70
قيل إن الأم، التي فقدت عقلها تدريجيًا بسبب التجارب، مرت بأهوال جعلتها تفقد صوابها نهائيًا، حتى فرت من المختبر حاملةً تشيشا معها.
كان مصير الجنية المجنونة مروعًا. كل ما سمِعته تشيشا عن أمها لم يكن سوى حكايات مقززة تثير الاشمئزاز. قوة الجنية المختلة عقليًا كانت تتحدى الطبيعة نفسها؛ فكل مكان تمسه قدماها يفقد حياته: الزهور تذبل، والعشب يجف، والأرض تتحول إلى سواد فاسد.
تحولت البحيرات النقية إلى مياه آسنة تفوح منها رائحة كريهة، وأضحت الحيوانات وحوشًا تهاجم البشر. أما صيادو العبيد الذين اندفعوا للقبض عليها، فقد أصبحوا جثثًا متراكمة تحت قدميها.
قالت تشيشا إن أمها ظلت تسير نحو مجهول وهي تغني أغنية غريبة لا يفهمها البشر، تلك الأغنية التي بقيت الذكرى الوحيدة لتشيشا عنها، تهويدة رقيقة كانت تُغنيها لها.
“…”
جلست تشيشا على الأرض فجأة، شعرت بثقل غامض يسلبها قوتها، فأرادت أن تبقى هكذا، تتنفس بهدوء فقط. وفي تلك اللحظة، شعرت بقرب خطوات تقترب. نهضت بسرعة واندفعت إلى الداخل بخطى صغيرة متسارعة، ثم تظاهرت بأنها كانت منهمكة في القراءة كطفلة مثقفة.
جلست على الأريكة، ممسكة بكتاب قصص، متصنعة تعبيرًا جديًا بعض الشيء. عندما دقت الطرقات على الباب وانفتح ببطء، ظهر من خلفه رجلان طويلان أنيقان: هيلون وكييرن. بينما تردد كييرن عند العتبة، تقدم هيلون دون تردد، ومد يده ليمسح رأس تشيشا بحركة واثقة.
“هل كنتِ تلعبين بمرح؟”
“نعم…”
أجابت تشيشا بخجل، مغلقة الكتاب الذي كانت تمسكه بالمقلوب بهدوء، وخفضت عينيها قليلاً. كانت تنوي العودة إلى عائلة باسيليان، لكن بعد أن تسببت في تدمير القصر وانهيار معبد وأثارت فوضى عارمة، شعرت أن العودة مباشرة قد تكون محرجة.
عاشت صراعًا داخليًا بسيطًا يليق بطفلة في الثانية من عمرها، تخطط لقصة مؤثرة تنتهي بعودتها إلى أحضان عائلتها. خطة مثالية، لكن كل الجمل التي أعدتها تبخرت حين التقت عيناها بعيني كييرن.
“تشيشا…”
ابتسم كييرن وهو واقف عند الباب، ابتسامة متكلفة تحاول إخفاء توتره.
“هل كنتِ بخير؟”
لم يكن فيه شيء من ذلك الثعلب الماكر الذي كان يدفع هيلون إلى حافة الجنون بكلماته الملتوية.
عيناه الحمراوان المرتجفتان كشفتا قلقه بوضوح. كان ذلك مفاجئًا؛ توقعت تشيشا أن يتظاهر بالضعف أو يحاول استمالته بنبرة متملقة كما فعل مع هيلون، لكنه بدلاً من ذلك كشف عن وجهه الحقيقي تحت القناع.
لشدة دهشتها، لم تجب، فتلاشن ابتسامته. عض شفته السفلى، ثم رفع زاوية فمه مجددًا بجهد واضح، وسأل بحذر: “هل… ربما اشتقتِ لأبيكِ؟”
لم يكتفِ بمحاولة الابتسام المصطنع، بل بدأ يهذي بكلمات مرتبكة: “آه، إن لم تكوني اشتقتِ لي، ماذا أفعل إذن…؟”
حتى هيلون بدا مرتبكًا وهو يرى كييرن، الذي كان قبل دقائق يتصارع معه بالكلمات الحادة، يتحول إلى هذا الشخص المضطرب. لم تتحمل تشيشا أكثر.
فتخلت عن جملها المحضرة وقالت لتهدئته: “اشتقت لك”.
“حقًا؟” تقدم كييرن خطوة مترددة إلى الداخل، لكنه توقف عندها، وهمس بصوت يقطر حزنًا:
“لا بأس إن كنتِ تكذبين عليّ، تشيشا”.
قفزت تشيشا من كرسيها، اقتربت منه، ومدت يديها الصغيرتين نحوه. نظر إليها كييرن بعينين مشككتين، ثم بعد تردد طويل، رفعها بين ذراعيه بحذر شديد، كما لو كانت زجاجًا قد يتحطم بلمسة خاطئة.
عندما لامست دفء جسدها جسده، زفر نفسًا خفيفًا. شعرت تشيشا ببعض الذنب. كانت تعلم أنه غير مستقر عقليًا، لكنه كان يصمد بطريقة ما حتى الآن، إلا أن هذه الحادثة بدت وكأنها كسرت شيئًا بداخله أكثر، مما جعله يتعلق بها بشكل ملحوظ. “يجب أن أعتني به جيدًا ما دمنا معًا”، فكرت.
كانت عودتها إلى عائلة باسيليان محاطة بكل الأعذار والمبررات، لكن بعيدًا عن كل ذلك، كانت تشيشا، في قرارة نفسها، تشتاق قليلاً –قليلاً جدًا– لرجال عائلة باسيليان.
خلال أسبوع الفراق، كانوا كأشواك خفية تزعجها دون أن تراهم. “أبي”، نادته، فتوقف تنفس كييرن للحظة.
“هل يمكنني أن أكون باسيليان مجددًا؟”
“أرجوكِ افعلي ذلك”، أجاب فورًا دون أن يتنفس
ثم همس مرة أخرى: “كوني باسيليان، أرجوكِ”.
“حسنًا!” أجابت، فمال كييرن نحوها كأنه ينهار، مدفونًا وجهه فيها، وتوسل بهدوء: “تشيشا… لا تتركيني مجددًا”.
كانت كلماته تحمل جرحًا قديمًا لم يلتئم، جرحًا ينزف كلما لُمس. “أرجوكِ، هذا طلب أبيكِ”.
لاحظ كييرن أنه أثقل الأجواء، فابتسم بسرعة ليبدد الثقل، ثم بدأ يتذمر بنبرة مرحة: “بدون تشيشا، لا أستطيع النوم أو الأكل…”،.
وهو يغمر خديها بقبلات مرحة. هدأته تشيشا بوقار، حتى بدا الأمر وكأنها هي الكبيرة بينهما.
“هل نعود للبيت الآن؟” سأل كييرن وهو يبتسم ويحملها ليغادرا، لكن فجأة، امتدت سلسلة بيضاء لامعة التفت حول خصره.
“من سمح لك بأخذها؟” قال هيلون، الذي كان يراقب بهدوء، وهو يستدعي سلاسل العقاب ليوقف كييرن. عبس كييرن وقال بنزق: “أنت من قلتَ إن الأمر متروك لرغبتها”.
“كان ذلك قبل أن أعلم أنك ساحر أسود”، رد هيلون مقلبًا كلامه بسهولة. “من الواضح أن ذلك سيضر بتربيتها وعواطفها، فلن أتركها تذهب”.
زفر كييرن بضيق، ومسح وجهه بيده الحرة، ثم همس لتشيشا: “تشيشا، قولي له إنك لا تحبين تشبثه المزعج”. لم يخفِ صوته عن هيلون، فتقلصت عينا الأخير..
قبل أن يتصاعد الخلاف، تدخلت تشيشا بسرعة: “أريد العودة للبيت، لكن…”، كانت تعلم أن هيلون لن يستسلم بسهولة، ففكرت في حل مسبقًا. “أريد رؤية الفارس أيضًا”.
هذه المرة، تقلصت عينا كييرن. بين نظراتهما الضيقة، أعلنت تشيشا بثقة: “لذلك، حتى لو عدت للبيت، سأعود لزيارة الفارس!”
ثم ابتسمت لهيلون : “والفارس يمكنه زيارتي أيضًا”.
تلعثم هيلون وأشاح بنظره، مترددًا بين رفض الفكرة أو قبولها خوفًا من خسارة محبتها. بدا كييرن متضايقًا أيضًا.
لكنه قال متأففًا: “بما أن ابنتي تريد ذلك… تعالَ بين الحين والآخر لتتأكد إن كانت فاسدة أم لا”. شدد على “بين الحين والآخر” بقوة.
نظر هيلون إلى تشيشا بهدوء، ثم سحب سلاسل العقاب واقترب منها، ممسكًا يدها بحنان كأنه يؤدي قسمًا: “سأزوركِ كثيرًا”
وقبل يدها بلطف.
عبس كييرن بشدة ، استدعى ظلالاً سوداء، لكن قبل أن تغطي الرؤية تمامًا، لوحت تشيشا لهيلون سرًا. ابتسم هيلون بصمت. وهكذا، غادرت تشيشا قصر محقق الهرطقة.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 70"