62
ضيّق كييرن عينيه ببطء.
حدّق بهايلون بنظراتٍ مُدقّقة، عيناه المتقلّصتان تتفحصانه بعناية.
كانت ردة فعله أكثر هدوءًا مما توقّعته.
“لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.”
فكّرت سيريا في سرّها، وهي تضع فنجان الشاي الذي كانت تمسكه بقوة حتى ابيضّت أصابعها.
تَرَنَّمَ صوتُ الفنجان وهو يستقر على صحنه، وفي تلك اللحظة، فتح كييرن فمه:
“ربما…”
مَالَ برأسه قليلاً.
تساقطت خصلات شعره الأسود الناعم، كالحرير، بانسيابٍ رقيق.
تحرّكت شفتاه ببطء، وخرجت كلماته بنطقٍ واضح، متقطّعة كأنها تتساقط واحدة تلو الأخرى:
“هل فقدتَ عقلك؟”
كان سؤالاً يحمل دهشة صادقة.
“هكذا يجب أن يكون تلميذي.”
ابتسمت سيريا ابتسامة لم تكن ابتسامة، وضحكت ضحكة خافتة متكلفة.
ثم بدأت تتأمل في ذهنها، بهدوء، أي تعويذة يمكن أن تستخدمها.
كان هيلون خصمًا من نوع مختلف عن كييرن.
“أنا بكامل عقلي.”
ردّ هيلون ببرودٍ حاسم، ثم قابل الهجوم بهجوم:
“يبدو أن الكونت باسيليان هو من فقد عقله.”
ارتسمت على شفتيه، اللتين كانتا دائمًا خطًا مستقيمًا، ابتسامة ساخرة خفيفة.
ارتعش حاجب كييرن.
قال هايلون بصوتٍ ساكن:
“لهذا يتم التخلي عنك بمثل هذا السلوك، يا كونت.”
أغمضت سيريا عينيها بقوة، غير قادرة على متابعة المشهد.
“انتهى الأمر…”
تنهدت في داخلها طويلاً، ووضعت يدها على جبهتها.
نهض كييرن من مقعده ببطء، فسارعت هي أيضًا للوقوف بسرعة.
كان كييرن يبتسم.
ابتلعت سيريا شتيمة، وأمسكت بمعصم تلميذها بقوة.
فناداها بصوتٍ رقيق:
“أستاذتي.”
لم يكن في نبرته ذرة غضب، لكن سيريا صرخت صرخة صامتة كمن سمع حكمًا بالإعدام.
ربت كييرن على يدها برفق وهو يبتسم ابتسامة مشرقة:
“أطلقي يدي. يجب أن أقتل هذا الوغد اليوم.”
“تحمّل .”
جذبت سيريا كييرن إلى الخلف بكل قوتها.
فأرخى حاجبيه، وقال بنبرة تشبه تذمر طفل بريء:
“لقد رأيته، أستاذتي. إنه يتصرف كمجنون يتوق إلى الموت.”
لو قُيّمت كلماته وتعبيراته فقط، لظن المرء أنه يدلّلها، لكنها كانت تعلم جيدًا أن إطلاقه في تلك اللحظة يعني تدمير معبد العاصمة اليوم.
“كونت باسيليان.”
نادته بلقبه عمدًا لتنبّهه، لكن في تلك اللحظة، انفجر وهجٌ ساطع أضاء الأرجاء.
كأن صاعقة ضربت، اجتاح ضوء أبيض المكان للحظة.
ثم بدأ الضوء يخفت تدريجيًا.
ظهر بعده هايلون، ممسكًا بسيفٍ مقدس مرفوع.
السيف المقدس، المصنوع من معادن نادرة تُنتج في الإمبراطورية المقدسة وتُبارك بالطقوس، يُمنح فقط لفرسان السيف المقدس المعتمدين.
يقال إن قوته وشكله يتغيران حسب القوة المقدسة لصاحبه.
“لكن مثل هذا الضوء…”
عبست سيريا، تحذّرها غريزتها من الخطر.
كانت قوة تجعل شعرها يقف من فرط شدتها.
كان هايلون يصبّ قوته المقدسة بلا تحفظ، معززًا قوة السيف.
فارس السيف المقدس، ممسكًا بسيفه الأبيض الناصع.
كانت هيبته كافية لتركيع المذنبين، بل وحتى الأبرياء، تحت وطأة الخوف والرهبة.
لكن كييرن ضحك بصوتٍ عالٍ.
ابتسم بعينين متعرجتين، ومدّ إصبعه باستقامة:
“هل تعتقد أن هذا يكفي؟ لمَ لا تستخدم ما على معصمك؟ لقد كنتَ تتلهف عليه بشراهة منذ قليل.”
لمع ت عيناه الحمروان ببريقٍ ماكر.
“لأنك تتوق للقبض عليّ.”
رفع هايلون سيفه المقدس ببطء، محدقًا بكييرن الواقف خلف سيريا، واستفزه:
“إن أردتَ عقابًا لائقًا، ابذل قصارى جهدك، يا كونت.”
تقلّصت حدقتا عينيه الزرقاوين المشبعتين بالقوة المقدسة.
“أعني، لا تختبئ، وأظهر كل ما تملك.”
مع اندفاع هايلون بسيفه، أطلقت سيريا السحر الذي أعدّته مسبقًا.
كوووم!
تصادمت القوة المقدسة البيضاء والسحر الأرجواني، مُحدثةً دويًا هائلاً.
انفجرت موجة صدمة هزّت جدران المعبد.
تهاوى جدار، وطار سقف المعبد بأكمله إلى السماء.
استنشقت سيريا هواء الليل البارد المتدفق من الخارج، وصرخت:
“آسفة، يا سيد هايلون!”
رددت عشرات التعاويذ الصغيرة دفعة واحدة، لتصد السيف المقدس المتجه نحوها.
تناثرت شظايا السحر المحطمة مع كل ضربة من السيف.
“أنا أيضًا في مهمة لإيجاد ابنة رعيتي! ليس لدي نية للتمرد على اسم الحاكم! أو الشك في القداسة! ليس هذا مقصدي! أريد فقط أخذ ابنة رعيتي!”
عبس هايلون قليلاً وهي تصرخ بصوتٍ مدوٍّ.
ربما بدا كلامها هراءً، لكن سيريا، التي لم تكن ترغب أبدًا في الوقوع في غرفة التحقيق بالهرطقة، صرخت حتى برزت عروق رقبتها:
“أنا أتبرع للمعبد! بانتظام! وبمبالغ طائلة! ضع ذلك في حسبانك!”
من الخلف، علّق كييرن، الذي كان يتفرج على دفاعها المستميت:
“لهذا كنتِ مفلسة.”
“لستُ كذلك، فاصمت، يا تلميذي.”
رسمت سيريا دائرة سحرية في الهواء بسرعة.
أضاءت الدائرة الكبيرة، وأطلقت أشعة تشبه الشهب.
تَرَنَّمَت أصوات تحطيم السيف للسحر كانفجار البارود.
في فوضى المعركة، تفادى كييرن شظايا السحر المتساقطة وسأل:
“أستاذتي، هل أنتِ في صفي أم صف ذلك الوغد؟”
“أنا في صف ابنة رعيتي، فاصمت.”
لوّحت سيريا بيدها بقوة.
اندفع جسدها للأمام بسرعة.
كلانغ!
اصطدمت دائرة السحر بالسيف المقدس على بعد أنفاس.
لولا الحاجز، لشُقّ جسدها نصفين.
ابتلعت سيريا ريقها وهي ترى القوة اللا رحمة فيه، ونظرت إلى “فارس السيف المقدس” المزعوم أمامها.
كبتت فكرة لم تستطع نطقها:
“إن كان هذا فارسًا مقدسًا، فأنا ملكة القديسين.”
كبحت رغبتها في سيل الشتائم، واقترحت بلطف:
“ماذا لو تراجعتَ هذه المرة، يا سيد هايلون؟”
“ابتعدي، يا سيدتي.”
“كونت باسيليان يعشق تلك الطفلة. لا ينام ليلًا بدونها…”
تفوّهت بكل ما خطر ببالها، وهي تكمل دائرة سحرية أخرى.
بدت سيريا مزعجة وهي تعترض طريقه، فابتعد هايلون بخفة وهو يلوّح بسيفه.
لكنها تبعته مجددًا، متشبثة بسيفه.
“أتمنى أن تمنح الكونت فرصة للحديث مع الطفلة وجهًا لوجه. أطلب ذلك كأم راعية لتشيشا باسيليان.”
“قلتُ لكِ ابتعدي.”
دوّى صوت غريب من السيف المقدس.
كان هايلون يدفع قوته المقدسة إلى أقصاها.
قال لها بلا تعبير:
“لن أحذركِ مجددًا.”
“تف، يا له من متصلب.”
على عكس نبرتها المتذمرة، كانت عيناها تعكسان توترًا واضحًا في تلك اللحظة.
“كووواه!”
سقطت طفلة من السماء.
رفع الثلاثة رؤوسهم فجأة نحو الجسم الصغير المتساقط بسرعة.
تحركوا في آنٍ واحد.
رددت سيريا تعويذة، واندفع هايلون وكييرن نحو نقطة سقوط تشيشا.
بفارق ضئيل، تلقّى كييرن تشيشا في حضنه.
حتى لو كانت صغيرة، فإن قوة السقوط كافية لتكون مؤلمة.
لكن كييرن استقبلها برفق دون أن يتغير لون وجهه.
“هاا، تشيشا…”
ضمّها إلى صدره بقوة، وناداها بصوتٍ مرتجف.
فرك وجهه بخدّها الناعم، ثم رفع رأسه ببطء.
“… ”
كانت أرجاء المعبد مغطاة بسلاسل بيضاء ناصعة.
متشابكة مع ظلامٍ أسود حالك.
التفّت الظلال المتلوية والسلاسل البيضاء حول تشيشا كشبكة متينة، لتمنعها من السقوط أبدًا.
تجمّع فرسان السيف المقدس والكهنة المتأخرون، ينظرون بدهشة إلى المشهد الممزوج بالأسود والأبيض.
مشهدٌ خلّفه ساحر أسود ومحقق هرطقة.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 62"