تبدُّلُ المواقف.
مضغتُ ما يقاربُ ثلاثَ أعشابٍ طبيّةٍ لتخفيفِ الألم.
ثمّ ابتلعتُ معها مُهدِّئًا إضافيًّا.
‘حسنًا!’
أنهيتُ الاستعدادَ للذهابِ إلى مكتبِ البريدِ في القريةِ من أجلِ تقديمِ السيرةِ الذاتيّة.
“إن شعرتَ بالجوعِ، كُلْ أيَّ شيءٍ تجده. وإن ظهرَ عفريت أو وحشٌ، فاطرده بالسيفِ أو القوس، مفهوم؟”
سلّمتُ رافين مسؤوليّةَ كلِّ ما في هذا الكوخ.
لم يُجبني، بل اكتفى بأن يرفعَ بصره إليّ بوجهٍ جامد.
“وإن شعرتَ بالضيقِ، اخرجْ في نزهةٍ قصيرة. اتّجهْ إلى أسفلِ التلِّ في الجهةِ المقابلةِ للغابة، ستجدُ قريةً أخرى هناك. إنّها جميلةٌ نوعًا ما، والمواصلاتُ جيّدة.”
وتركتُ دليلًا على صدقي، إذ وضعتُ المالَ فوقَ الطاولةِ حيثُ يَسهلُ رؤيتُه، ولم أُخفِ السلاحَ، بل تركتُه خارجًا.
أمّا الصحيفةُ المُجعَّدةُ التي تحوي معلوماتِ هاندسلاك، فقد وضعتُها داخلَ الحقيبةِ التي تحوي سيرتي الذاتيّة.
“قد أتأخّر، فلا تنتظرني. اتّفقنا؟”
ومهّدتُ حتّى لفكرةِ التأخّرِ قبلَ المغادرة.
نظرَ رافين إلى ساقي نظرةً خاطفة، كأنّه قَلِقٌ عليها، لكنّه لم ينطقْ بكلمةٍ حتّى النهاية.
“سأذهب.”
بعدَ أن عرفتُ ظروفَه، زالَ استيائي من ملامحِه القاتمة.
فقدَ كلَّ عائلته، ومع ذلك فإنّ صموده حتّى الآن يُعَدُّ، على نحوٍ ما، أمرًا جيّدًا.
صرير.
ما إن أُغلِقَ البابُ حتّى أرخيتُ جسدي.
‘هووف……’
كيف يجبُ أن أتعاملَ مع رافين من الآن فصاعدًا؟
فكّرتُ قليلًا، لكنّ الفكرةَ لم تطُل.
في الوقتِ الراهن، كان عليَّ أن أقلقَ على مستقبلي أكثرَ من قلقي عليه.
وجدتُ نفسي أُرسلُ السيرةَ الذاتيّةَ على غيرِ تخطيط، لكن طالما أنّي بدأتُ، فلو حصلتُ على عملٍ فعلًا، لكان ذلك أفضلَ ما يكون.
سأحصلُ هنا على وظيفةٍ لم أنلْها حتّى في حياتي السابقة.
—
“أعتذرُ، لكن لا يوجد حاليًّا سوى مكانٍ واحدٍ يعلّق إعلاناتِ التوظيف.”
وداعًا للتوظيف.
قال موظّفُ المصرف.
“في الآونةِ الأخيرة، انتشرت وظائفُ جيّدةٌ في الإقليمِ المجاور، لذلك لم يعُد الناسُ يُلقون بالًا لإعلاناتِ التوظيف هنا. ونتيجةً لذلك، قلّت أيضًا الجهاتُ التي تطلبُ منّا الترويج.”
“إذًا، المكانُ الوحيدُ الذي يبحثُ عن موظّفين الآن هو نقابةُ بيندون؟”
أومأ الموظّفُ برأسِه جوابًا على سؤالي.
في وقتٍ أحتاجُ فيه إلى عملٍ عاجل، لا يوجد سوى إعلانٍ مريب.
نقابةُ بيندون.
الإعلانُ الظاهرُ يوحي بمؤسّسةٍ استغلاليّةٍ من ذلك النوعِ الذي لا يظهرُ إلا في الصحف.
كمكانٍ يُعامَلُ فيه الموظّفون كالعبيد، أو شركةٍ تدّعي أنّها عائلة، لكنّها في الحقيقة تضمّ الآباءَ والأمّهاتِ والإخوةَ والأقاربَ والعشّاقَ جميعًا.
“الإعلانُ غريب، لكنّها نقابةٌ جيّدة.”
قال الموظّفُ وقد تنبّه لما يدورُ في خاطري.
“لديهم إقليمٌ خاصٌّ بهم أيضًا. إنّها نقابةٌ صناعيّةٌ تُجنّد الحدّادين وتصنعُ أسلحتَها بنفسها، وقد بدأوا مؤخرًا بتوسيعِ نطاقِهم والدخولِ في مجالاتٍ أخرى.”
“إذًا، هل جميعُ الأعضاءِ من العائلة؟”
“هاه؟ لا، بالطبع لا. كلّهم مواهبُ شابّة.”
“وهل لديهم عبيد؟”
“عُبُود؟!”
راقبتُ تعبيرَ الارتباكِ على وجهِ الموظّف بدقّة.
على غيرِ المتوقَّع، يبدو أنّها نقابةٌ تعملُ بصورةٍ طبيعيّة.
مالَ قلبي إليها، فتفقّدتُ إقليمَ نقابةِ بيندون القريبَ نسبيًّا من القرية.
ويبدو أنّهم يرحّبونَ بأيّ شخصٍ يُجيدُ قدرًا معقولًا من الحسابِ والأعمالِ المكتبيّة.
……أوه؟
أليست أفضلَ ممّا توقّعت؟
بحسبِ ما كُتبَ في إعلانِ التوظيف، فالمكانُ ليس بعيدًا عن القرية، والعملُ لا يتطلّبُ سوى إتقانٍ معقولٍ للحسابِ والإدارة.
……كلّما أعدتُ القراءة، لم يعُد يبدو جيّدًا فحسب، بل ممتازًا.
“إذًا، أرجو إرسالَ سيرتي إلى نقابةِ بيندون.”
فبناءُ الخبرةِ لا يضرُّ أبدًا!
“لدينا خدمةُ إرسالٍ سريعةٌ باستخدامِ السحر بدلَ الحمامِ الزاجل. هل أستخدمُها لكِ؟”
“نعم. الأسرعَ من فضلك.”
التأخّرُ لن يجلبَ سوى الخسارة.
وبعدَ أن دفعتُ تكلفةً باهظةً نوعًا ما، نجحتُ أخيرًا في إرسالِ الرسالة، ثمّ غادرتُ مكاني.
‘آخ.’
بدأَ تأثيرُ المُسكّنِ يزولُ تدريجيًّا، فانشدّت عضلاتُ فخذي بقوّة.
لم أستطع مغادرةَ المصرف من شدّةِ الألم، فجلستُ على أقربِ مقعدٍ وقعَ بصري عليه.
‘يا إلهي.’
لأنّي تحرّكتُ بعنف، بدأَ ظهري هو الآخرُ يلسعُني.
تنفّستُ ببطءٍ حتّى يهدأَ الألم، وخلالَ ذلك جلسَ رجلٌ إلى جانبي وفتحَ صحيفة.
وانجذبَ بصري، التائهُ أصلًا، إلى هناك دونَ وعي.
【سقوطُ عائلةِ هاندسلاك. وفاةُ الجميع.】
كان العنوانُ الذي لم أتمكّن من قراءتِه بسببِ رافين، يصفُ وضعًا لا يختلفُ كثيرًا عمّا أعرفُه من القصّةِ الأصليّة.
خيانةُ العائلة، وإبادةُ معظمِ أفرادِ بيتِ هاندسلاك.
‘لو رآها رافين، لانقلبَ رأسًا على عقب.’
تراءى لي وجهُ رافين القاتم، وصورتُه وهو يوجّهُ السيفَ إلى عنقِه ليُنهي حياتَه.
حينَ التقيتُ به لأوّلِ مرّة، كان يتنفّسُ فقط، أمّا ملامحُه فكانت أشبهَ بملامحِ ميت.
وبعدَ حادثةِ العفريت تغيّر قليلًا، لكنّ النظرةَ الخاويةَ والهالةَ الكئيبةَ لم تتبدّل.
هل يصحُّ فعلًا أن أتركَ رافين وحدَه؟
‘أتمنّى لو ابتسم…….’
لكن لا مجالَ لفعلِ شيء، فأنا نفسي لا أُحسنُ تدبيرَ شؤوني بعد.
في حياتي الأولى متُّ بعدَ أن قضيتُها في السعي وحده،
وفي الثانية وُلدتُ مسخًا بلا موهبة، وذقتُ فيها من البؤسِ ما يكفي.
أريدُ الآن حياةً هادئة.
“لوسي؟”
سمعتُ اسمي من مكانٍ ما.
وحين أدرتُ بصري، رأيتُ موظّفَ المصرف يلمحُني ويُسرعُ نحوي.
“هل هناكَ أمرٌ ما؟”
“لحسنِ الحظّ أنّكِ لم تغادري بعد. لقد وصلَ الآن ردٌّ من نقابةِ بيندون.”
“ردّ؟ من نقابةِ بيندون؟”
“نعم! من نقابةِ بيندون.”
أمعقولٌ هذا؟
لم تمرّ سوى خمسِ دقائق تقريبًا منذ أرسلتُ الرسالة.
ومع دقيقةِ الإرسال…… فهذا يعني أنّهم ردّوا فورَ قراءتِها تقريبًا.
“تفضّلي.”
اختفى الموظّفُ فورَ أن تسلّمتُ الظرف.
كان عليه شعارٌ أحمر يُفترَض أنّه شعارُ نقابةِ بيندون، وثلاثُ رماحٍ مرسومة.
فتحتُ الظرفَ بلا توقّع.
‘بما أنّه وصلَ سريعًا، فلا بدّ أنّه رفض.’
في الداخلِ بطاقةٌ صغيرة، ومعها جملةٌ مكتوبةٌ بخطٍّ متعجّل.
【<تهانينا> تمّ القبول】
【يرجى الحضورُ إلى مكانِ المقابلةِ غدًا.
المكان: مكتبُ استقبالِ أعضاءِ المقرّ الرئيسي.
الوقت: في أيّ وقتٍ يناسبُكِ.
(توجدُ دائمًا عناصرُ مناوبة، حتّى في الفجر.)】
كما توقّعت—رفضٌ.
“……؟”
فركتُ عينيّ.
【<تهانينا> تمّ القبول】
ظننتُ أنّ الرسالةَ أُرسلت خطأً، فنظرتُ إلى الظرفِ على عجل.
【إلى الآنسةِ لوسي التي تقدّمت بالطلب.】
……وصلني إشعارُ القبول بعدَ خمسِ دقائق فقط من تقديمِ السيرةِ الذاتيّة.
—
كوخٌ هادئ.
أمسكَ رافين رأسَه.
“……هاا.”
القصرُ المحترق، الفرسانُ المذبوحون، الصرخاتُ المتناثرةُ في كلِّ مكان، ووصيّةُ أخيه الأخيرة التي وثقَ بها.
كلُّ ما حدثَ قبلَ أسابيعَ قليلةٍ مرّ أمامَ عينيه بوضوحٍ موجِع.
تقلّصَ وجهُه من شدّةِ الألم.
“اللعنة…….”
نهضَ رافين فجأةً بعدما لم يعُد يحتمل، وبحثَ عن سيفِه.
كان هذا السيفُ ملوّثًا بدماءِ الخائن الذي قتلَ عائلتَه ودمّرَ بيتَه.
الناجي الوحيد، هربَ من القصر ولم يذُق طعامًا لمدّةِ أسبوع.
في النهار كان يتجنّبُ أنظارَ الأعداء، وفي الليل يرتجفُ من البرد ويقاتلُ الوحوش.
لكنّ الجوعَ كان أقسى من أن يُحتمل.
ومع مرورِ الوقت، صار جسدُه يتوقُ بشدّةٍ إلى الطعامِ ونومٍ دافئ.
وقد قدّمت له ذلك كلَّه امرأةٌ لا يعرفُ اسمَها، بلا تردّد.
لوسي، ذاتُ الشعرِ الأشقرِ والابتسامةِ المشرقة.
كانت شابّةً بعينين ذهبيّتين تتلألآن، ودائمًا ما تبدو بريئة.
سواءٌ حين ظهرَ العفريت وكادَ يموت، أو حين انهارَ البيتُ واخترقَ السقف.
‘لوسي…….’
رفعَ رافين رأسَه، فرأى الفاكهةَ والمؤنَ التي تركتْها.
‘يجبُ أن أذهب.’
فكّرَ رافين في المستقبل، لا في الماضي.
كان أقلَّ موهبةً من أخيه في السيف، ولم يكن مخزونُ الأورا لديه كما يُرجى، لذا لم يُحسَب يومًا حسابًا كبيرًا داخلَ العائلة.
ومع ذلك، عقدَ العزمَ على الانتقام.
لم يعُد البقاءُ هنا طويلًا خيارًا.
ما زال الطريقُ غامضًا، لكن إن واصلَ التقدّم، فلا بدّ أن يظهرَ حلٌّ ما.
لا يمكنُه البقاءُ متقوقعًا في هذا الكوخِ إلى الأبد.
وبعدَ صراعٍ طويل، خطا رافين ببطء.
أخذَ من المخزنِ ما تيسّر، ثمّ اتّجهَ نحوَ الباب.
‘هل سأبقى حيًّا؟’
تقدّمَ خطوةً واحدة.
‘ما عجزَ عنه أخي… هل أستطيعُ أنا؟’
امتلأ رأسُه بالأفكار.
‘لا موهبة.’
‘نجوتُ وحدي.’
‘ولا أحدَ في صفي.’
‘إن خرجتُ من هنا، سأموت.’
اضطربَ قلبُ رافين بعنف.
اسودّ نظرُه، وكأنّ شيئًا يسدُّ حلقَه فلا يستطيعُ التنفّس.
「حقًّا، حقًّا إنّك مذهل!」
في تلك اللحظة، اقتحمَ صوتٌ مرحٌ رأسَه وأيقظَه.
「أنت مذهلٌ حقًّا يا رافين!」
هدّأ جسدَه الغارقَ في الألم، وكبحَ سُمَّه وجنونَه.
‘لوسي.’
كلماتُها الصادقةُ التي اقتربت فجأةً أضاءت طريقَه الوعرَ بنورٍ خافت.
انهارَ رافين وجلسَ أرضًا.
“……متى ستعود.”
أسندَ ظهرَه إلى الجدار وخفضَ رأسَه.
وجهٌ بلا دم، وعينان فارغتان، لا تنتظران سوى شخصٍ واحد.
“متى ستأتين…….”
يا لوسي.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"