**الفصل 52**
كان دارين، مساعد هايلون، الشاهد الأمين على رحلة صعود هايلون من أدنى المراتب إلى عرش رئاسة محققي الهرطقة.
منذ أن انضمّا معًا كفرسان متدرّبين إلى المعبد، شعر دارين بحدسٍ عميق.
لقد أدرك أن ذلك الفتى ذا الوجه الجامد كالدمية سيكون يومًا ما شخصيةً عظيمة.
لذا التصق به كظلّه، لم يفارقه، وكان استثماره في محله.
فقد أصبح هايلون، بجهده الخاص، رئيس محققي الهرطقة، المرتبة التي تلي الملك المقدّس مباشرةً.
من بين أشرف الفرسان المقدّسين، لا يتسنّى سوى لثلاثة عشر فقط أن يتبوّؤوا منصب محقق الهرطقة.
لابد أن يمتلك المرء مهارةً ساحقةً تفوق جميع الفرسان المقدّسين ليحظى بهذا اللقب.
وها هو هايلون يُسجّل اسمه في تاريخ الإمبراطورية المقدّسة كأسرع من ارتقى إلى هذا المنصب.
ولم يجرؤ أحدٌ على الاعتراض.
فذلك الإرث المقدّس، “سلاسل العقاب”، الذي طالما احتفظ به الملك المقدّس دون أن يجد له سيّدًا يليق به، كان يُعاني من القلق حتى جاء هايلون.
هو الوحيد القادر على تسخير تلك السلاسل، التي تتطلّب قوةً هائلةً لتُستخدم، دون أن يبدي أدنى جهدٍ أو عناء.
كان الكرادلة، المرشّحون لخلافة الملك المقدّس، يتسابقون لكسب ودّه، فهو من يمسك بزمام السلطة العسكرية في الإمبراطورية المقدّسة، ولا مبالغة في ذلك.
ورغم كل هذا العظمة والجلال الذي يحيط بمحقق الهرطقة العظيم، كان لهيلون عيبٌ واحدٌ بارز.
تلك الجنية، ريتشيسيا.
**[أشفقوا على الضعفاء وأحسنوا إليهم،
عاقبوا الأشرار وحاكموا أفعالهم الدنسة،
باسم الحاكم، من أجل شرفه ومجده،
أقسموا على حماية العدالة والخير.
هذا هو القسم المقدّس.]**
كان هذا القسم الذي يحفظه كلّ فارسٍ مقدّس عن ظهر قلبٍ ويرسخه في أعماق روحه.
لكن هيلون، رغم حفظه له، كان دائمًا يحيط نفسه بالشكوك.
كان العقاب والمحاكمة بالنسبة له أمرًا يسيرًا لا نهائيًا، لكن الشفقة والإحسان كانا لغزًا عصيًا عليه.
“لا أفهم ذلك. لم أفعله من قلبي ولو مرةً واحدة.”
كان يتبع القسم بآليةٍ باردةٍ، لا أكثر.
ثم، في يومٍ من الأيام، اختفى هيلون فجأةً لعدّة أيام، قبل أن يعود ويقول بعفوية:
“أعتقد أنني فهمتُ معنى الشفقة والإحسان.”
زعمَ أنه التقى بشخصٍ أراد حمايته ورعايته، فتعلّم منه الشفقة والإحسان.
ورغم أنه عوقب بالحبس الانفرادي أسبوعًا كاملًا بسبب تغيّبه عن المهمة، وأُجبر على تنظيف المعبد الكبير لثلاثة أشهر، كانت عيناه تلمعان بلمعانٍ غريبٍ لم يعهده دارين من قبل.
“لو كنتُ أعلم أنها الجنية ريتشيسيا، لمنعته منذ البداية.”
حاول دارين أن ينظر إلى الأمر بإيجابية في البداية.
فمن ذا الذي يكون كاملًا بلا عيب؟ وجود مثل هذا الخلل قد يجعل هيلون يبدو بشريًا أكثر.
“أريد أن أقتل نفسي في الماضي على هذا التفكير.”
تذمّر دارين وهو يصمّ شفتيه.
لقد اختفت الجنية.
كانت تثير المشاكل يومًا بعد يوم، ثم ساد الهدوء فجأة، فظنّ أنها ربما نضجت أخيرًا.
لكنها تبخّرت حقًا، اختفت دون أثرٍ يُذكر.
ومنذ اختفائها، بدأ هايلون يتغيّر.
كان في السابق محققًا عقلانيًا باردًا، يبدو خاليًا من المشاعر.
لكنه الآن بدأ يتصرّف بغرابة، يقترف أفعالًا لا تُعقل.
حرّك فرسان الإمبراطورية المقدّسة للبحث عن الجنية، بل وكشف هويته كفارسٍ مقدّس في أوساط العالم السفلي قبل أيامٍ معدودة.
بفضل ذلك، تأكّد أن الجنية لم تمت، بل اختفت عن الأنظار فحسب.
لكن الملك المقدّس ثار غضبًا لأول مرة، وصرخ في وجه هايلون بشدّة.
لم يُنقذه من العقاب سوى رمح لوبيوس الذي قدّمته الجنية، وإلا كان مصيره أسوأ بكثير.
ظنّ دارين أن تأكّد حياة الجنية سيُعيد هايلون إلى رشده، لكن…
منذ عودته من العالم السفلي، بدا أكثر غرابةً من ذي قبل.
كأنه يتوق إلى إثارة فوضى أكبر.
في هذه المرحلة، بدأ دارين يفتقد الجنية فعلًا.
“أنا، أشتاق إلى ريتشيسيا؟ لا أصدق أنني وصلت إلى هذا الحد.”
عندما كانت الجنية موجودة، كان تركيزه منصبًا عليها فقط.
أما هيلون الآن، فلم يعد يُعرف إلى أين سيقفز تصرّفه التالي.
حتى اليوم، ارتكب فعلًا غريبًا آخر.
“سنذهب إلى العاصمة.”
ما إن سمع خبر احتراق قصر الكونت باسيليان، حتى أخذ دارين وبعض الفرسان وانطلق نحو العاصمة مباشرةً.
كانت عائلة باسيليان تحت تحقيق محققي الهرطقة منذ فترة.
كانوا تحت المراقبة منذ زمنٍ بعيد، لكن تبنّيهم لطفلٍ للمشاركة في صلاة القدّيس الصغير جعلهم هدفًا رسميًا للتحقيق.
تسلّل هايكون إلى العائلة تحت ستار كونه فارسًا حاميًا للطفلة المتبناة ، محذّرًا إياهم بلطفٍ أن أعين التحقيق ترصدهم، لكنهم لم يأبهوا.
أو بالأحرى، بدا أن الكونت لم يكن ينوي الانصياع.
منذ ذلك الحين، بدأ الكونت يتصرّف بجرأةٍ مريبة، بينما كان هيلون منشغلًا بالطفلة لسببٍ غامض.
على أي حال، بما أن الأوامر جاءت من القائد، لم يكن أمام دارين خيارٌ سوى اتباع هيلون إلى العاصمة.
عند وصولهم إلى عاصمة الإمبراطورية،
تأكّدوا أن الحريق لم يُسفر عن ضحايا، لكن ثلث قصر باسيليان قد تلاشى.
كان يومٌ كاملٌ قد مضى، وانتقل أفراد العائلة إلى فندقٍ فلم يظهر أحدٌ منهم.
“هل نعود، سيدي؟”
سأل دارين بأملٍ خفيّ، محاولًا حثّ هيلون على التراجع.
لكن هايلون نقلَ بصره ببطء.
فراشةٌ بيضاء صغيرة مرّت ترفرف أمام عينيه.
كانت فراشةً عادية، لكنها لسببٍ ما جذبت انتباهه.
بينما كان دارين يفكّر في غرابتها للحظة،
“آه، آه… سيد هايلون!”
كان هايلون قد بدأ يتبع الفراشة بالفعل.
قادته الفراشة إلى بسطةٍ لبيع الزهور.
وقفَ أمامها فتىً يرتدي رداءً بقلنسوة، يهمس بلطفٍ لطفلٍ في حضنه:
“أيّ زهرة؟”
“هوونغ، كلها حلوة!”
“إذن، سنأخذ هذه.”
كان المشهد بينهما دافئًا ومؤثرًا، كأنه مقطعٌ من كتابٍ قصصيّ.
لكن من قطع تلك الأجواء الرقيقة كان هيلون.
تقدّم بخطواتٍ واثقة، أمسك كتف الفتى، وأداره بقوة.
رفعَ الفتى عينيه بحدّة، ووضع يده على سيفه عند خصره، لكنه توقّف فجأة حين رأى زيّ هايلون المقدّس.
“…”
نظرَ هيلون بصمتٍ إلى الطفلة في حضن الفتى.
شهقَ دارين بصوتٍ مكتومٍ حين رآه.
كانت طفلة تليق بها وصف “جنية” تمامًا، بخدودٍ مستديرةٍ متورّدةٍ تبدو حلوةً كأنها تُقطّر عسلًا.
ما إن رأت هيلون، حتى انفجرت الطفلة بابتسامةٍ مشرقةٍ كزهرةٍ تتفتّح، وصاحت بنشاط:
“عمي الفارس!”
ابتلعَ دارين ريقه بصعوبة.
“آه، هذه الطفلة هي…”
الطفلة المتبناة من عائلة باسيليان، موضوع النقاش الأكثر سخونةً في العاصمة حاليًا، والذي يشتبه هيلون أنها ابنة الجنية ريتشيسيا.
—
تأمّلت تشيشا ماضيها للحظةٍ بعينٍ نادمة.
لماذا لم تكوّن علاقةً مع شخصيةٍ عظيمةٍ قادرةٍ على مساعدتها؟
فها هو كييرن، ما إن وقعت المشكلة، حتى استدعى دوقة إمبراطورية بالين العظمى بكل سهولة.
“الحياة تعتمد على العلاقات، لا شكّ.”
لكن عندما تذكّرت أن عليها طلب المساعدة كطفلةٍ صغيرةٍ وليس كجنيةٍ مثل ريتشيسيا، أدركت أن خيارها الوحيد هو هيلون.
كان لديه مبرّرٌ مثاليّ كفارسٍ حامٍ لها خلال صلاة القدّيس الصغير.
موقعه يجعله الوصيّ الأنسب لها.
وعلاوةً على ذلك، قد تتسنّى لها فرصةٌ لاستكشاف أمور المعبد إن اقتربت منه.
“بما أنني بحاجةٍ للتحقيق في شؤون الإمبراطورية المقدّسة على أي حال.”
ربما تكون هذه فرصةً لاستطلاع الأجواء على الأقل.
بعد أن صنعت لنفسها تبريراتٍ شتّى، انتظرت تشيشا استيقاظ بيلزيون.
بسبب زهرة الياسمين التي تركتها ليلًا، استيقظ بيلزيون متأخرًا جدًا عن موعده، مرتبكًا ومندهشًا.
“آسف لاستيقاظي متأخرًا. لم يحدث هذا من قبل قط.”
“نعم! هل نمتَ جيّدًا؟”
ابتسمت له ببراءةٍ وهو يتمتم بالاعتذار، فتردّد للحظةٍ ثم قال:
“…لأول مرة منذ زمنٍ، نعم، بعمق.”
“رائع!”
لم يتحمّل هاتا تلك الأجواء الدافئة، فقاطعها بسرعةٍ بنباحٍ متذمّر.
ظنّ بيلزيون، الذي لم يعرف أن الكلب يغار، أنه جائعٌ فألقى له قطعة خبزٍ من بقايا الأمس.
حدّق هاتا في بيلزيون بنظرةٍ ناقمة، لكنه لم يرفض الخبز، بل قفزَ وأمسكه بفمه وأكله بنهمٍ.
جهّز بيلزيون أمتعته بسرعةٍ وغادر النزل.
“من اليوم، سنتوجّه إلى ضواحي العاصمة، وهدفنا النهائي هو الخروج إلى خارج البلاد. إذا غادرنا الإمبراطورية، سيتضاءل أثر مطاردينا.”
نظرت تشيشا إلى بيلزيون بعينين مليئتين بالشفقة.
“والدك تحالف مع الدوقية العظيمة…”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 52"