**الفصل 78**
كانت ليلة تعصف فيها الرعد وتهطل الأمطار.
نظرت “سيريا” من النافذة، فعتمت عيناها أمام المطر الغزير المتساقط كالرماح.
في الآونة الأخيرة، لم تتوقف الأمطار.
كانت تهدأ قليلاً ثم تعاود الهطول بغزارة، فلم تجف الأرض قط.
لا بد أن التربة قد امتصت الماء حتى تشبعت، فهل أقيمت مراسم الجنازة بسلام؟
رغم مرور أيام، لم تصلها أي أخبار.
“هااا.”
فكرت في تلميذها.
لقد توفيت كونتيسة “باسيليان”.
رفضت عائلة “باسيليان” استقبال المعزين، واكتفت بإقامة الجنازة بحضور الأقارب المباشرين فقط.
كانت تظن بصراحة أنهم سيستدعونها، لكن “كييرن” لم يدعُ حتى “سيريا”.
لم يكن ذلك يؤلمها أو يزعجها على الإطلاق.
كانت فقط قلقة، ومع عدم وجود سبيل لرؤيته، شعرت بالتوتر يعصف بها.
كان ذلك الرجل باردًا كأنما زُرع جليدٌ في صدره بدلاً من قلبٍ ينبض بالدم الحار.
لكنه أحب تلك المرأة، رفيقة عمره، بكل جوارحه.
كان تلميذًا يمتلك موهبة قادرة على هز القارة، لكنه اختار الانزواء في غابة الشرق السوداء، وهو ما أثار ضيقها وفهمها في آنٍ واحد.
الثروة، الشهرة، السلطة…
كل ذلك لم يعنِ شيئًا أمام الحب.
على الأقل بالنسبة لـ”كييرن”.
فقد أبويه مبكرًا، وعاش في قصر دوقة “إيفروييل” يتعلم السحر، ثم عاد إلى الشرق ليتولى واجبات كونت “باسيليان” بصمت.
لا بد أنه شعر بالوحدة.
فلما وجد الحب أخيرًا، ظنت أن دربه سيمتلئ بالسعادة…
“…لكنها رحلت مبكرًا جدًا.” .
كيف له أن يتحمل رحيلها بهذه السرعة؟
من تُرك خلفها عليه أن يعيش عمره متشبثًا بذكرياتٍ قصيرة.
يا لها من قسوة.
أغلقت “سيريا” الكتاب الذي كانت تقرؤه.
لم تعد الحروف تتسرب إلى عينيها.
عجزت عن التركيز، فقامت من مقعدها وجالت في المكتبة.
“كوازانغ”، كان صوت الرعد يتردد من الخارج بلا توقف.
ربما لهذا السبب، لم تلحظ الأصوات المتقربة وسط قلقها وتوترها وصخب الرعد.
فجأة، شعرت ببرودة في الهواء، وبدا صوت المطر من الخارج عاليًا أكثر من اللازم.
“دلك”، رنّ صوت النافذة تهتز مع الريح.
التفتت “سيريا” إلى النافذة دون تفكير، فارتجفت من المفاجأة.
كان رجل يرتدي عباءة مقنعة يهوي إلى داخل المكتبة كأنما ينهار.
سقط جسده على الأرض بصوتٍ ثقيل.
لم ترَ وجهه، لكنها عرفته بحدسها.
“كييرن!”
ركضت نحوه وركعت أمامه بسرعة.
أمسكت كتفي الرجل المنهار.
انزلق القناع عن رأسه، فكشف وجهًا مبللاً بالماء.
كان وجه “كييرن” شاحبًا، شعره الأسود ملتصقًا بجلده.
بدا صغيرًا وضعيفًا بشكل غريب، كأنه صبي.
كالصبي الذي عاش في قصر “إيفروييل” يتعلم السحر.
تساقطت قطرات الماء من وجهه باستمرار.
“أستاذتي.”
نظر إليها “كييرن” بعينين متشظيتين كالزجاج المحطم.
حرك شفتيه الزرقاوين من البرد:
“ساعديني.”
كان هذا أول طلب للمساعدة من رجل لم يكشف ضعفه حتى عند موت والديه.
حدقت “سيريا” فيه بذهول، ثم خفضت عينيها ببطء.
“…!”
كان ظل “كييرن” يتلوى.
تدفق ظلام أسود من جسده كأنه يتقيأ، متوسعًا في الظل تدريجيًا.
شكله المتلوي بحرية أثار خوفًا غريزيًا.
لم تكفِ كلمة “مشؤوم” لوصف هذا المشهد.
سرت القشعريرة في ذراعها.
صرخت “سيريا” بعينين متسعتين:
“ما الذي فعلته، أيها الأحمق؟!”
كانت طاقته السحرية، التي يفترض أن تكون نقية، مشوهة تمامًا.
لم تكن هذه طاقة ساحر عادي.
كانت طاقة ساحر أسود.
ارتجف “كييرن” برفق:
“لم أعد أتحكم فيها… إن بقيت هكذا، سأدمر الشرق بأكمله.”
رفع يده التي كانت تتكئ على الأرض.
تساقط ظلام كثيف بلا نهاية من كفه.
رفع “كييرن” زاوية فمه بابتسامة ضعيفة، عادة تلقائية:
“إن كنت أستاذتي، ستتمكنين من كبح قوتي.”
لقد غير “كييرن” طبيعة طاقته ليصبح ساحرًا أسودًا.
لكن بقدر ما كانت قوته استثنائية، كان رد الفعل العكسي عند تشوهها عنيفًا.
لهذا جاء إلى “سيريا” وهو على وشك الانفجار.
كان الظلام الأسود كوحشٍ متوحشٍ على وشك الانقضاض.
كان يجب كبح هذه القوة لمنع انفجارها.
كان الوقت يمر سريعًا، لكن “سيريا” عجزت عن الكلام.
نظرت إليه مذهولة، ثم تمتمت كأنها تتقيأ دمًا:
“لقد جننت… أنت لست بوعيك…”
تلميذها الغالي، الأكثر ذكاءً والألمع بموهبته كجوهرة نادرة،
ألقى بمستقبله في الهاوية.
لن يتمكن “كييرن” بعد الآن من استخدام السحر أمام الآخرين.
باختياره الظلام بدلاً من النور، سيعيش مختبئًا في الظلال هربًا من أعين محققي الهرطقة.
لكن في اللحظة التي أدركت فيها اختياره،
لم تخف “سيريا” من ذلك أبدًا.
لأنها فهمت لماذا سقط في الظلام.
بعد سنوات من المراقبة عن قرب، عرفت.
كان يريد إعادة زوجته المتوفاة إلى الحياة.
كان عليها أن تختار.
مساعدة “كييرن” الآن تعني التمرد على المعبد.
الساحر الأسود الذي يخالف النظام الطبيعي يستحق الموت هنا، وهذا هو العدل والصواب.
لكن رغم إدراكها الكامل للعقل والمنطق، لم تستطع “سيريا” اختيار موت تلميذها.
كانت أستاذته، من يجب أن تحتضن عيوبه.
“أيها اللعين، أيها الأفعى الماكرة.”
مضغت “سيريا” الشتائم وهي ترفع طاقتها السحرية.
ابتسم “كييرن” بضعف وهو يلهث وسط الضوء البنفسجي المتوهج.
كان يعرف الصراع الذي خاضته لتتخذ قرارها.
“أستاذتي، هاا، سأرد الجميل…”
“اصمت وركز. سيكون مؤلمًا حتى تدمع عيناك.”
رسمت دائرة سحرية بسرعة وهي تزجره:
“سأجعلك تندم على التفكير في تكرار هذا الهراء.”
—
أنهى “كييرن” قصته بضحكة خافتة: “ظان”:
“بفضل الدوقة، أصبح أبي كساحرًا أسودًا بسلام.”
أضاف بهدوء أنه كاد يموت حقًا بسبب تشوه طاقته، ولو انفجرت لاختفى الشرق من الخريطة.
“ربما تعرف الدوقة ما أريد فعله. لكنها لم تذكر ذلك قط.”
كانت تعلم أنه يريد إحياء الموتى، لكنها تظاهرت بالجهل وساعدته.
كان ذلك خيارها الأمثل.
لم تؤيد محاولته إحياء الموتى، لكنها لم ترغب في منع ما يتوق إليه بشدة.
“تساعدني متظاهرة بالجهل، وهذا أمر أنا ممتن له حقًا”، قال “كييرن” بحب صادق لـ”سيريا”.
كانت من القلائل الذين يثق بهم “كييرن” المتشكك.
“لذلك، بعد سنوات، رددتُ الجميل.”
“… ”
قال إنه رد الجميل، لكن لماذا بدا كأنه يتحدث عن الانتقام؟
ضحكت “تشيشا” في داخلها بخفة.
على أي حال، إذا كانا يتستران على مثل هذا العيب الكبير، فلا بد أن يكون بينهما رابط وثيق.
أعطى “كييرن” زهرة من المزهرية لـ”تشيشا”.
كانت زهرة داليا بيضاء.
“لذا، إن حدث لأبي شيء، اذهبي إلى الدوقة. إنها أمكِ بالتبني أيضًا. فهمتِ؟”
همس “كييرن” بابتسامة هادئة:
“مهما حدث، سأحميكِ.”
لكن حتى لو حافظ على “تشيشا”، فإنه سيترك حياته تسقط كبتلة زهرةٍ خفيفة.
منذ اختياره أن يصبح ساحرًا أسودًا،
كان مستعدًا للموت في أي لحظة…
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 78"