35
كنتُ قد عقدتُ العزم على التغاضي عن الأمر وتركه يمرّ دون اكتراث، لكن ما إن سمعتُ قصة إشويل حتى شعرتُ بكرامتي تُمسّ وتنهشها الحسرة.
“وهؤلاء الاوغاد قد انتزعوا ما هو لي!” هكذا هتفتُ في داخلي. لقد أخذوا القبعة التي صنعها هاتا، فكيف لي أن أظلّ ساكنة دون حراك؟
لستُ أدري من أيّة عائلة هم، لكنّني عزمتُ على أن أرتدي ثيابًا تفوق ثيابهم أناقةً وروعةً، لأكسر كبرياءهم وأُذلهم. ليس بما قد ارتدوه من قبل، بل بزيّ جديد كليًا يبهر الأنظار.
“إنْ صادفتُ في قاعة الاحتفال أولئك الذين سرقوا ثيابي، فلن أتركهم وشأنهم!”هكذا قررتُ في نفسي. لم يكن قراري مدفوعًا بالعاطفة وحدها، بل كان هناك غرضٌ أعمق.
“مرافقة التوأمين إلى العالم السفلي قد تكون ضرورة لا غنى عنها.”
إن زرتُ متجر القبعات ومحل الخياطة بحجة مرافقة التوأمين إلى ذلك العالم المظلم، فقد أعثر على خيطٍ يربط باسيليان بتلك الأعماق المجهولة.
وفي اليوم التالي، توجهتُ تشيشا بنفسي إلى التوأمين دون تردد. “ما هذا؟ هل جاءت الصغيرة؟”، قال كارها بدهشة.
“أختنا الصغرى أتت إلينا أولًا؟”، أضاف إشويل بعجبٍ ممزوج بالحيرة.
كانا مرتبكين من هذا الموقف الغريب، فدائمًا ما كانا هما من يبادران بزيارتي. كانا يقتحمان غرفتي في الصباح الباكر ليضايقاني، لكن هذه المرة رفعْتُ يدي أمامهما وقلتُ بصوتٍ طفولي متردد:
“أنا أريد الذهاب معكما.
“إلى أين؟”.
” إلى المكان الذي ستذهبان إليه اليوم، أخواي.”
“أوه… العالم السفلي؟ هل الصغيرة تريد الذهاب أيضًا؟ إنه مكانٌ خطر!”، ردّ كارها وهو يدفع إشويل بمرفقه كأنما يحثّه على ردعي.
حاول إشويل إقناعي بجدية: “لا يمكن ذلك، مكانٌ كهذا قد يبتلع صغيرة مثلك في لحظة، إنه مليء بالمخاطر.”
لكن من كان يعلم أن تلك الصغيرة، أنا تشيشا، هي نفسها الساحرة الشريرة التي اشتهرت بأفعالها في ذلك العالم الخطر؟
أجبتُ ببراءة مصطنعة: “لكن أخواي سيحميانني، أليس كذلك؟” لم أكن أبالغ، فقد رأيتُ بأم عيني مهارة كارها وإشويل. معًا، كانا كفيلين بمواجهة أي مشكلة في العالم السفلي، بل وتسويتها بسهولة والخروج سالمين.
بدَا أن التوأمين يفكران بالمثل، فقال كارها مترددًا: “حسنًا، هذا صحيح.” تبادلا النظرات، ولم أدع تلك اللحظة تفلت مني.
أرخيتُ عينيّ بحزن مصطنع، وبرزتُ شفتيّ بتعبيرٍ يثير الشفقة، وقلتُ بصوتٍ متوسل:
“أرجوكما… أريد حقًا الذهاب… أريد أن أخرج مع أخواي في نزهة…”
“آه…”، تأوه كارها وهو يتأثر بتوسلاتي. فكّر مليًا ثم قال بحزم: “لنأخذها معنا!”
“هل جننت؟”، هتف إشويل مذهولًا.
لكن كارها أصرّ: “وما المانع؟ فكّر في الأمر، لم نخرج مع الصغيرة بشكل لائق من قبل.”
“أول خروج لها يكون إلى العالم السفلي؟”، ردّ إشويل متعجبًا.
“أليس هذا أمرًا يليق بباسيليان؟”، قال كارها بابتسامة ماكرة.
تنهد إشويل بعمق، وإن بدا مترددًا، لم يكن يرفض بشدة. يبدو أن قلبه كان يميل هو الآخر لاصطحابي.
“من الأفضل أن نجرب وضع القبعة عليها بأنفسنا”،
أضاف، موضحًا أنه اعتاد طلب القبعات لأبيه وأخيه الأكبر، لكن مع أختٍ صغرى كان الأمر جديدًا عليه. وبينما كان إشويل يميل لأخذي، اقترب كارها مني وسأل:
“لكن، أين الكلب؟” كان الكلب قد ذهب لفتح باب المتجر، ولا بد أنه يعدّ القبعات الآن.
ضحكتُ بخفة وكذبتُ: “لقد أطلقته ليلعب قليلًا!”
“حقًا؟”، ردّ كارها وفي عينيه رغبة خفية في أن يختفي الكلب نهائيًا، فلم ينسَ بعد ضربة هاتا له بمخلبه.
“كلبٌ التقطناه من الشارع، فمن الطبيعي أن يضيق بحياة القصر”،
أضاف إشويل تحليلًا منطقيًا. أومأتُ موافقة بحماس، بينما تثاءب كارها ثم فتح عينيه فجأة وقال: “لكن إن ذهبنا بالصغيرة إلى العالم السفلي. سينزعج بيلزيون كثيرًا، أليس كذلك؟”
“…أجل، سيعاقبنا الأخ الأكبر”، أجاب إشويل.
تبادلا النظرات ثم ابتسما ابتسامة شقية متطابقة، وهتفا معًا: “ما دام لن يُكتشف أمرنا، فلا بأس!”
***
وكان من حسن الحظ أن بيلزيون كان خارج المنزل ذلك اليوم، وكيرن، كعادته، غائبًا أيضًا بعد أن أخبرنا بمغادرته مسبقًا.
خرج التوأمان من البوابة بثقة، وإن ارتبك الخدم لرؤية السيدين يصطحبان الآنسة الصغيرة، لم يجرؤ أحد على الاعتراض.
لكنهم نظروا إليّ بعيون متوسلة كأنما يقولون: “قولي إنك لا تريدين الذهاب، يا آنستي!” لكن قلبي كان يخفق شوقًا للمغامرة، فتجاهلتُ نداءاتهم الصامتة.
لم يستخدم التوأمان عربة عائلة باسيليان، بل استأجرا عربة أجرة تنتظرهما على مسافة من القصر.
بدا السائق مرتبكًا لرؤية طفلين صغيرين وفتاة تبدو كأنها ولدت بالأمس، جميعهم يرتدون أردية ذات قلنسوات تخفي ملامحهم، لكنه لم يعلّق.
حين لمح سيفين معلقين على خصر كارها، أطبق فمه وأدار العربة صامتًا. “انزلوا هنا”، قال عندما وصلنا مدخل العالم السفلي، وألقى نظرات مترددة وهو يأخذ النقود ويمضي.
“يبدو أنه أعجب بجمال الصغيرة” مازح كارها وهو يهزّ كتفيه، لكن مزاحه لم يكن موفقًا.
كيف يرى جمالي ونحن نرتدي الأردية؟ لكني رددتُ بثقة طفولية: “أليس هذا واضحًا؟”
ضحك إشويل وقال: “كأنك تقولين شيئًا جديدًا!”
ثم حملني بيد وأمسك مظلة بالأخرى، وتبعه كارها بخفة. كان العالم السفلي منطقة دائرية محددة الحدود، كأن يدًا خفية قطعتها من العالم الخارجي.
تحولت الأرض من عشبٍ وأزهار إلى تربة جرداء بمجرد أن خطونا داخله، دون حاجة للافتة تعلن عنه.
بدأت المتاجر تفتح أبوابها مع غروب الشمس، وتسلل الناس إلى الشوارع تدريجيًا. “اتبعني”، قال كارها وهو يتقدم بثقة.
رصدتُ هدوء التوأمين وهما يسيران كأنهما اعتادا المكان. كان العالم السفلي عجيبًا، غريبًا، مليئًا بالأسرار، مختلفًا تمامًا عن العالم الخارجي.
كانت المتاجر هنا فريدة، ما عدا متجر هاتا للقبعات. توقف التوأمان أمام لافتة تقول:
<متجر هاتا للقبعات>.
كان المكان لطيفًا وسط وحشية المحيط، مما أثار دهشة إشويل. “هنا؟”، سأل. “نعم، هنا”، أجاب كارها وهو يدفع الباب بقوة، فارتجّ الجرس معلنًا دخولنا.
كان المتجر مرتبًا بعد فوضى سابقة، وأذهلت القبعات المعروضة إشويل. “ألا يوجد أحد؟”، نادى بصوت مرتفع.
“أهلاً بكم…”،
جاء صوت متردد من الداخل، ثم ظهر هاتا بزيّ أنيق: بدلة رسمية، ربطة عنق، وقبعة راقية، مع زهرة صغيرة تزيّن صدره. كان يحاول إخفاء رائحته بعطر الزهرة التي صنعتها بقوتي السحرية.
ضحكتُ سرًا، بينما اقترب كارها منه بنظرات حادة، فتجمد هاتا رعبًا وهو يواجه الفارس الصغير الذي يفوقه طولًا وقوة.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 35"