86
صوتٌ خافتٌ يشبه الهمس.
كارها قضم لقمةً من الكعكة المستديرة.
مضغها لبعض الوقت، ثم ابتلعها، وبدا أن الطعم قد راق له، فمدّ الكعكة نحو تشيشا.
صوتٌ ناعمٌ آخر.
تشيشا، بتلقائيةٍ رقيقة، قضمت زاوية الكعكة التي قدمها لها كارها.
على سطح الكعكة المدوّر، تركت أسنانها أثرًا كبيرًا وآخر صغيرًا، كأنما لوحةٌ مرسومة بعناية.
“كيف طعمها؟”
“لذيذة جدًا!”
“أضع لكِ الكريمة عليها؟”
“ومربى أيضًا!”
“حسنًا.”
كارها، بحركاتٍ سريعةٍ وعفوية، لطّخ الكعكة بمربى التفاح والكريمة الكثيفة، ثم مدّها مرة أخرى إلى تشيشا.
تشيشا، دون أن تحرّك يدًا، تقبّلت ما يقدمه لها كارها بنعومةٍ وثقة.
بل إنه، إذا ما علِق فتاتٌ صغير على شفتيها، كان يسارع إلى تنظيفها بمنديلٍ يربت به بلطف.
بفضل ذلك، لم يكن على تشيشا أن تفعل شيئًا على الإطلاق.
“هو يفعل ذلك عن قصد، أليس كذلك؟”
بالطبع، كارها كان دومًا يعتني بتشيشا بعنايةٍ فائقة.
لكن هذه المرة، بدا وكأن شيئًا من روح التنافس يحرّكه.
تشيشا، وهي تُقضم الكعكة بفمها الصغير بنهم، ألقت نظرةً خاطفة نحو الجهة المقابلة.
هناك، كان هيلون يجلس، يرتشف الشاي بهيبةٍ ووقار.
زيّه العسكري، الذي كان قد أُتلف ، عاد الآن مرتبًا ونظيفًا كما لو لم يُمس.
كعادته، كان مظهره لا تشوبه شائبة، لا مكان فيه لتتسلل حتى بتلة زهرة.
بينما كان يُركّز عينيه على كوب الشاي، رفع بصره قليلًا.
في اللحظة التي تقاطعت فيها عيناه مع عيني تشيشا، انفرجت على وجهه الجليدي ابتسامة خفيفة.
لم تُعجب هذه الابتسامة كارها، الذي تفاعل كحصانٍ جامح.
“لا تبتسم، من فضلك!”
كان صوته يحمل نبرة من يستعد للهجوم في أي لحظة.
هيلون، وهو يضع كوب الشاي جانبًا، ردّ بهدوءٍ لا يخلو من السخرية:
“حتى إمبراطور الشمس في إمبراطورية فالين العظمى لم يملك الحق في منع الآخرين من الابتسام.”
كأنما يقول: من أنت لتأمرني؟
ازداد غضب كارها، وصاح بوجهٍ مشتعل:
“أقول ذلك لأنك تستمر في الابتسام لطفلةٍ ليست من عائلتك!”
“لمَ الغضب، سيد كارها؟ إنها فتاةٌ رائعة، فمن الطبيعي أن يبتسم لها المرء.”
كان هذا صوت تيو، الذي لم يكن يعلم شيئًا عن الأحداث المعقدة التي جرت بين عائلة باسيليان ومحقق الهرطقة في الإمبراطورية المقدسة. تحدث ببراءةٍ وعفوية.
تيو، ممسكًا بكوب شايٍ بدا صغيرًا جدًا في يده، ابتسم ابتسامةً مشرقة.
“حتى أنا، عندما تتقاطع عيناي مع عينيها، أجد نفسي أبتسم. أليست لطيفة جدًا؟”
“…”
غطّى كارها عينيه بيده للحظة.
كلما تصرّف تيو بهذه الطريقة، شعر كارها وكأنه يفقد قوته القتالية.
رفع كارها عينيه، التي كانت بالأصل حادة، بحيث بدت كخطٍ مائل، ثم ضمّ تشيشا، التي كانت جالسة على ركبتيه، إلى صدره بحماية.
“أنا ممتن لمساعدتكم، ولكن…”
“لم أساعدك.”
قاطعه هايلون بحزم، وكأنه يرسم خطًا واضحًا.
“كنتُ أؤدي واجبي كفارسٍ حامٍ للطفلة، لا أكثر.”
يا لها من وظيفةٍ مؤقتة يستغلها إلى أبعد الحدود!
“لقد كان متأكدًا من ارتباطه بليتشيسيا، لذا لن يتركني وشأني أبدًا.”
تساءل كارها عن الذريعة التي سيختلقها هيلون ليظل ملتصقًا بها بعد انتهاء صلاة القديسين .
رمقه كارها بنظرةٍ حادة.
اليوم، وبشكلٍ خاص، بدا أن شيئًا لا يسير على ما يرام، مما جعل أعصابه مشدودة أكثر من المعتاد.
تيو، الدب الودود ذو الطباع الرقيقة، تدخل لتهدئة الأجواء.
قرر أن يغيّر الموضوع.
“لم أكن أعلم أن عائلة باسيليان تربطها صلة بفارسٍ مقدس. ومن فرقة الفرسان المقدسين من الرتبة الأولى! هذا مذهل حقًا.”
نظر تيو إلى هايلون بعينين مليئتين بالإعجاب.
“عندما كنت صغيرًا، كنت أحلم بأن أصبح فارسًا مقدسًا. زيّهم الرسمي رائع جدًا. حتى أنني كنت أتخيل أن الملك المقدس يمنحني أحد الآثار المقدسة.”
خجل تيو قليلاً وهو يقول إنه كان يحلم بحيازة رمح لوبيوس.
كانت طريقته في مدح مضيفه آمنة وذكية.
لكن المشكلة أن هذا المديح لم يكن يروق لصاحب الدار.
هيلون، الذي حصل على الآثار المقدسة وأصبح تابعًا للإمبراطورية المقدسة، كان في الحقيقة أشبه بكلبٍ مكبّل بطوق.
تذكّر كارها الندوب التي رآها على ظهر هايلون، وألقى نظرة خاطفة عليه. كما توقّع، كانت عيناه تحملان ظلالاً خفيفة من الحزن.
لم يُظهر ذلك علنًا، لكنه بدا غير راغبٍ في الحديث عن الموضوع.
لكن تيو، الذي لم ينتبه لذلك، واصل حديثه بابتسامةٍ مشرقة.
“إذا لم يكن ذلك وقحًا، هل يمكنني طلب مبارزة معك لاحقًا؟ سيد كارها، هل سبق لك أن تدربت مع فارسٍ مقدس؟”
“لم أفعل. نحن لسنا مقربين.”
كان كارها يعمل جاهدًا على إفساد محاولات تيو لتخفيف التوتر.
وفجأة، خرج هايلون عن صمته.
“يبدو أنك بحاجة إلى تدريبٍ فعلاً.”
كلماته المفاجئة جعلت تيو وتشيشا وكارها يتوقفون للحظة.
ثم، بوجهٍ خالٍ من التعبير، داس هايلون على كبرياء كارها.
“أنت ضعيف، كارها باسيليان.”
ثم سأل:
“إلى متى ستظل تهرب؟”
—
كان أخوه التوأم مختلفًا عنه تمامًا، من رأسه إلى أخمص قدميه.
الشيء الوحيد المشترك بينهما كان لون عينيهما الحمراء.
كان الفرق بينهما في المظهر والأذواق واضحًا لدرجة تجعل لقب “التوأم” محرجًا.
ومع ذلك، لم يحدث أبدًا أن فشل كارها في فهم إيشويل.
كان بإمكانه دائمًا أن يدرك ما يدور في ذهنه وما يشعر به.
نظرتُ عينيه كانت كافية ليفهم تقريبًا.
كان كارها يعرف دائمًا ما يريده إيشويل.
كانت تلك غريزة التوأم التي تربطهما.
لكن إيشويل مؤخرًا…
بدأ كارها يشعر أنه لم يعد يفهمه.
اللحظة التي بلغت ذروتها كانت عندما بدأ إيشويل، الذي كان يرفض تعلم السحر بشدة ويقول إنه لن يفعل إلا الأمور الراقية، يتعلمه فجأة بنهمٍ غريب.
ظن كارها أن توأمه قد فقد عقله.
عندما سأله “لماذا تفعل هذا؟”، أجاب إيشويل بإيجاز:
“لأنني يائس.”
كلامٌ لم يفهمه كارها على الإطلاق.
لكن، وهو يرى إيشويل يسير بخطى ثابتة في طريق السحر، شعر بشيءٍ غريب.
بعد أن دخلت أختٌ جديدة إلى عائلة باسيليان، بدأ الجميع—كييرن، بيلزيون، وإيشويل—بالسعي نحو أهدافهم الواضحة.
شعر كارها وكأنه الوحيد الذي تُرك خلفهم.
لذلك، قرر أن يتدرب على فن السيف بجديةٍ أكبر من ذي قبل.
لأنه الشيء الذي يحبه أكثر من أي شيء.
لكنه استمر في الشعور بالنقص.
كان السيف ملاذه.
كلما شعر باضطرابٍ عاطفي لا يطيقه، كان يلوّح بسيفه.
اقتحم الغابة السوداء وقتل الوحوش، وأصبح في العالم السفلي منفذًا للأحكام.
عندها، كان قلبه المضطرب يهدأ.
بفضل ذلك، أصبح كارها فتىً يتعامل مع كل شيء ببرود.
كانت حياته هادئة على طريقتها.
حتى ظهرت الطفلة في حياته.
منذ أن التقى بها، بدأ يشعر بنقصٍ غريب.
بدأ يفكر بأشياء لم يفكر بها من قبل.
“لو كنتُ أقوى، لكان ذلك أفضل.”
كان كارها قويًا بما يكفي، ولم يشعر يومًا بالهزيمة أمام أحد.
لكن منذ أن بدأ يعيش مع الطفلة، واجه حدوده مراتٍ عديدة.
كان يجد نفسه عاجزًا أمام أحداثٍ تقع أمام عينيه.
أحيانًا كانت تلك الأحداث بسبب الفارق في السلطة.
لكن، في بعض الأحيان، كانت بسبب نقصٍ واضح في قوته.
ما زالت لحظة مشاهدته لمعركة محقق الهرطقة في الإمبراطورية المقدسة مع كييرن عالقة في ذهنه، تثير اشمئزازه.
منذ تلك اللحظة، كرّس نفسه أكثر لتدريب السيف.
لكن العواطف التي كان يتخلص منها عادةً بضربات سيفه بدأت تتفاقم.
كانت تطارده كظلالٍ سوداء.
لم يكن الأمر مجرد رغبة في أن يصبح أقوى.
كان هناك عدم رضا غامض، لا يعرف سببه، يدفعه شيئًا فشيئًا نحو حافة الهاوية.
استمرت أيامه في التيه دون أن يجد إجابة.
واليوم أيضًا، شعر بالضيق.
حتى لو كان السبب أن خصمه من العائلة الملكية.
اضطراره للاعتماد على أخته الصغيرة للهروب، والاختباء تحت حماية محقق الهرطقة الذي يكرهه، كان شعورًا مريرًا.
غضبٌ لم يستطع تبديده حتى بتلويح سيفه.
في مثل هذه اللحظات، ماذا يفترض به أن يفعل؟
كان كارها يعاني لأنه لا يعرف الحل.
حتى سمع سؤال محقق الهرطقة:
“إلى متى ستظل تهرب؟”
في تلك اللحظة، شعر وكأن خنجرًا اخترق قلبه.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 86"