كان بعض الأطفال يركضون على الشّاطئ ضاحكين وكأنّهم يلعبون لعبة المطاردة. كان الجميع هناك يضحكون، لكنّ لوسيل لم يكن قادرًا على الضّحك.
أنزل نظره ليتفقّد الأداة السّحريّة. كانت عليها آخر رسالة أرسلتها دافني تطفو بوضوح.
[إذن، نلتقي هناك مباشرة. أمّا الموقع التّفصيليّ فـ……]
كانت جملة عاديّة لا تختلف عن المعتاد.
لكنّ لوسيل كان يعلم. قبل أيّام قليلة، زارت دافني متجرًا لملابس الرّجال لا تعتاد الدّخول إليه عادةً.
كانت تحاول جاهدة ألا تترك أيّ أثر، تتنقّل متخفيّة المظهر…
لكن للأسف، كلّ ذلك كان بلا جدوى أمام قوّة معلومات لوسيل.
كانت دافني تتردّد على متاجر أخرى متخفيّة الهويّة، وبسريّة تامّة.
‘رجل، رجل إذن…’
خرج منه ضحكة فارغة لا إراديًّا. أراد في تلك اللّحظة أن يمسك برقبة ذلك الوغد الّذي هزّها ويلويها.
لكنّ الوقت لم يحن بعد. أيّ تصرّف متسرّع قد يثير شكوك دافني.
كان عليه أوّلًا أن يتحرّى من أين بدأت تلك العلاقة، وإلى أيّ مدى حرّك ذلك اللّسان الخائن. لن يتأخّر لو تحرّك بعد أن تتأكّد كلّ القطع وتتطابق.
لذا سيبقيه حيًّا. حتّى الآن.
وضع لوسيل الأداة السّحريّة في جيبه بعد أن انتهى من التّفكير. طعنت أشعّة الشّمس عينيه فتجعدت حواجبه.
المكان الّذي أخبرته به دافني كان جزيرة صغيرة. صغيرة جدًّا لدرجة أنّها لا تُرى على الخريطة.
كيف عرفت هذا المكان؟
إن كانت قد جاءت إليه من قبل، فمتى؟ لوحدها؟ أم… مع شخص آخر؟
غرقت عينا لوسيل في الظّلام بينما تتابعت الأفكار كالذّيل.
«لوسيل!»
اختفت كلّ الأفكار بصوت مألوف. رفع لوسيل رأسه. كانت دافني تركض نحوه بسرعة. طوى الظّلام في لمح البصر، واستقبلها بابتسامة.
«تعالي بهدوء. قد تسقطين.»
«آه، آسفة. أردتُ أن آتي بسرعة، لكنّني تأخّرت قليلًا.»
بدت نادمة جدًّا لأنّها هي من اقترحت ثمّ تأخّرت، فاعتذرت مرّات عديدة. كاد لوسيل أن يقول «لا بأس» تلقائيًّا، لكنّه توقّف.
كان يشعر به بوضوح. أثر شخص آخر يلفّ دافني.
حتّى هذه اللّحظة، بل إنّه لا يزال معها الآن، حيًّا وواضحًا.
هناك أحد بجانبها. قريب جدًّا. بل ربّما كان موجودًا طوال الوقت حتّى الآن.
تحوّلت عينا لوسيل إلى حدّ السّكين في لحظة.
مهما كان ساحرًا بارعًا، لا يمكن لأحد أن يترك قوّته السّحريّة على شخص آخر لهذه المدّة الطويلة. لو كان ذلك النوع من الرّجال، لكان قد انضمّ إلى برج السّحر منذ زمن.
’أهو من سكّان هذه الجزيرة؟‘
إن كان كذلك، فكلّ شيء يُفسَّر: لماذا لم يعثر عليه، وكيف عرفت دافني هذه الجزيرة.
’إذن هكذا الأمر…‘
شدّ لوسيل أعصابه. كان عليه أن يكتشف هويّة ذلك الرّجل دون أن تشعر به دافني، ثمّ يفرّق بينهما بأيّ طريقة.
«لويل، هل نذهب الآن؟ هناك مكان أريد أن أريه لك.»
«نعم، حسنًا.»
ابتسم لوسيل بجمال كأنّ شيئًا لم يكن بعد أن انتهى من التّفكير.
المكان الّذي قادته إليه دافني كان ساحة عامّة. كان القرويّون يقيمون مهرجانًا صغيرًا، فالجوّ كان صاخبًا جدًّا.
كونها جزيرة صغيرة، لم يتعرّف أحد عليهما رغم عدم ارتدائهما الأردية.
بدت دافني أكثر حماسة لذلك، فجالت به في كلّ مكان. تبعها لوسيل بهدوء، وهو يغمرها بقوّته السّحريّة بكثافة.
«آه، هذا يبدو ممتعًا.»
توقّفت دافني أمام كشك عليه عدّة لوحات رمي الدّارت*. رحّب بهما الرّجل الّذي يروّج للّعبة بحرارة.
(السهم الصغير المستخدم في لعبة الرمي على اللوحة الدائرية، وهي لعبة معروفة اسمها Darts.)
«أهلًا وسهلًا. لقد كنّا على وشك تحديد المراكز، هل تودّان المشاركة؟»
ضيّقت عينا لوسيل.
كان الرّجل ذا بشرة سمراء ويبدو ودودًا جدًّا. مظهر يُعجب به معظم النّاس موضوعيًّا، وشعره أسود – ذوق دافني تمامًا.
والأهمّ أنّه كان يفترض أن يذهل بجمال دافني، لكنّه يعاملها بطبيعيّة تامّة، كأنّها مألوفة لديه.
أراد لوسيل أن يقرأ قوّته السّحريّة ظنًّا أنّه هو، لكنّ يد دافني تمسك يده فلم يستطع التّركيز.
سألته دافني دون أن تعلم ما يدور في رأسه.
«ماذا نربح إذا فزنا بالمركز الأوّل؟»
«كلّ ما على الطّاولة يصبح لكم.»
«واااو…»
نظرت دافني إلى الأغراض. شرائط لربط الشّعر، أدوات زراعيّة مفيدة لتربية المواشي… لم يكن هناك شيء يناسبها.
‘لكن بما أنّنا في مهرجان، هل نجرب؟’
مدّ الرّجل إليها الدّارت كأنّه يشجّعها. وفي اللحظة التي مدّت فيها يدها…
«…؟»
سبقها لوسيل وأخذ الدّارت دون أن تتمكّن من فعل شيء. نظرت إليه دافني بدهشة، فابتسم قائلًا.
«طرفها حادّ جدًّا، قد تؤذين نفسك.»
«أه، لكنّني أظنّ أنّه ليس لتلك الدّرجة…»
«سأبدأ.»
رمى لوسيل الدّارت كأنّه لم يسمع كلامها. رماه بضحكة خفيفة، لكنّ الدّارت انغرز في المركز تمامًا ثمّ انشطرت إلى اثنتين وتحطّمت.
«آه، تحطّمت.»
قال لوسيل بصوت خالٍ من العاطفة.
«أرمي على تلك اللوحة الآن، صحيح؟»
«نعم؟ آه، هذا…»
رمى الدّارت على لوحة أخرى قبل أن يكمل الرّجل كلامه. انغرز في المركز مجدّدًا وتحطّمت اللوحة بصوت «كواك».
وهكذا تحطّمت ثلاث لوحات.
«أنتم المركز الأوّل! انتهت مسابقة التّرتيب!»
شعر الرّجل أنّ شيئًا غير طبيعيّ فأعلن النّتيجة بسرعة.
«يا إلهي، بهذه السرعة؟»
«نعم، انتهى. لا حاجة للمزيد، أنتم الأوّل بلا منازع!»
«يا للأسف. كنتُ أستطيع المزيد.»
لوى لوسيل يده بابتسامة لا تبدو نادمة أبدًا. عادت اللوحات المحطّمة إلى حالها الأصليّة.
جلس الرّجل الّذي ارتخى جسده على الأرض، ونظر لوسيل إلى دافني تاركًا الجوائز خلفه.
«لقد فزتُ بالمركز الأوّل كما تمنّت سموّ الاميرة.»
«أه… حـ، حسنًا…؟»
مدحته دافني مذهولة، فابتسم لوسيل بخجل.
بعدها واصل لوسيل تحطيم الأرقام القياسيّة.
في لعبة إخراج دمى البط من الماء، كسر الرّقم بسهولة، وفي لعبة إيجاد الأزواج من البطاقات المقلوبة لم يخطئ مرّة واحدة.
في كلّ مرّة، كان الرّجال ذو الشّعر الاسود أو الرجال شديدو الصمت يتذوّقون هزيمة بلا سبب واضح.
فقط بعد أن نحت لوسيل وردة رقيقة جدًّا من حلوى السّكر الشّفافة، استفاقت دافني أخيرًا.
من الأساس، مشاركة لوسيل في هذه الألعاب كانت بمثابة انهيار التّوازن.
فوق ذلك، أليس الهدف الحقيقيّ شيئًا آخر؟
«لوسيل، هيّا نذهب الآن.»
«همم، بهذه السرعة؟»
«نعم. بسرعة، بسرعة!»
أعطى لوسيل وردة الحلوى للأطفال الّذين كانوا يصفقون بدهشة بناءً على إلحاح دافني. أشرقت وجوههم فجأة.
«وداعًا أيّها الأخ الوسيم!»
غادرا السّاحة بعد تلك التّحيّة المرحة.
***
كان لوسيل في أتمّ اليقظة.
التقى في السّاحة برجال مشبوهين، لكن يبدو أنّهم ليسوا مرتبطين بدافني ارتباطًا وثيقًا. من المحتمل أن يكون ذلك الرّجل في المكان التّالي.
لكنّ المكان الّذي قادته إليه دافني كان مطعمًا صغيرًا.
«سموّ الاميرة، ما هذا المكان…؟»
«رأيتُ سابقًا أنّ سموّك لا يحبّ الطّعام الحارّ جدًّا، فبحثتُ عنه.»
هل كان الأمر كذلك؟ في الحقيقة، لم يكن لوسيل يهتمّ بالطّعام كثيرًا. كان يأكل فقط بقدر ما يبقيه حيًّا، ذلك كلّ ما يفكّر فيه.
«سيكون لذيذًا، أليس كذلك؟»
«……نعم.»
ما قدّمته له كان ريزوتو بالكريمة. في اللّحظة التي رأى فيها الفطر المقطّع ناعمًا مع الكريمة الدّسمة متناغمين، شعر تلقائيًّا أنّه سيكون لذيذًا. اكتشاف لم يكن يعلم به.
ولم يكن ذلك كلّ شيء. بعد انتهاء الطّعام، توجّها معًا إلى الشّاطئ الرّمليّ. كان قمر أزرق يطلّ على البحر، على عكس النّهار.
«ظننتُ أنّك ستفضّل التّنزه في الظّلام أكثر من النّهار المشرق.»
كانت محقّة تمامًا. كان لوسيل يفضّل هذا السّكون الأزرق على ضوء الشّمس الّذي يطعن العينين.
«هل نذهب إلى هناك الآن؟»
ابتسمت دافني كأنّها كانت تعلم أنّه سيوافق، وأمسكت يده بطبيعيّة وقادت الطّريق. راقب لوسيل ظهرها بهدوء، ثمّ أغمض عينيه لحظة.
بالنّسبة إليه، كانت اللّيلة ألمًا بحدّ ذاتها.
ضوء القمر يتسلّل من بين القضبان. جسده المرهق ملقى بلا ترتيب. رائحة الأرضيّة الباردة الرّطبة على خدّه. أنفاسه تتلاشى تدريجيًّا. ذلك كان اللّيل.
‘…لكن.’
فتح لوسيل عينيه مجدّدًا.
صوت احتكاك أوراق الأشجار بالرّيح. صوت الجنادب الخافت وحملهم العشبيّ الخفيف. صوت خطواتهم المبلّلة بالرّمل وسكون اللّيل المحيط بهم.
ودافني الّتي تقوده.
‘…جميل.’
فكّر لوسيل بهدوء.
كان يحبّ هذه اللّحظة. كلّ ما يلمس بشرته ويشعر به. أشياء ما كان ليجرؤ على الشّعور بها لولاها.
لهذا السّبب، لم يدرك لوسيل أنّه دخل إلى الدّاخل إلّا عندما سمع صوت إغلاق الباب.
استعاد وعيه متأخّرًا ونظر حوله.
لم تكن تضيء الغرفة سوى بضع شموع متناثرة، ولا أثر لأيّ حضور آخر.
واسعة جدًّا لشخص واحد، وضيّقة قليلًا لشخصين، لكنّها مريحة بما يكفي.
لم يكن يتذمّر من الإقامة، لكن عدم وجود ولو خادم واحد كان أمرًا غريبًا.
«أمم، سموّ الاميرة. هل حقًّا لا يوجد خدّام آخرون؟»
«نعم، صحيح.»
أجابت دافني دون أن تلتفت إليه. هنا أدرك لوسيل أنّه لم يرى وجهها منذ وصولهما.
«…سموّ الاميرة. ما بكِ؟»
«لوسيل.»
استدارت دافني قبل أن يكمل كلامه. سقط قلبه فجأة. لقد اختفى كلّ أثر للابتسامة من وجهها الّذي كان يضحك بجمال.
التعليقات لهذا الفصل " 206"