنها اصبحت تعلم كل شيء!”
“ليصمت الحثالة. لم أنهِ حديثي بعد.”
ما إن تفوّهت بكلماتها،
حتى بدأ الكهنة بالتذمّر، لكنها صدّتهم دون تردد.
حثالة.
ما إن خرجت تلك الكلمة من فمها، حتى لم يتمالك ديلان نفسه، وانفجر ضاحكاً وهو جالس بجانبها بصمت.
“سمعنا أن القديسة قد سخرت من البابا والكهنة الآخرين.”
“وماذا قالت في سخريتها؟“
“قالت… إنهم حثالة.”
‘إذاً، لقد قالتها فعلاً.’
كان البعض يظن أن ما قيل عنها كان مبالغاً فيه،
لكن وصفها لهم بالحثالة كان حقيقة صريحة.
ضحكة ديلان أربكت رئيس الجلسة،
الذي توجّه بتعليق شديد إلى الكهنة وإلى هيلي.
“هممم، إن قاطع أحد الحديث مجدداً فسوف يُطرد من قاعة الاجتماع. القديسة، واصلي حديثك. من الآن فصاعداً، نرجو أن تتحدثي بأدب.”
أومأت هيلي برأسها، وتابعت حديثها.
وسط الهدوء الذي خيّم على القاعة بعد توبيخ الرئيس،
دوّى صوت هيلي الواثق.
“أنا في عمرٍ مليء بالحيوية والرغبة… وقد سئمت من حياة الزهد في المعبد.”
“ماذا تقولين؟!”
“ثم جاءني سمو الارشيدوق الليلة الماضية فجأة، وأغواني.”
“ماذا؟! أن يقوم سمو الارشيدوق بإغواء القديسة؟! أيّ هراء هذا؟!”
رغم تنبيهات رئيس الجلسة، عاد الكهنة للمقاطعة،
غير أن الرئيس نسي تنبيهه، وراح يتابع ما يجري بشغف.
فقد كانت هذه المشاهد من التناحر مألوفة جداً لديه،
بعد سبعة عشر عاماً من الحياة في المعبد.
“وأين المشكلة في ذلك؟“
قالت هيلي وهي تشير بأصبعها نحو ديلان، ثم صاحت بحماسة.
“انظروا إلى هذا القميص الضيّق الملتصق بجسده! من الواضح أنه جاء لإغرائي!”
“لا تلمسيه!”
دوّى صوت طرق قوي على الطاولة من أحد الكهنة ما إن لامست هيلي جسد ديلان.
“إذاً، لمَ ألبسوه هذا القميص منذ البداية؟!
لا أستطيع منع نفسي من لمسه، فهل تلومونني على ذلك؟!”
“اهدئي، يا قديسة! سمو الدوق ليس حلوى تُباع في الطرقات!”
تدخّل الرئيس أخيراً ليعيد الهدوء إلى القاعة.
“…….”
جلس ديلان يراقب هيلي،
وهي تغلي من الغضب، غير قادرة على كبح جماحها.
لم يسبق له أن رآها بهذه الجرأة والجنون.
ومن خلال جنونها،
استطاع أن يلمح رغبتها العميقة في الهرب من المعبد.
‘هل تصرّفت بهذه الطريقة أيضاً في الاجتماع السابق حين طالبت بإرسالها إلى بلوتاروس؟‘
حين تخيّل شجاعتها في تلك اللحظة، بدأ قلبه يخفق بشدة.
‘قلبي يخفق؟‘
لماذا؟!
بينما كان شارد الذهن، التقت عيناه بعيني رئيس الجلسة الخضراوين الهادئتين، وسأله بهدوء.
“هل ما قالته القديسة صحيح؟“
أخيراً، جاء دوره في الرد.
ابتلع ريقه، وأجاب بأقصى قدر من البرود والوقاحة.
“كلام القديسة صحيح. لقد أغويتها.”
فما كان من هيلي إلا أن رفعت كتفيها وكأنها تقول
“أرأيتم؟ قلت لكم!”
“وقد كنتُ جائعة منذ زمن، فلم أستطع مقاومة إغوائه.
وهكذا، قادني بيده إلى أقرب مكان، وهو قاعة الانتظار.”
“آه… يا إلهي…”
امتلأت القاعة مجدداً بأنّات الذهول.
“إذاً، سمو الارشيدوق فعلاً…!”
“قيل إن اتحاداً بين من نال نعمة الحاكمة من أجل سلام تيلون، وبين العائلة الإمبراطورية ضروري. فقررتُ أن أبدأ بتجربة الاتحاد الجسدي أولاً. ما المشكلة في ذلك؟“
نظرة ديلان المتعجرفة، وسلوكه الوقح الذي سخر من جميع من في القاعة، أسكتت الجميع.
التفتت هيلي نحوه.
رغم أنه لم يكن واضحاً، إلا أن عنقه وأذنيه كانتا متوهجتين حمرةً.
كان وجهه يقول: أنا محرجٌ حتى الموت من هذا الكلام.
وكانت هيلي محقة، فقد أراد ديلان أن يختفي من الوجود.
حاول أن يقلّد ديانا ليبدو واثقاً، لكن الإحراج لم يزُل عنه.
‘أين هو الطبق؟‘
بدأت غريزته تبحث عن طبق ليضع فيه ماء ويغمر وجهه فيه.
‘اتحاد جسدي…؟!’
يا إلهي، كيف، كيف تجرأت على قول ذلك؟!
لقد كان كمن يُعيد بصوت مرتفع، أمام جميع أهل المعبد،
ذلك المقطع الفاضح من رواية تافهة كان زميل له قد قرأها في معسكر المعبد، قبل أن يُمسك به أحد الكهنة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 17"