التفضيلات.
كانت معركةً شاقّةً بحقّ.
وبحساب الصفحات، ثلاثين صفحة كاملة.
مراجعة ثماني مرّات، وتعديل خمس مرّات، وتنقيح أخير خمس مرّات.
وفي النهاية… أنجزتُها!
لم أتوقّع يومًا أنّ العمل والدراسة بأسلوبٍ إسبرطيّ قاسٍ في أوهان سيفيدانني هنا.
“تفضّل.”
وهكذا عدتُ مجدّدًا إلى نقابة بيندون.
“ما هذا؟”
“رتّبتُ تحقيق قبيلة الأوبُوم.”
أطلق داميان زفرةً عميقةً كأنّ الأرض ستنهار تحت قدميه.
“قلتُ إنّكِ مفصولة. كيف دخلتِ النقابة أصلًا؟”
“آني وبقيّة الأعضاء فتحوا لي الباب.”
“أوغادٌ لعينون.”
لم أُبالِ، ووضعتُ الأوراق التي جلبتُها فوق المكتب.
كان حاجباه المعقوفان يشتمانني صامتَين، ووجهه يسبّ بدل لسانه.
“هل أوهان هو من أمركِ؟”
لماذا يخرج هذا الاسم القذر هنا؟
“قلتُ لكَ بالأمس أيضًا. أنا لستُ من عائلة أوهان.
“
“هذا كذبٌ…”
“طُرِدتُ.”
توقّفت حركة داميان.
“…لا أعلم ما ظروفكِ.”
ثمّ تابع:
“لكنّكِ نشأتِ مستفيدةً من امتيازات أوهان. هل تزول أوهان من داخلكِ لأنّكِ طُرِدتِ؟”
“لا تزول.”
طفا إلى السطح مجدّدًا ذكرى قديمة كريهة.
‘لا أريد الذهاب إلى الأكاديميّة. اطردوني بدلًا من ذلك! من هذا القصر الجبان القذر!’
‘جبان وقذر… ماذا؟’
قلتُ ذلك لأبي بعد تثبيت قبولي في الأكاديميّة.
كنتُ غاضبةً ومحبَطة لأنّني انتزعتُ مكان شخصٍ آخر.
كنتُ أتمنّى المانا بصدق، لكن ليس بهذه الطريقة.
“لكن انظر إلى هذا.”
أخرجتُ من جيبي ورقةً مجعَّدة.
【- التفضيلات –
شخصيّة طيّبة.
من يستطيع الابتسام حتّى أمام شخصيّةٍ لُعِنَتْ أخلاقُها.
من يعيش معنا كالعائلة.
من قلبه جميل.
من لا يتأذّى في أيّ ظرفٍ كلبيٍّ قاسٍ.
من قلبه قويّ.】
“تفضيلات نقابة بيندون لا تشمل ‘المنصب السابق’ ولا ‘المؤهّل الدراسي’.
ولا تشمل ‘السجلّ السابق’ أيضًا.”
نظرتُ إلى السيرة الذاتيّة؛ لا بندَ فيها يزعجني بشأن ماضيّ.
ثمّ إنّني طيّبة الطبع فعلًا، وقادرة على تحمّل أيّ رئيسٍ كلبيّ الأخلاق!
وقلبي جميل… هذا بديهي.
“مَن كتب هذا الهراء…؟”
شوّه داميان وجهه وهو يحدّق في السيرة.
“هذا ما كتبه أولئك الأوغاد من الأعضاء على هواهم.
نقابة بيندون تختار، في الأصل، الأكفأ فقط.”
“هل تختارون فعلًا الأكفأ والأجدر فقط؟”
“إن كنتِ تفهمين، فلمَ لا تذهبين الآن؟”
“إذًا، هذا أنا تمامًا!”
“ماذا؟”
حان وقت الترويج لنفسي.
“هذا ملفٌّ رتّبتُه البارحة دون نوم.
العمل الميداني مارستُه منذ زمن، وأنا واثقةٌ من نفسي.
لا أطلب التوظيف. فقط قيّموني.”
“…”
“وإن كان سيّئًا، سأعوّضك عن الوقت.
أيّ شيءٍ يريده القائد.”
“وماذا يمكن لفتاةٍ مطرودة من أوهان أن تعوّض به؟”
كان سؤالًا حادًّا.
“أجيد الرماية. كنتُ من القوّات النظاميّة.”
“نظاميّة… ماذا؟”
“وأجيد صنع الأقواس أيضًا.”
“…”
صمتَ داميان، ثمّ أخذ يحدّق في الوثائق كما يفعل ممتحنٌ صارم.
كانت عيناه منذ الصفحة الأولى غير عاديّتَين.
قرأ بعناية دون أن يهمل ورقةً واحدة، ثمّ رفع رأسه بعد أن بلغ نصف الصفحة.
“هل فعلتِ هذا وحدكِ حقًّا؟”
التقت نظراتُنا.
“في يومٍ واحد؟”
“بدءًا من ظهر الأمس تحديدًا.”
خفض داميان نظره.
“…حتّى في الأكاديميّة، كانت تلك الحماقة العنيدة وحدها مشهورةً عنكِ.”
أهو ذمّ أم مدح؟
“آني!”
بعد أن حسم أمره، نادى آني التي كانت تنتظر في الخارج.
“آني! آني!”
“هـ-هَه… نعم، سيّدي القائد!”
“أرشدي لوسي داخل النقابة.”
“إلـ… الخارج؟”
“قلتُ الداخل. الخارج ليس نقابة.”
هل يعني هذا…؟
“لا تُسيئي الفهم.”
قال داميان ببرود.
“لم تنجحي بعد. هذا ‘قبولٌ مؤقّت’.
أسبوع واحد فقط. هذا اختباركِ.
إن قصّرتِ ولو قليلًا، الطرد الفوري.
إن لم يُعجبكِ، الباب مفتوح.”
أيّ تذمّر؟
“سأبذل قصارى جهدي! سيّدي القائد!”
“دخلتِ الجحيم بقدميكِ.”
قالت آني بصدق.
“لم أرد أن أرى شخصًا طيّبًا مثلكِ يتحطّم.”
“أنا سعيدةٌ جدًّا بالعمل معكِ يا آني!”
“لوووسي…”
“تشرفتُ بمعرفتكِ.”
احمرّت عينا آني، فأدارت وجهها قليلًا، ثمّ عادت بملامحها المعتادة.
“من اليوم ستستلمين… لا، ستتسلّمين الأعمال التي خلّفها المساعد السابق.”
“نعم.”
“والتقارير إلزاميّة في نقابتنا.
ستبدئين فورًا بتنظيم تقارير القائد.”
كان العمل كثيرًا بسبب استقالة المساعد السابق تِباعًا.
لكن، كيف كانت حياتي في أوهان؟
أستيقظ في الرابعة فجرًا، تدريبٌ بدنيٌّ مختصر، ثمّ مبارزات مع وحوشٍ متقدّمة.
ثمّ دروس الإدارة العمليّة، وتدريبات جحيميّة شتّى، وتدريبٌ مستمرّ على اكتساب المانا.
بعد الظهر، دروس الوراثة، ثمّ توبيخٌ قاسٍ من أبي، واحتكاكات مع إخوتي لاختبار تدريبات الجحيم.
ثمّ استقبال الضيوف، وتعلّم الإتيكيت، وقليلٌ جدًّا من الوقت الحرّ.
حتّى المساء كان مكتظًّا.
بعد الطعام مباشرةً، تدريب مانا لا أمل فيه، ثمّ دروس تاريخ أوهان مع اختبارات.
وأخيرًا، دروس الوراثة الإضافيّة، أعذب من تهويدة النوم.
النوم في الحادية عشرة، والاستيقاظ في الرابعة.
تكرار، تكرار، تكرار… بلا نهاية.
بالمقارنة، كانت نقابة بيندون نزهة!
بل ويمنحون راتبًا أسبوعيًّا لم تكن العائلة تعطيني إيّاه.
أهذا… جنّة؟
“لوسي، إن كنتِ مصدومة، فلا أجد ما أواسيكِ به.”
“نعم، صدمة بالفعل.”
أوّل جنّة أدخلها كانت صادمة.
“ومؤثّرة أيضًا.”
“مُـ… مؤثّرة؟”
كانت آني تنظر إليّ كأنّني مجنونة.
“نقابة بيندون مؤثّرة بمعنى آخر… لكن لها مزايا.
الأراضي شاسعة بلا داعٍ.
المبنى الرئيسيّ والملحق للإدارة والأعمال،
وهذان المبنيان المنخفضان في الطرف مخزن الأسلحة والحدادة،
وبجانبهما ساحة التدريب والإسطبل الكبير.”
“وأين المطعم؟”
أقسم أنّ سرّ كفاءة العمل: أوّلًا الطعام، ثانيًا الطعام، وآخرًا الطعام.
“في الطابق الثاني من الملحق. فخر نقابتنا.
الفرسان يثورون من طبع القائد، لكنّهم يهدأون فور الأكل.
صدقيني، لولا المطعم لانهارت النقابة.”
ما إن دخلنا حتّى فاحت روائح شهية، وكان الأعضاء يتناولون طعامهم.
“وأخيرًا، نصيحة.”
شدّت آني انتباهي بجدّيّة.
“حاولي ألّا تُبقي سلاحكِ قريبًا أثناء العمل.”
“سلاح؟”
“نعم، وإلّا… قد تتّسخ يداكِ.”
—
لم أحتج سوى يومٍ واحد لفهم كلام آني.
“قلتُ لكَ. إن أردتَ أن تكون طفيليًّا يأكل المال، فاخرج.”
سمعتُ أنّ عضوين لم يحتملوا طبعَه، فرفعوا السيوف.
كانت آني تخشى أن أفعل مثلهم.
“سيّئٌ جدًّا.”
قدّمتُ له في أوّل مهمّة تقرير صفقات نهاية الشهر للقارّة الجنوبيّة.
“سيّئٌ للغاية.
لم أرَ تقريرًا بهذه الرداءة من قبل.”
مزّق الأوراق أمامي شقًّا شقًّا.
سقطت بقايا الجُمل على الأرض.
“يبدو أنّكِ تظنّين العمل سهلًا، يا لوسي أوهان.”
سخر داميان.
“تجرؤين على تقديم هذا الهراء.”
“لا. أنا المخطئة.”
“…؟”
ضيّق عينيه.
“ما قدّمتُه قبل قليل كان التقرير الذي كتبته أنتَ عندما كان منصب المساعد شاغرًا.”
ظلّ صامتًا، لم يستوعب بعد.
فأخرجتُ من صدري تقريرًا آخر.
“هذا هو التقرير الذي كتبته أنا.”
“…”
“أعتذر عن الخطأ.
سأتخلّص من التقرير الرديء… أعني، التقرير الذي كتبته أنتَ.”
حدّق داميان في الأوراق بذهول.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"