**الفصل 73**
كانت قلقةً من أن هذا الهوس قد يمنع ولو قطرة واحدة من السحر من أن تلامس يد الصغيرة.
لم يكن هذا القلق مبالغًا فيه أبدًا.
لقد كان “كييرن” متطرفًا إلى حد الجنون تجاه الكونتيسة الراحلة.
كان يتظاهر بالراحة والهدوء أمامها، لكنه في الخفاء يرقص بالسيف بعيونٍ حمراء متوهجة.
وإذا كان هذا الدم يجري في عروق الثلاثة إخوة، فلا بد أنهم لن يختلفوا عنه كثيرًا.
كانت ترى بوضوح مستقبلًا يتحلق فيه رجال “باسيليان” كالأفاعي، يلتفون حول الصغيرة بحماية مفرطة ويثيرون الفوضى.
“على الأقل، يبدو أن كارها هو الأكثر برودًا بينهم.”
الأب يستخدم السحر الأسود في المعبد، والأخ الأكبر يهرب حاملاً أخته، والأصغر يتعلم السحر الذي لم يمارسه من قبل، بينما الثاني لم يظهر أي رد فعل بعد.
“أتمنى أن يظل هكذا.”
كانت تأمل أن يبقى “كارها” على الأقل متماسكًا وسط جنون بقية “باسيليان”.
فجأة، لمعت فكرة زرقاء في ذهنها.
“…آه.”
كان هناك شخص آخر يشغل بالها غير “باسيليان”.
محقق الهرطقات في الإمبراطورية المقدسة.
لا شك أنه اقترب للتحقيق في “كييرن”، لكن…
لأي سبب كان، عامل “تشيشا” بلطفٍ غريب.
عندما سمعت أنه اعتنى بها بعناية في قصره الخاص لمدة أسبوع، شعرت كأنها تحلم.
محقق هرطقات يذبح بجنون تحت اسم الحاكم يعتني بطفلة؟
ما من تناقض أكثر غرابة من هذا.
لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا:
“ابنتي بالتبني تبدو محبوبة من المجانين.”
بما في ذلك “سيريا”، فجميعهم لم يكونوا طبيعيين.
كانت تفكر كيف يمكنها صد هؤلاء المجانين الآخرين، والاحتفاظ بـ”تشيشا” لتربيتها كساحرة عظيمة، عندما اندلع اضطراب صغير في قاعة الحفل.
بدأ الهمهمات عند الباب، ثم انتشرت تدريجيًا إلى الداخل.
توقف الضاحكون والمتحدثون عن الكلام.
أنزل آكلو الطعام أدواتهم، وأبعد شاربو الخمر شفاههم عن الكؤوس.
كأنما جذبتهم قوة خفية، تحولت أنظارهم شيئًا فشيئًا إلى نقطة واحدة.
ساد الهدوء قاعة الحفل، ولم يبقَ سوى موسيقى العازفين تتدفق بلطف.
ابتسمت “سيريا” ابتسامةً عريضة:
“لقد جاؤوا!”
أولئك الذين انتظرتهم بلهفة ظهروا أخيرًا.
كبحت رغبتها في الضحك بصوتٍ عالٍ “أم هاها” بصعوبة، ثم قالت بابتسامة رقيقة:
“يبدو أن كونت باسيليان قد وصل. سأذهب لتحيته قليلاً.”
كان من المثير للدهشة أن تذهب دوقة بنفسها لاستقبال كونت، لكن النبلاء الذين كانوا يتحدثون مع “سيريا” لم يظهروا أي رد فعل مندهش.
كانوا جميعًا منشغلين بالتحديق في عائلة “باسيليان”، وقد سُلبت أنفاسهم.
تقدمت “سيريا” نحوهم بخطواتٍ خفيفة كأنها تطير، وهي تفيض بالفخر.
ظهر “كييرن” وهو يحتضن “تشيشا”، يحيي القادمين:
“سعدت بلقائكم لأول مرة.”
ابتسم بجاذبية آسرة كالسيَرين، وقال بصوتٍ ساحر:
“أنا كييرن باسيليان.”
تأثرت سيدة نبيلة بابتسامته، فاحمر وجهها وغطت فمها بيدها.
“وهذه ابنتي.”
أمسك يده المغطاة بقفاز أسود يد الطفلة بلطف، وهمس بحنان:
“تشيشا، حيّيهم.”
“مرحبا. أنا تشيشا باسيليان.”
تكلمت “تشيشا”، المحمولة كدمية، بصوتٍ ملائكي وهي تحرك شفتيها ببراءة.
فتح صبي صغير بجانب السيدة فمه مذهولاً وهو ينظر إليها.
لم يكونوا وحدهم.
بينما قدم “كييرن” أبناءه الثلاثة واحدًا تلو الآخر، ارتفعت أصوات الدهشة “هاك، أوغ، هاه” من كل مكان.
كانت ردود فعل غريزية، نسوا معها كل المجاملات.
تأملت “سيريا” المشهد وأيقنت:
سيكون “باسيليان” نجوم الحفل اليوم.
—
كان متوقعًا أن يثير وصولهم ردود فعل قوية.
لكن الواقع فاق التخيل بكثير.
ما إن أعجبوا بجمال قاعة الحفل المزينة، حتى تحولت كل الأنظار إليهم فور دخولهم.
كانوا معتادين على جذب الانتباه، فلم يزعجهم ذلك في البداية.
لكن عندما اندفع الجميع كالمجانين للتحدث إليهم ولو بكلمة، بدأ الإرهاق يتسلل إليهم.
خصوصًا العائلات التي لديها أبناء غير مخطوبين، اقتربوا بعيون متلألئة.
لم يقتصر الأمر على “بيلزيون”، الابن الأكبر الذي سيرث لقب الكونت، بل طاردوا “كارها” و”إيشويل” كالنحل.
أما “كييرن” فلا حاجة للقول.
على الرغم من كونه أرملًا ولديه ثلاثة أبناء، بل وتبنى طفلة رابعة، غرق في بحر من المغازلات.
كثيرون أغروه بجرأة وهو يحمل “تشيشا” بين يديه، لكنه رفضهم بأدب.
رجال “باسيليان”، رغم إرهاقهم من الحشود، تبادلوا النظرات والإشارات بسرعة:
“يا، هناك.”
“نعم.”
“كارها.”
“نعم، أخي.”
“أخي الأكبر؟”
“تأكدت.”
كأنهم ينفذون مهمة سرية، يلقون كلمات مقتضبة، ويظهرون أحيانًا نظراتٍ قاتلة.
كان هدفهم إبعاد أي صبي يبدي اهتمامًا بـ”تشيشا”.
رغم أن الأمر مجرد إعجاب بريء، إلا أنهم أصروا على اقتلاعه من الجذور، منشغلين بذلك بشدة.
جاءت دوقة “إيفروييل” لتنقذ “باسيليان” من الحشود.
صفقَت بقوة، فتوقف العازفون بعد عزفٍ عالٍ.
في الهدوء اللحظي، ضحكت بصوتٍ عالٍ وقالت:
“شكرًا للجميع! حضور هؤلاء الضيوف الموقرين جعل حفل اليوم غنيًا.”
ابتسمت بلطف واستخدمت تعويذة بسيطة.
“أعددتُ شيئًا لضيوفنا الموقرين، فهل تمنحونني بعض الوقت؟”
انتشرت قوة سحرية بنفسجية، فأظلمت أنوار القاعة، وبقي المسرح المركزي مضاءً فقط.
وقفت هناك مغنية مزينة بجمال، ترتدي فستانًا مزخرفًا بالورود، فأعجب بها الحضور.
كانت أشهر مغنية أوبرا في العاصمة.
“يا إلهي.”
بدأت المغنية، المتنكرة كملكة الجنيات، الغناء بأناقة:
“أنتَ رحيمٌ حتى مع أهل الهرطقة، مباركٌ لمن لا يؤمنون باسمك.”
كانت أغنية عن أسطورة قديمة، حيث قدمت ملكة الجنيات تاجها للملك المقدس تمجيدًا .
كانت مثالية لموضوع الحفل.
بينما تشتت انتباه الحضور بالمغنية، اقتربت دوقة “إيفروييل”:
“أيها الكونت.”
ابتسمت ودفعته بمرفقها بخفة:
“يا لها من ضجة! مثير للإعجاب، أليس كذلك؟”
“بفضلكم، سيدتي.”
رد “كييرن” بابتسامة مهذبة على تعليقها المرح.
تعمقت ضحكة الدوقة:
“مرحبًا، ابنتي بالتبني.”
مدت يدها إلى “تشيشا”:
“دعيني أحملكِ. أوه، صغيرة، صغيرة جدًا.”
أخذت “تشيشا” من “كييرن”، وهزتها بلطف، ثم همست لها:
“كيف وجدتِ قاعة الحفل اليوم؟ رائعة، أليس كذلك؟”
“نعم!”
“كلها متلألئة، أليس كذلك؟”
فتحت يدها أمام “تشيشا”:
“انظري إلى هذا.”
ارتفعت لمعة بنفسجية صغيرة من كفها، تحيط بـ”تشيشا”.
في ظلام القاعة، تألقت كاليراعات في غابة، بجمالٍ خفي.
همست الدوقة بصوتٍ مليء بالمكر:
“ألا تريدين صنع شيء كهذا، يا ابنتي بالتبني؟”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 73"