العاجز.
“تمسّك بهدوء.
وإلّا فسأُعيد القبض على تلك المرأة.”
استعاد رافين كلماتِ الرجل.
“أوغادٌ ملعونون.”
تفقّد رافين وجوهَ الواقفين إلى جواره.
كانت لأذرعهم حراشف،
وشعرهم وعيونهم تميل إلى الأزرق،
كما أنّ مقدار المانا لديهم كان مرتفعًا.
‘ستّةٌ بالمجموع.
المانا كلّها مائيّة،
وكمّيّتها…’
أستطيع قتلهم جميعًا.
‘لكن إن فشلتُ في الصفقة وعدتُ،
فلن تُعجِب لوسي بذلك.’
اللعنة.
نظر رافين إلى أطراف أصابعه المرتجفة.
ذلك القلقُ الذي كان ينتابه كلّما افترق عن لوسي،
تضاعف بعد لقائه بفارسِ الطلسم.
سأحاول إنجاح الصفقة لأجل لوسي،
لكن إن هدّدوا حياتها،
فسأقتلهم جميعًا.
“أيّها الإنسان.
لا تحاول العبث.”
حذّره الرجل،
وقد بدا أنّه قرأ نِيّة القتل في عينيه.
“لقد حفظنا رائحةَ المرأة.
وبحسب تصرّفك،
نُقرّر إن كانت ستُؤسَر مجدّدًا أم لا.”
“أوغادٌ لعينون.”
“إن بقيتَ ساكنًا،
فلن نؤذيك.
نحن أيضًا بحاجةٍ إليك.”
‘بحاجة؟’
“اسمي لوفون.”
رفع رافين بصره إلى الرجل المتزيّن بزخارف فاخرة.
‘ما الذي يخطّط له؟’
منذ لحظاتٍ كان يهدّده بالرمح،
والآن يعرّف بنفسه ويتصرّف بودّ.
لم يستوعب رافين ذلك التبدّل.
“يا سيّد لوفون.
مهما فكّرنا في الأمر،
فهذه ليست طريقةً صائبة.”
ما إن راوده الشكّ،
حتّى سأل أحدُ رجال البحر الواقفين بجانبه.
“سيعارض الشيوخُ هذا.”
“هذا الرجل يمتلك كمّيّةً كبيرة من المانا.
وقال إنّه جاء للتجارة معنا،
فلعلّ آراءنا تتلاقى.”
“لكن الشيوخ…”
“الزعيم مختلف.
إن كان في ذلك مصلحةٌ لقبيلة الأوبوم،
فهو لا يتردّد في التعاون مع البشر.”
من خلال حديثهم،
أدرك رافين أنّ قبيلة الأوبوم تمرّ بأزمة.
البحرُ كذلك،
وهذا المكان أيضًا تفوح منه رائحةٌ باعثة على القشعريرة.
وبالنظر إلى السائل الأسود الملتصق بجدران الكهف،
بدا أنّ الأمواج اخترقت الحاجز ووصلت إلى الداخل.
‘وذلك البحر…
خطر.’
فكّر رافين.
الابتعاد عن البحر سيكون أكثر أمانًا للوسي
من أن تُساق معه إلى هنا.
‘نعم،
إن لجأتْ إلى أعلى الجرف…’
لكنّه تذكّر فجأةً جرفًا عاليًا بلا سُلّمٍ واحد.
كيف يمكن للوسي أن تصعد؟
لا سبيل.
‘كيف لم أنتبه إلّا الآن!’
أنا غير مؤهّلٍ لأن أكون حاميها.
في النهاية،
استخدم رافين المانا وقطع الحبل المكمّم لفمه.
“مـ، ما الذي تفعل—!”
كانت قوّةً ظهرت بلا إنذار.
توقّف رجال البحر القريبون،
ووجّهوا رماحهم نحوه.
“لن أعبث.”
همس رافين بصوتٍ منخفض.
“احموا المرأة التي جاءت معي.
إن نقلتموها سالمَةً إلى أعلى الجرف،
سأدعكم تقتادونني دون مقاومة.”
“وإن رفضنا؟”
ما إن نطق لوفون،
حتّى أظلم وجه رافين.
“سأقتل الجميع.”
كان صوته منخفضًا حدّ التشقّق.
وانبعثت من جسده قوّةٌ ذات رائحةٍ خانقة.
ارتجفت الأرض،
وزمجر الكهف كأنّه يخشى تلك القوّة.
دَوّى الاصطدام في القاع،
وتساقط الرمل والحصى من السقف.
“…حـ، حسنًا.”
أجاب لوفون قبل أن تقع الكارثة.
“لا ينبغي أن تُصاب لوسي بخدشٍ واحد.”
امتلأ الكهف بصوت رافين.
ابتلع لوفون ورجال البحر ريقهم،
ونظروا إليه.
رغم أنّهم قيدوه بالحبال وحاصروه،
إلّا أنّ الأقوى هنا كان رافين.
“سيكون ذلك.”
أومأ لوفون بيده.
فعاد رجلان من خلف رافين في الطريق الذي أتيا منه.
‘ألا توجد نساءٌ في قبيلة الأوبوم؟’
كان يعلم أنّهما ذاهبان لنقل لوسي إلى مكانٍ آمن،
لكنّ صدره انقبض.
تخيّلهم يحدّثونها وهم مكشوفو الصدر، وشعر بالغثيان.
وإن فعلت لوسي كما فعلت معه قبل قليل، ودفنت رأسها في صدورهم…
أراد أن يقطع أعناقهم جميعًا، ثمّ يفتح صدره مرّةً أخرى للوسي وحدها.
“غريبٌ حقًّا.
إنسانٌ بعجزٍ تام،
وآخر بمانا هائلة.”
“……”
“أليست حالات العجز نادرة بين البشر؟
أم أنّ عددهم أكبر ممّا يُقال؟”
لم يُجب رافين سؤال لوفون.
في تلك الأثناء،
انفتح أمامهم فضاءٌ واسع،
يبدو أنّه موطن قبيلة الأوبوم.
توقّف رافين عند بنية نافورةٍ ضخمة.
سبعُ طبقاتٍ تحيط بتمثالٍ عظيم في الأعلى،
وكانت المساحات واسعة،
تنتشر فيها مساكنُ كثيرة لأفراد القبيلة.
وكما يليق بقومٍ مائيّين،
لم يكن ثمّة موضعٌ جافّ.
تدفّق الماء من الأعلى كنافورة،
وتجمّع في الأسفل حتّى بلغ الكعبين.
لو رأت لوسي هذا المكان،
لتلألأت عيناها دهشةً.
وما إن تخيّل وجهها،
حتّى اشتاق إليها،
فحكّ قلبه شوقٌ لطيف.
“هنا موطن قبيلة الأوبوم.”
“……”
“سأقودك إلى حيث يوجد السيّد تريتون.
اتبعني، أيّها الإنسان.”
—
“هاه…
هاه…”
حدّقتُ في الحاجز الصلب الذي يسدّ طريقي.
انتهى أمري.
أردتُ الدخول،
لكنّ قوّتي لم تُحرّكه قيد أنملة.
يا للهول،
هل سأضطرّ إلى استخدام آخر وسيلة؟
“من فضلكم!”
“……”
“ألا يمكنكم فتح الباب؟
مرّةً واحدة فقط!
أرجوكم!”
كان ذلك تضرّعًا صريحًا.
“لا أستطيع الصعود وحدي إلى الجرف!
هل تسمحون لي بالبقاء هنا؟
سأستقرّ تمامًا!”
“……”
لم يصلني ردّ،
رغم صدقي.
آه…
فلأسترح قليلًا.
‘رافين بخير، أليس كذلك؟’
لم يكن قلقي عليه.
رافين قويّ.
ولو كان سهل المنال،
لما رضي بالأسر أصلًا.
ما أخشاه،
أن يحتدم النزاع.
وحينها ستفشل الصفقة،
وسيغضب داميان غضبًا عارمًا.
مجرّد التفكير أوجع رأسي.
‘…هم؟’
فجأةً،
برد ما تحتي.
“هذه مصيبة حقيقيّة.”
ليس رافين،
بل أنا.
حين أنزلتُ بصري،
رأيتُ الماء وقد غمر الكهف.
‘منسوب البحر يرتفع.’
وبهذا المعدّل،
سيغرق المكان قريبًا.
التقطتُ حقيبة الفاكهة وحقيبتي،
وتوجّهتُ خارج الكهف.
“آه، بارد!”
لم يكن شتاءً،
لكنّ الماء كان كالجليد.
لسع ساقَيّ وكأنّهما مجروحتان.
ارتجفتُ وأنا أخرج،
فاستقبلني الجرف العالي.
صحيح…
كان هنا جرف.
‘واو…’
كيف سأصعد؟
لم يخطر ببالي سوى التمسّك بالصخور البارزة.
لا خيار آخر.
لففتُ كيس الفاكهة حول يدي،
وتشبّثتُ بالجرف ببطء.
وحين خرجت قدماي من الماء،
تشنّجتا بسبب تغيّر الحرارة المفاجئ.
‘هوف…
استراحة قصيرة.’
بعد أن هدأت أنفاسي،
تمسّكتُ بالصخرة التالية.
وعاد الإحساس تدريجيًّا إلى قدميّ.
‘أستطيع.’
سبق أن تسلّقتُ جرفًا أعلى من هذا طوال يومٍ كامل وأنا مريضة.
وبالمقارنة،
هذا لا شيء.
هل بلغتُ المنتصف؟
كانت الأمواج العاتية لا تتوقّف.
خطأٌ واحد،
وسأُقذَف إلى العالم الآخر.
‘…سحبتُ كلمة لا شيء.’
مهما كان التدريب،
فالخوف يظلّ خوفًا.
“ماذا تفعلين؟
الجرف خطر!
انزلي فورًا!”
جاءني صوتٌ غريب من الأسفل.
“إنّه المدّ!
علينا أن ننسحب!”
كان هناك اثنان من قوم الأوبوم،
هما نفسيهما اللذَين حاصرانَا سابقًا.
عادا بسبب صراخي؟
“كـ، كيف أنزل؟!”
لو علمت،
لما صعدت أصلًا!
فكّرتُ بالقفز إلى البحر،
لكنّ الأمواج كانت أعنف.
‘هل سينقذني رجال البحر؟’
همم…
لا أظنّ!
مددتُ إحدى ساقَيّ للأسفل.
“آه!”
غفلتُ عن أمرٍ واحد.
تدرّبتُ كثيرًا على الصعود،
لكنّي لم أتدرّب يومًا على النزول.
أي إنّ جسدي الآن
يفقد توازنه متّجهًا إلى الهلاك.
“آآه!”
—بلوب!
“أوه!”
‘بارد!’
كان البحر أبرد ممّا تخيّلت.
حاولتُ رفع رأسي فوق السطح،
لكنّ الأمواج كانت عنيفة.
‘لا أستطيع التحكّم بجسدي!’
دار جسدي كدوّامة،
وبدأ وعيي يتلاشى.
‘هل سأموت هنا؟’
لا!
ما زال لديّ الكثير لأفعله.
التعليقات لهذا الفصل " 30"