**الفصل 145**
ضيّق بيلزيون عينيه ببطء.
كانت السماء صافيةً زرقاء، لكن صوت المطر ظل يتردد في أذنيه.
أزعجه وهمٌ سمعيٌّ يلتصق بأذنيه، مع عبير الزهور الكثيف الذي اخترق أنفه، مخنقًا أنفاسه.
كان المشهد مطابقًا تمامًا لذلك اليوم: يوم الجنازة الممطر.
لو أنه لم يعرف منذ البداية، لكان ذلك أفضل.
أمه، وأخته الصغرى الجديدة،
كنجمة الصباح التي سقطت في قلعة الأفعى القاتمة، مضيئةً إياها بنورها.
منحتاهما دفءً ساطعًا، علّمتاهما معنى السعادة، ثم اختفتا.
تُرك المتبقون يعانقون ماضيًا لن يعود أبدًا، يتألمون في صمت.
كانوا يتشبثون بذكرياتٍ شائكة كالأشواك، يتألمون من جروحها ولا يستطيعون التخلي عنها.
أليست هذه هي اللعنة الحقيقية؟
هربت منه ضحكةٌ ساخرة.
أفلت السيف الذي كان يعتصره بقوة، عندما خارت قواه.
ترك السيف السحري يهوي فوق الزهور، وحدّق في كييرن.
كان قد فقد صوابه تمامًا.
في اللحظة الأخيرة، كان امتناعه عن استخدام السحر الأسود يعود إلى تشيشا فحسب.
لولاها، لكان كونت باسيليان قد كشف، في قلب الإمبراطورية المقدسة، عن كونه ساحرًا أسود بلا مواربة.
دوارٌ مستمر جعله يغمض عينيه بقوة ثم يفتحهما.
في جنازة أمه، قرر كييرن إحياء الموتى، وألقى بقوته السحرية في الظلام، ففسد.
فماذا سيعمل هذه المرة؟
الآن، وقد خسر أخته الصغيرة وأمه التي كان سيضحي بها لإحيائها.
نطق بيلزيون بلقبٍ لم يستخدمه منذ زمن:
“…أبي.”
كييرن، الذي كان يحدق في المكان الذي غادرته تشيشا، استدار بوجهٍ خالٍ من التعبير.
“استفق.”
عندما كرر الكلمات ذاتها التي قالها يومها، ارتفعت زاوية فم كييرن بابتسامة خفيفة.
نظر إلى أبنائه.
كانت الأفكار والمشاعر نفسها تربط أبناءه بدم الرحم، متطابقةً بشكلٍ مخيف.
ابتسم كييرن، الذي لم يتعلم البكاء قط.
ابتسامته الماكرة كانت متألقة، لكنها بدت هشة كأنها ستتحطم في أي لحظة.
“…بصراحة، أريد أن أقتلهم جميعًا.”
تمتم كييرن، ضاحكًا كأنما يتنهد.
“لكن ذلك سيجعلني مكروهًا، اليس كذلك ؟ يجب أن أكون أبًا صالحًا…”
مسح وجهه بيده.
كانت خدوده الشاحبة ملطخةً بالدم الأحمر.
نظر حوله ببطء، بوجهٍ متسخ.
مع اختفاء تشيشا، بدأت كتل الزهور تتلاشى تدريجيًا.
كان من سحرتهم اليوزية يستعيدون وعيهم واحدًا تلو الآخر.
شعروا بالحيرة لسحرهم اللحظي، لكنهم لم يستطيعوا نسيان النشوة القصيرة والقوية، فظلوا يستعيدونها في أذهانهم.
جلس ريميل، الذي تسبب في كل هذا بتخليه عن التاج لتشيشا، على الأرض بوجهٍ أحمق.
حدّق كييرن في ريميل، ثم فتح فمه:
“الإمبراطورية المقدسة تحتجز جنية
لتجاربها… ربما يجب أن أبحث عنها.”
بدلاً من مطاردة جنية طليقة، سيكون العثور على واحدة محبوسة أسرع بكثير.
وإذا كانت جنية، فلا بد أنها تعرف طريقًا إلى مملكة اليوزيات.
تمتم كييرن بابتسامة ماكرة:
“إذا قبضت عليهم وسألتهم… فسيقودني أحدهم إلى مكان ابنتي.”
لم يرد أن ينتظر عودة تشيشا بهدوء.
لا، لم يستطع الانتظار.
لن يشتاق باسيليان لأحدٍ بعد الآن.
—
“آه!”
صرخت تشيشا.
عندما انفتحت رؤيتها المغطاة بالزهور مجددًا، بدأ جسدها يهوي.
حرّكت أطرافها القصيرة بعصبية، واتسعت عيناها.
“آه…؟”
تباطأت سرعة السقوط تدريجيًا، فبدأت تتبين المناط.
كانت تشيشا تهبط في ممرٍ ضيق كجحر أرنب.
في الممر، كانت أشياء متفرقة تطفو بحرية: لوح شطرنج، دمية محطمة، كعك ومعجنات مهروسة، زهور بألوان زاهية، وشجيرات شائكة متشابكة.
كلها بدت مألوفة.
فحصت تشيشا المكان بعناية، ثم مدّت يدها لتمسك بشيءٍ ما.
بعد تفقده، تمتمت بدهشة:
“هذه أشياء من عالمي الوهمي؟”
كل شيء كان موجودًا في عالمها الوهمي.
كانت الأشياء قد تقلّصت لتناسب الممر الضيق، لكن حتى الأجزاء المحطمة كانت متطابقة تمامًا.
أثناء فحصها، أدركت فجأة.
طريقة الوصول إلى مملكة الجنيات: كانت تمر عبر عالم الوهم الخاص بالجنية.
“مملكة الجنيات نفسها عالم وهمي ضخم.”
فتح طريق جديد عبر عالم الوهم سيؤدي إلى المملكة.
هذا يفسر وجود أشياء من عالمها الوهمي تطفو هنا.
“لكن…”
رمشت تشيشا ببطء.
كانت سرعتها الآن بطيئة بما يكفي لتتمكن من فحص المناط.
“هذا ليس من عالمي الوهمي.”
بين الحين والآخر، كانت هناك أشياء غريبة مختلطة.
أمسكت تشيشا بحذر بساعة جيب فضية يحملها كييرن.
تك تك تك.
عندما وضعتها على أذنها، سمعت صوت عقرب الثواني بوضوح.
بعد تردد، ضغطت على غطاء الساعة لتفتحها.
في الداخل، كانت هناك كلمة محفورة بخطٍ يدوي ناعم:
[روز]
حدّقت في كلمة “روز” مليًا.
بينما كانت تستمع إلى صوت تك تك العقرب دون وعي،
فجأة، بدأ كل شيء يذوب كالألوان المائية.
تلاشى الظلام، وتكشّف مشهدٌ جديد.
ظهر أمام تشيشا حقلٌ شاسع من الزهور.
كانت امرأة تمشي بخفة في البرية المزهرة.
كانت ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا، شعرها الأشقر الطويل يتدلى بعشوائية، والفستان متسخٌ لدرجة يصعب تمييز بياضه.
قدماها الحافيتان ملطختان بالطين والدم، وأطرافها المكشوفة مغطاة بالجروح، مؤلمة لمجرد النظر.
لم تكن ملامح وجهها واضحة، مخفيةً بشعرها المشعث، لكنها كانت تغني وهي تمشي.
مع كل خطوة، كانت الزهور تذبل، والحقل يجف.
فقدت الأوراق الخضراء حيويتها، أصبحت صفراء وتحطمت.
كل شيء كان ينهار، لكن المرأة كانت تضحك.
كانت تغني لحنًا غامضًا، تترنح وتخطو بلا توقف.
لأي سببٍ كان، لم تستطع تشيشا رفع عينيها عنها.
ثم، فجأة، انتقلت نظرتها إلى بطن المرأة.
في جسدها النحيل الجاف، كان بطنها المنتفخ هو الجزء الوحيد الحي.
ضربها شعور مفاجئ كالصاعقة.
فتحت تشيشا فمها دون وعي:
“أمي؟”
كلمة لم تنطقها قط.
ناديتها كأن الكلمة انفجرت من داخلها، لكن المرأة لم تلتفت.
استمرت في السير قدمًا.
لم تجد تشيشا الشجاعة لتناديها مجددًا، فتبعتها مترددة.
مشيت المرأة طويلاً، تضحك وتغني، حتى سقطت فجأة.
“أمي…!”
هرعت تشيشا إليها.
لكن هذا كان جزءًا من ذكرى عالم الوهم.
كما عندما رأت ذكريات هيلرون، مرت يد تشيشا عبر المرأة بلا جدوى.
كانت المرأة ملقاة على الأرض، تتنفس بصعوبة.
أنّت بألم، ممسكة بطنها بيدين مرتجفتين.
توقفت تشيشا عن التنفس.
نظرت إليها دون أن تتنفس.
طفلةٌ جاءت من علاقةٍ غير مرغوبة.
ربما بسببي لم تتمكن أمي من الهروب من المختبر.
ربما بسببي جُنّت…
كانت هذه ظنونها.
افترضت أن أمها بالتأكيد تلومها.
تخيلتها تلعن الطفلة في بطنها، تصرخ في غضب.
لكن:
“صغيرتي.”
تمتمت المرأة بشفتين متورمتين.
“صغيرتي الحبيبة.”
على الزهور الميتة، احتضنت بطنها المنتفخ بحنان، وهمست:
“أمي آسفة…”
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 145"