43
للناس العاديين، إذا ما صادفهم شيء ذو أهمية بالغة، فإنهم غالبًا يحتفظون به في جيوبهم، أو يخبئونه في خزائن حديدية مثبتة في أعماق بيوتهم، أو ربما يودعونه في البنوك.
لكن أهل العالم السفلي لم يكونوا ليفعلوا ذلك أبدًا، فهم يعيشون في ظل الموت الذي قد يهجم في أي لحظة. ما يحمله المرء في صدره يُسلب بسهولة، وما يُخفى في خزينة المنزل يُكسر وينتهي أمره.
أما وجود بنك رسمي في هذا العالم المظلم فكان محض وهم. لذا، إذا امتلك أحدهم شيئًا ثمينًا لا يريد أن يُنتزع منه حتى بعد موته، فإنه يلجأ إلى أساليب غريبة ومبتكرة تجعل العثور عليه مستحيلًا.
على سبيل المثال، كانت طريقة تشيشا من بين الأكثر بساطة ووضوحًا في العالم السفلي. فقد كانت تحتفظ بأغراضها المهمة في عالم الجنيات الوهمي، وهو مكان لا يستطيع أحد سواها الوصول إليه.
حتى رمح لوبيوس، التحفة المقدسة، كان مخبأً في هذا العالم. أما هاتا، فقد كان يصبغ أشياءه العزيزة بالجرعات السحرية ليغير أشكالها، حتى إن تشيشا نفسها كانت تعلم فقط أنه يستخدم الجرعات، دون أن تعرف ما الذي يخفيه أو أين وكيف يفعل ذلك.
وميا، حسب ما سمعت تشيشا ذات مرة، كانت تربط مكانها السري بعربة موضوعة فوق سقف متجرها، وإن كانت قد كشفت ذلك عن طريق الخطأ وهي سكرى، فمن المحتمل أنها غيرته الآن. هكذا كان أهل العالم السفلي يخفون كنوزهم في أماكن مرتبطة بهم، لكنها عصية على الآخرين.
“ولأنني لم أعرف ذلك، قضيت وقتي أفتش القصر والقلعة بلا جدوى”، فكرت تشيشا. لم تجد أي مساحة سرية أو شيء مخفي يُذكر، وكل ما عثرت عليه بجهد هو تقرير عن الجنية ليتشيسيا، لكنه لم يكن بالأهمية الكبيرة.
بدا أنه مجرد وثيقة قرأها كييرن سريعًا ثم أخفاها بعيدًا عن الأعين. “بالتأكيد، الأهم مخبأ في الغابة السوداء”، استنتجت.
تلك الغابة كانت ملكًا خاصًا لعائلة كونت باسيليان، يدخلها أفرادها بحرية، بينما تتجنبها العامة خوفًا من الشائعات المرعبة. وحتى من يتجرأ على زيارتها، يسلك طرقًا محددة فقط. كانت المكان المثالي لكييرن ليخفي فيه أسراره.
احتضنت تشيشا هاتا واتجهت نحو الغابة السوداء. ما إن خطت إليها حتى تناثرت أزهار زاهية وفراشات رقيقة لا تتناسب مع ظلامها القاتم.
أضاءت ومضات متلألئة كاليراعات المكان، ثم خبت تدريجيًا. على الرغم من كون النهار في أوجه، كانت الغابة السوداء تعانق الظلام، فأشجارها تحجب الشمس، وجوها الرطب البارد ينشر الكآبة في النفوس بمجرد الوقوف فيه.
وسط هذا السواد، كانت تشيشا، بشعرها الذهبي اللامع، كائنًا غريبًا لا ينتمي لهذا العالم.
“يا لها من غابة مقبضة…”، تذمر هاتا من بين ذراعيها.
“حقًا، وبما أن الوقت يضيق، فلنبحث بسرعة ونخرج”، ردت تشيشا وهي تتركه على الأرض.
رفعت ذراعيها ببطء، فاندفعت مئات الفراشات دفعة واحدة، تملأ الغابة السوداء بضيائها المتلألئ.
كان المشهد باهرًا، كأن الغابة لم تشهد مثل هذا النور منذ نشأتها. تفرقت الفراشات في كل الاتجاهات، تبحث عما أمرته تشيشا.
تركت خلفها خيوطًا من الضوء الخافت، ومع تبدد الظلام، لمحت تشيشا أشياء غريبة. تقدم هاتا ليرى عن قرب، فارتجف وانتفش فراؤه: “هل هذه وحوش الغابة السوداء؟!”.
كانت أشكالًا سوداء مشوهة تتحرك في الظلال، تفيض بشراسة وكأنها على وشك الفتك بكل من تقترب منه. لكنها، بغرابة، لم تهاجم تشيشا أو هاتا، بل مرت بجوارهما كما لو كانا شجرًا أو عشبًا.
راقبت تشيشا أحد الوحوش عن كثب. “ربما كان هذا سبب ذهاب كييرن مع فرسانة إلى هنا، ليصطادوا هذه المخلوقات”، فكرت. “في مكان مظلم كهذا، يقتلون هذه الأشياء المقززة، حتى الإنسان السليم قد يفقد عقله”.
تذكرت كيف عاد كييرن غريبًا بعد زيارته للغابة، ربما أثرت تلك المهمة على روحه. “الهواء نفسه يبدو راكدًا”، لاحظت. لحسن الحظ، كونها جنية وهاتا من أشباه البشر، لم يتأثرا سوى بانزعاج من الرائحة.
بينما كانت تتأمل الوحوش، اقتربت فراشة تحلق بحيوية، كأنها وجدت شيئًا. أخبرتها بموقعه، فأومأت تشيشا: “ليس بعيدًا، هيا بنا”.
“حسنًا! هل يحملكِ هاتا؟”، قال هاتا بحماس وهو يرفع قدميه، قبل أن يدرك أنه مجرد كلب صغير أصغر من تشيشا.
“…أوه، نسيت، أنا كلب الآن”، تمتم وهو يتبعها بخنوع. تقدمت تشيشا متتبعة الفراشة بخطى خفيفة، لكن سرعتها تباطأت فجأة. أمامها انبسط مشهد لم تتوقع رؤيته في الغابة السوداء أبدًا.
“واه…!”، هتف هاتا بعينين متسعتين كالقمر. كان حقلًا من الزهور المتفتحة بغزارة مذهلة. هنا فقط، لم تحجب الأشجار السماء، فتساقطت أشعة الشمس الدافئة بحرية.
كان من الصعب تصديق أن ما وراء هذا الحد المضيء هو تلك الغابة القاتمة. وفي وسط الحقل المزدهر بألوان الزهور، كان هناك… تابوت فارغ.
ترددت تشيشا لحظة، ثم تقدمت عبر الزهور نحو التابوت، وتبعها هاتا. كان التابوت نظيفًا بشكل مثير للدهشة، كأن سحرًا يحافظ عليه من التلوث رغم وضعه في العراء. أطلّت داخله.
بدا فارغًا من بعيد، لكنها، عندما اقتربت، رأت باقة ورد زهرية نضرة إلى جانب شيء صغير: زوج من الخواتم، للرجال والنساء، يبدو أنهما خاتما زواج. أدركت تشيشا فورًا لمن قد يكون هذا التابوت: زوجة كونت باسيليان المتوفاة.
تأملت الخواتم والباقة طويلًا. كانا شيئين رومانسيين بشكل لافت وسط وحوش الغابة السوداء.
بينما كانت غارقة في التفكير، اقتربت فراشة أخرى تدور حولها، تخبرها باكتشاف جديد.
جلست فراشات على الأشجار المحيطة بالحقل، وما إن اندمجت فيها حتى ظهرت كلمات مضيئة على الجذوع. كتابات محفورة بالسحر ومخفية بعناية.
حتى في غابة لا يقصدها أحد، ها هم يخفون أسرارهم مرة أخرى، كما يليق بأهل العالم السفلي.
“هاتا، لنقرأ معًا”، قالت تشيشا، فتقاسما المناطق وبدآ القراءة. تصلبت ملامحها وهي تقرأ الكلمات المتوهجة
[العالم الوهمي هو انعكاس للاوعي الجنية، مجال عقلي فريد. هل يعني ذلك أنه لا يمكن خلقه اصطناعيًا؟]
[حقن دم الجنية في ذكر فشل. في أنثى أظهر رد فعل، لكن مؤقتًا. ربما لأن الجنيات إناث فقط. بحاجة لدراسة جديدة.]
[جسد الجنية خالد. لم لا يمكن للبشر أن يصبحوا خالدين كالجنيات؟…]
كلها سجلات تجارب أجريت على الجنيات.
أصدرت تشيشا أنينًا خافتًا: “…آه”. التواريخ المكتوبة كانت متقاربة، تعود لمئات السنين، قبل ولادتها بزمن بعيد. تجارب قديمة على الجنيات، أجرتها… [باسم القديس].
الإمبراطورية المقدسة.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 43"