الفصل 19
وقف الكونت لودين على رقعة الشطرنج، ينظر حوله في حيرة مشوشة.
“هل هذا حلم…؟”
حتى لو كان حلمًا، كان غريبًا بحق.
قطع الشطرنج تطفو في الهواء بلا وزن، دمية دب بلا رأس تترنح في مشيتها، جنود لعبة محطمة تسير في صفوف، ودمى ممزقة الأطراف تنبثق منها الحشوة تتخبط فوق حلويات وسكاكر مبعثرة. في هذا الفوضى العارمة، كانت فراشات ذات ألوان ساحرة ترفرف بأناقة غامضة.
تأمل الكونت إحدى الفراشات في ذهول، ثم خطا خطوة إلى الأمام.
“بلش”، داس شيئًا ما.
نظر إلى الأسفل، فأدرك أنه داس كعكة مقلوبة. تدفق منها سائل أحمر غامض يثير الاشمئزاز.
“أوغ…”
شعر بغثيان مفاجئ فكتم فمه، لكن في تلك اللحظة، رنّ صوت صندوق موسيقي.
كان الصندوق يطفو حول رأسه كأنه يستفزه، وفوقه دمية جنية تدور في رقصة دائرية.
أجنحتها المكسورة ووجهها المشكل على هيئة زهرة جعلاها تبدو كائنًا بشعًا. الموسيقى المبهجة التي أطلقها الصندوق، رغم نشازها المزعج، طعنت أذنيه بألم حاد.
كلما ازداد استماعه للنغمات، شعر برأسه يكاد ينفجر. تنفس الكونت كالكلب، يلهث بصعوبة. أراد الاستيقاظ من هذا الكابوس فورًا، لكن الرعب الحقيقي كان للتو يبدأ.
“مرحبًا.”
فتح عينيه على مصراعيهما عند سماع صوت نقي.
بدأت الزهور تنبت من أرضية رقعة الشطرنج. تشابكت الأشواك والنباتات بعشوائية، وتفتحت أزهار من كل نوع في كمال باهر. ثم، وسط أوراق الزهور المتطايرة، ظهرت امرأة كأنها تتفتح من بينها.
شعرها الذهبي المتعرج يتماوج مع النسيم، وعيناها الحمراوان تلمعان كأزهار الورد المبللة بندى الفجر. مع ظهورها، امتلأ المكان بعبير الزهور المسكر، مما جعل التنفس صعبًا.
نظر الكونت لودين إليها مذهولًا. لم يجد في لغته كلمات تصف جمالها. لكن بعد لحظة، لاحظ شيئًا غريبًا. كانت تحمل فأسًا. فأس ذو نصل أزرق مخيف، لا يتناسب مع يدها البيضاء الناعمة.
في تلك اللحظة، أدرك هويتها. تدفق العرق البارد على ظهره، وخفق قلبه بعنف كأنه سينفجر. تمتم الكونت متلعثمًا:
“الس-الساحرة…؟”
ابتسمت الساحرة ليتشيسيا كزهرة وردت التحية:
“مرحبًا بك في عالمي الوهمي، يا كونت.”
ثم داعبت مقبض الفأس وهمست:
“ماذا لو بدأنا بقطع إصبع واحد؟”
***
جلست تشيشا متعجرفة فوق كومة من الزهور، تنظر إلى الأسفل باستعلاء. ضحكت لرؤية الكونت لودين يهرب في ذعر على رقعة الشطرنج. عندما رنّت ضحكتها، تسارعت خطواته اليائسة، لكن ذلك كان عبثًا.
هذا المكان كان “العالم الوهمي” الذي خلقته تشيشا، منطقة خيالية خاصة بالجنيات. كان كل عالم وهمي يختلف حسب الجنية، وغالبًا ما كان يتخذ شكل الغابات أو الحقول أو البحيرات. لكن عالم تشيشا كان استثنائيًا.
ربما لأنها ابنة جنية مجنونة؟ بقوتها المنحرفة، كان عالمها الوهمي مليئًا بأشياء غريبة تليق بلقب “الساحرة”. كان مليئًا بالألعاب والحلويات التي قد تعجب الأطفال، لكنها كلها محطمة ومشوهة.
ومع ذلك، أحبت تشيشا عالمها الوهمي. كان مكانًا يتحرك بإرادتها وحدها، حيث يمكنها تغيير شكلها بحرية.
“أليس شعورًا رائعًا أن أصبح بالغة بعد وقت طويل؟”
مدت أطرافها الطويلة النحيلة بدلاً من أطرافها القصيرة، فشعرت بانتعاش يغمرها. كما كان لسانها الطويل الحر رائعًا. استمتعت بإحساس عودتها كالساحرة ليتشيسيا، وهزت أصابعها.
فجأة، هبطت قطع الشطرنج الطافية في الهواء على الرقعة بضجيج “طاخ طاخ”. أحاطت بالكونت لودين، الذي أصبح محاصرًا دون حراك. جرّته القطع إلى أمام تشيشا.
سقط الكونت على الأرض متذللاً:
“ار-ارحميتي! لدي أطفال كالأرانب وزوجة كالثعلبة!”
مالت تشيشا رأسها متسائلة وهو يضرب رأسه بالأرض متوسلاً:
“ولدي أخ كالأفعى وأب أيضًا؟”
“ماذا؟”
تردد الكونت مرتبكًا، ثم أدرك شيئًا وسأل:
“لكن لماذا أنا… لماذا جئتِ إليّ؟”
كان سؤالًا منطقيًا. اختفت الساحرة مؤخرًا دون أثر، وانقطعت أخبارها، فظن الجميع أنها ماتت أو اختفت. ثم ظهرت فجأة لتحبس الكونت لودين، الذي لا علاقة له بها، في عالمها الوهمي. كان من حقه أن يتساءل.
نظرت تشيشا إليه وهي تداعب مقبض الفأس:
“يا كونت.”
“ن-نعم…؟”
“عندما تسحق نملة عضت إصبعك بالصدفة، ما الذي تفكر فيه؟”
“لا أفكر بشيء.”
“نعم، هكذا هو الأمر. رغبتي في قتلك…”
ضحكت تشيشا بخفة وقالت:
“لا تحتاج إلى سبب.”
رفعت الفأس برفق وضربت كومة الزهور. تدفق سائل وردي كالطلاء منها.
“آه!”
صرخ الكونت لودين كأن الفأس أصابته، وبدأ الدموع تنهمر من عينيه، وهو يرتجف كمن على وشك أن يفقد السيطرة على نفسه.
“ارحمني! أرجوكِ ارحميني! سأفعل أي شيء، سأعطيكِ المال، كل شيء!”
ترددت تشيشا وهو يتوسل بجنون. هل تقتله بسرعة أم ببطء؟ كلا الخيارين له مزاياه وعيوبه، مما جعل القرار صعبًا.
بدأت الأشواك تتلوى بين الزهور، معلنة عن وجودها. كانت الزهور في عالمها الوهمي وهمية، لكن الأشواك كانت نباتها الأليف الذي ربته بعناية. ربتت الأشواك على يدها بلطف، كأنها تطلب طعامًا بعد جوع طويل.
“همم… هل يجب أن أطعمها زهرة بعد؟”
تمتمت بخفة، ففرك الكونت لودين يديه وتوسل ببكاء. كان صوته مزعجًا لدرجة أنها فكرت في قطع لسانه أولاً بدلاً من إصبعه، خاصة أنه أساء لأخويها ووالدها من عائلة باسيليان.
رفعت الفأس عاليًا، لكنها توقفت فجأة. شعرت بموجة قوة من خارج عالمها الوهمي، قوة مألوفة مرت بها من قبل. قفزت تشيشا من كومة الزهور وهزت الفأس.
في لحظة اصطدام النصل بالهواء، تحطم العالم الوهمي كالزجاج، وتناثرت أوراق الزهور، ثم عادت تشيشا إلى شكلها كطفلة صغيرة وهبطت على الأرض.
كان المكان الذي ظهر بعد تلاشي العالم الوهمي هو مكتبة قصر الكونت لودين. لا يزال الكونت يتلوى على الأريكة، يتوسل “ارحمني” وهو لم يستعد وعيه بعد.
“آه، أرجوكِ، إن أرحمتِني…”
ألصقت تشيشا فراشة على جبهتها بسرعة، ثم ركضت بخطواتها القصيرة لتختبئ خلف أريكة أخرى في المكتبة.
أطلّت برأسها قليلاً، فسمعت صوت القفل يُفتح “كليك”، ثم صرير الباب “كيييك”.
تردد صوت كعب حذاء يضرب الرخام بتراخٍ. توقفت الخطوات الواثقة أمام الكونت لودين المتلوي على الأريكة.
“آه!”
صرخت تشيشا في داخلها. توقعت ذلك منذ شعورها بموجة القوة خارج عالمها الوهمي…
“إنه كييرن؟”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 19"