فصل جانبي 9
كانت الشّمس تملأ التّيراس (الشرفة المفتوحة) بأشعّتها الدّافئة.
كان المقهى الّذي يفوح منه عبقٌ زكيٌّ أشهر مكان في الجوار.
كانت كروم الورد الأحمر تحيط بالمكان من الخارج بحلقة دائريّة، فتبدو وكأنّها قلعة من الورد.
«…ما رأيك؟ قصّة مؤثّرة جدًّا، أليس كذلك؟»
والمسؤول عن هذه الرّمزيّة بالذّات، لوسيل، جلس على التّيراس يمسح زاوية عينيه بمنديل وهو يتكلّم.
«…لوسيل.»
فتح الإمبراطور إيدن، الجالس أمامه والّذي ظلّ صامتًا طوال الوقت، فمه ببطء.
«هل كنتَ تعلم أنّ هذه المرّة المائة التي تروي فيها هذه القصّة؟»
«آه، حقًّا؟»
«نعم. وأعلم أيضًا أنّه إذا استمررتَ هنا، ستنتقل إلى تمجيد زوجتك.»
توقّف لوسيل عن مسح عينيه عند كلام إيدن الّذي بدا وكأنّه قرأ أفكاره، ثمّ ابتسم ابتسامة عريضة.
«يا للأسف. كان يجب أن أصل إلى ذلك لتكتمل القصّة.»
«…كان يجب أن أضع شرطًا آخر عندما وافقتُ على زواجكما: حظر الرّسائل العاطفيّة أمامي.»
«كان من الأسرع أن تقطع لساني.»
لا يخسر كلمة واحدة على أيّ حال. تنهّد إيدن تنهيدة عميقة.
وفيما كان لوسيل يتفحّص تطريز منديل آخر،
«بابااا!»
التفت رأس لوسيل فورًا عند الصّوت المرح.
كان طفلٌ بشعر ورديّ يركض نحوه.
«آكو!»
لكنّه تعثّر بحجر بارز وسقط على وجهه.
لو كان طفلًا آخر، لكان من الطّبيعيّ أن يبكي بصوت عالٍ. لكنّ الطّفل الّذي رفع رأسه ببطء،
«…آفو.»
تمتم بهدوء فقط. كأنّه اعتاد السّقوط مرّات عديدة ولم يعد يفاجئه شيء.
«قلتُ لكِ لا تركضي لأنّكِ تسقطين بسهولة، أليس كذلك؟»
قفز لوسيل فوق التّيراس دفعة واحدة، رفع الطّفلة بمهارة، نفض الغبار عن ركبتيها، ومسح الأوساخ عن خدّيها بالمنديل وقال.
«هذه المرّة الخامسة اليوم. تسقطين وأنتِ تركضين.»
الطّفلة التي بلغت لتوّها الثّلاث سنوات لم تخرج من قصر بيريجرين حتّى بلغت الثّانية.
لم يكن محظورًا تمامًا، لكن حين كانت تخرج، كان يُرفق بها حراسة مشدّدة.
السّبب المشترك: «ماذا لو أعجب أحدهم بلطف الطّفلة وأراد بها سوءًا؟»
في النّهاية، هدّدت دافني قائلة: «إذا استمرّت الحماية المفرطة هكذا، سأخرج وأعيش مع الطّفلة.» فخفّت حماية بيريجرين المفرطة.
لكنّ تقديرهم لم يكن خاطئًا تمامًا. كانت الطّفلة فضوليّة جدًّا، وكلّما لمعت عيناها كانت تسقط أو تؤذي نفسها.
«ماذا نفعل؟ إذا علمت أمّك ستوبّخكِ.»
قال لوسيل بنبرة مبالغة، فاتّسعت عينا الطّفلة.
«أنا، سأُوبّخ؟»
«نعم. وسيُوبّخ أبي معكِ…»
أطرق لوسيل كتفيه، فاضطربت الطّفلة.
وبينما تبحث عن حلّ وهي تهمهم «ماما، ام…»، لمعت عيناها فجأة وقالت:
«…بابا.»
«نعم، يا ابنتي.»
«فكّرتُ في طريقة جيّدة.»
انحنى لوسيل فورًا بوضع أذنه عند فمها. همست الطّفلة.
«…نبقيه سرًّا بيننا فقط.»
انفجر لوسيل ضاحكًا دون إرادة.
«سنبقيه سرًّا؟ هكذا ينتهي الأمر؟ نعم؟»
كاد يصرخ من شدّة الحبّ، فعضّ خدّها برفق. اعتادت الطّفلة ذلك فأصدرت صوت «أووه» فقط وبقيت في حضنه ساكنة.
…كان لوسيل يصمت خوفًا من توبيخ دافني، لكنّه في الحقيقة من أشدّ المفرطين في الحماية.
في النّهاية، ناداه إيدن «لوسيل» بنبرة تهدئة، فتوقّف عن دلعه.
«منذ متى كنتَ هناك، أخي؟»
«منذ البداية.»
«حسنًا. هيّا، قل مرحبًا للعمّ هذا.»
رفع لوسيل الطّفلة بذراع واحدة بصعوبة.
نظرت إليهما الطّفلة التي تحمل علامات أسنان صغيرة على خدّها.
كان للطّفلة ذات الشّعر الورديّ عينان غامضتان تمتزج فيهما الأخضر والأحمر.
لم تكن توأمًا، ولم تطابق الصّور المتوقّعة، لكنّ لوسيل أحبّ عينيها.
لأنّهما تثبتان أنّها ابنته وابنة دافني.
كان سعيدًا جدًّا لأنّها ترى العالم بهاتين العينين.
بالطّبع كان سيحبّها بكلّ قوّته مهما كان لونهما، لكنّ اسمها أصبح «إيوريني» على أيّ حال: مزيج من الفجر والصّباح في اللّغة القديمة.
«مرررحبا. أنا… أمم…»
لكنّ الاسم كان صعب النّطق لأنّه مزيج كلمات، لذا كانت تقدّم نفسها دائمًا.
«-أنا نيني.»
بما هو أسهل لها.
«نعم، إيوريني. مرحبًا.»
قبل البالغ الكريم تحيّتها بطبيعيّة.
«مرّ وقت طويل منذ رأيتك بعد ولادتك.»
«رأيتني من قبل؟»
«نعم. أنتِ لا تذكرين.»
«واااو.»
لمعت عينا إيوريني بدهشة. بدت عيناها البرّاقتان كأنّهما تحويان الفجر والصّباح حقًّا.
«متى رأيتني؟»
«منذ لحظة ولادتكِ؟»
«عجيب. لا أذكر شيئًا!»
«لو تذكّرتِ لكنتِ عبقريّة.»
بعد أن طرحت أسئلتها لفترة طويلة، هزّت إيوريني قدميها الصّغيرتين عندما ملّت.
«بابا، أريد الذّهاب إلى أمّي الآن.»
«أمّك لا تزال مع صوفيا؟»
«ليس صوفيا، سوكيا.»
«قلتُ سوكيا. أبوكِ يتكلّم بسرعة كبيرة.»
بعد عراك صغير، أنزل لوسيل إيوريني.
انحنت الطّفلة لإيدن تحيّة، ثمّ ركضت مجدّدًا إلى مكان ما.
علّقت ابتسامة صغيرة على شفتي إيدن وهو يراقبها.
«أخي.»
قال لوسيل حينها بنبرة منخفضة.
«سبق أن سألتني ذات مرّة، أليس كذلك؟ إن كنتُ سعيدًا.»
توقّف إيدن عند هذا السّؤال.
يوم هاجم لوسيل الإمبراطورة الرّاحلة هيلا بانفجار قوّته السّحريّة.
بعد أن وُسم بالخطر، اضطرّ لمغادرة القصر فورًا.
حينها صرخ إيدن غاضبًا.
هل كان لا بدّ من الوصول إلى هذا الحدّ؟ هل أنت سعيد الآن لأنّ الأمور سارت كما تريد؟
كان غضب فتى لم ينضج بعد، لكنّ إيدن ندم حتّى اليوم على كلامه.
لم يكن يعرف ألم لوسيل، فاستطاع أن يقول ذلك بلا مبالاة.
قال لوسيل الصّغير حينها، ملفوفًا بالضّمادات ولا يكاد يفتح عينيه.
«نعم، أنا سعيد جدًّا لحد لعنة.»
«…»
«لأنّني أستطيع أخيرًا مغادرة هذا المكان.»
لم يبدُ على وجه لوسيل وهو يقول ذلك أيّ ندم.
«لوسيل، هذا…»
«لستُ أحاول إثارة غضبك. اسمعني أوّلًا.»
هزّ لوسيل رأسه عندما فتح إيدن فمه ليعتذر.
«كنتُ أعتقد حينها أنّني سعيد. وكنتُ سعيدًا فعلًا. كان القصر بالنّسبة إليّ جحيمًا.»
أبٌ يخاف قوّته، وجدّة تنظر إليه بعيون لامعة من الطّمع.
إمبراطورة تغضّ الطّرف عنه رحمةً بها، وأخ غير شقيق لا تستطيع كرهه بسهولة لأنّه طيّب جدا.
لم ينتمِ لوسيل إلى أحد. لذا أراد أن يزيل الجميع. ظنّ أنّه سيصبح سعيدًا حينها.
«لكن تبيّن أنّه ليس كذلك.»
قال لوسيل بنبرة منخفضة.
«السّعادة لم تكن تلك.»
السّعادة كانت في العيون التي تنظر إليه، في الابتسامة الصّغيرة، في اليد التي تمسح على شعره، في الصّوت اللّطيف.
السّعادة كانت موجودة في اللّحظات العاديّة، في أيّ مكان.
تجمّعت تلك السّعادة فصارت دافني، وصنعت له معجزة أخرى تُدعى العائلة.
وتلك المعجزة تسير في هذا العالم الآن. تتقدّم دون أن تثنيها السّقطات، كأنّها لم تسقط يومًا.
لذا لم يستطع لوسيل إلّا أن يحبّ هذا العالم.
حقيقة لا تتزعزع مهما جاء.
«فكفّ عن شعورك بالذّنب. أسمع كلّ شيء وأنتَ لا تزال تقلق.»
«…ألم تتحسّن الأمور بعد ولادة إيوريني؟»
«لكنّ المشاعر القويّة جدًّا أسمعها.»
سعل إيدن بسعال خجل صغير. قال بنبرة مرحة.
«ومع ذلك، ألا تشعر بشيء من الأسف؟ لقد استغللتني جيّدًا.»
«العالم الهادئ أيضًا يستحقّ الحبّ بطريقته. مسألة تعوّد.»
خرجت كلمة «الحبّ» مجدّدًا من فم لوسيل بلا تردّد.
هزّ إيدن رأسه لأنّه لم يعتد عليها أبدًا.
‘لكنّه يبدو مستقرًّا جدًّا.’
هل يصبح الإنسان هكذا حقًّا عندما يقع في حبّ حقيقيّ؟
وفيما كان يفكّر في مدى مصداقيّة نظريّات لوسيل في الحبّ،
«باباا!»
رفع الاثنان رأسيهما عند الصّوت المألوف.
إيوريني التي ركضت بعيدًا تعود الآن نحوهما.
بجانبها دافني وسوكيا، وزوجها غايل، وابنهما ثيو.
«انتهى الحديث؟»
رفع لوسيل إيوريني بطبيعيّة وقبّل خدّ دافني.
«قالت إيوريني إنّ لديها كلامًا للجميع.»
«للجميع؟»
في اللحظة التي انتهى فيها الكلام، هزّت إيوريني ذراعيها تريد النّزول.
قفزت إيوريني ومشيت بخطوات كبيرة نحو…
«أه؟»
نحو ثيو ابن غايل.
أمسكت يده بجرأة وصرخت بصوت عالٍ.
«أنا أريد أن أتزوّج الأخ ثيو!»
ساد الصّمت الجميع عند هذا الإعلان كـ القنبلة.
كانت دافني أوّل من تكلّمت. سألت سوكيا.
«متى أصبحا على هذه العلاقة؟»
فهمست سوكيا.
«لا أعلم…»
احمرّ وجه ثيو وهو لا يدري ماذا يفعل، وصلّى غايل «يا إلهي…» طالبًا الرّحمة.
فتح لوسيل فمه ببطء بعد صمت طويل.
«…لماذا تريد ابنتنا الجميلة الزّواج فجأة؟»
«لأنّك قلتَ يا بابا! الحبّ شيء رائع جدًّا!»
«…»
«فأنا أيضًا أريد أن أحبّ! لذا سأتزوّج!»
«ريني، ليس بالضّرورة أن يتزوّج المحبّون. يمكن ألّا يتزوّجا…»
«لكنّ أمّي قالت إنّ بابا أراد الزّواج بأمّي وبكى…»
التقت عينا لوسيل المعاتبتين بدافني.
آه. نظرت دافني إليه بعينين آسفتين. لم تتوقّع أبدًا أن يسير تفكير الطّفلة بهذا الشّكل.
«ألا تحبّ أمّي يا بابا؟»
سألت إيوريني البريئة وهي تميل رأسها.
الرّجل الّذي يفعل أيّ شيء لحماية ابنته…
فقد الكلام لأوّل مرّة.
ضحك إيدن ضحكة خافتة وهو يراقب المشهد، مباركًا لوسيل من كلّ قلبه لأنّ كلامه عاد إليه كما هو.
سألت إيوريني ثيو ببراءة، غير مدركة لتعقيدات الكبار.
«أين سنقيم زواجنا؟»
كان ذلك في يوم ربيعيّ سيُصبح ذكرى يومًا ما.
<الـــــنــــهــــايــــة >
التعليقات لهذا الفصل " 209"