2
«أريد عقد صفقة معك» قال نوكس بهدوء واقفًا أمام قائد النقابة يقاوم ارتعاش ناتج من برد بسبب ثيابه مبلوبة في شتاء ، لم يكن دخوله إلى هذا المكتب بالأمر الصعب في حقيقية، خاصة بفضل علاقته السابقة بهذا الرجل
رفع زعيم النقابة نظره عن الأوراق التي كان يفحصها وقال بنبرة متعبة و هو يفرك جبينه:«لوسيان ، أخبرتك مرارًا ألا تقتحم مكتبي لتعرض عليّ صفقات أنا الخاسر الوحيد فيها»
قالها بهدوء وهو ما زال جالسًا خلف مكتبه المكتض بالوراق ، بينما كان مساعده المخلص رودريك يقف إلى جواره بصمت ، يراقب المنظر المعتاد كل يوم تقريبا
حدق نحوه لوسيان بعينين حادتين يتمعن فيها نظر الب ذلك رجل ، هو يعرفه منذ ما يقارب الثلاث سنوات ، حين كانت أوئل عمليات سرقة له تنتهي بخسارة فادحة كانت خياراته محدودة وقتها ، خاصة في ذلك الشتاء القارس حين كانت أخته تبكي من شدة الجوع
كان محظوظًا يومها ، لأن ذلك الرجل لم يؤذه عندما اكتشف حالة جسده الهزيل ، و كيف أن فتاة صغيرة ذات شعر أحمر اندفعت نحوه ضربته بقبضتيها الصغيرتين بكل ما تملك من قوة محاولة إنقاذ شقيقها منه
لا شيء يكرهه لوسيان أكثر من ضعفه هو شفقة الآخرين عليه ، لكن إن كانت الشفقة الثمن الذي يُبقيه هو وأخته على قيد الحياة ، فهو مستعد لتحملها لأجلها
استقام لوسيان في وقفته ، نبرته كانو هادئة لكن
حملت خلفها وزيرا ثقيلا :« حصلت لك على كنز من المعلومات القيّمة »
رفع الزعيم رأسه عن الأوراق حاجباه يرتفعان قليلًا بنفاد صبر فعلا هذه المرة : « أنت دائمًا تحضر لي كنوز الشوارع ، ما الجديد هذه المرّة؟ »
أجاب لوسيان بثقة و هو يضع يديه خلف ظهره:«هذه المرّة ليست مجرد كنوز شوارع…»
توقّف للحظة مستمتعا الجو الذي صنعه في غرفة خافض صوته : «الأمير الأول يعاني من نقص في دعم النبلاء لحزبه… لكن يبدو أن ذلك لم يعد ذا أهمية، فالإمبراطور قرّر أن يكون الأمير خليفته رغم كل شيء»
تجمّدت يد الزعيم نقابة فوق الورقة ، و الريشة تقطر بحبرٍ أسودٍ صغير على سطح المكتب ، تبادل نظرة صامتة مع مساعده الذي اتّسعت عيناه بدهشة ، قبل أن يسأل الأخير بسرعة متوترة:« مـ… ما هو مصدرك لهذه المعلومة؟ »
أردف لوسيان بنبرة هادئة محاولا حفاظ فيها على اتزانه وهو يثبت عينيه على رئيس نقابة: « أنا لا أبيع مصادري داخل النقابة… لكن يمكنني إثبات ما قلته »
تبادل الرئيس و مساعده نظرات سريعة ، الأول يشد على القلم حتى ابيضّت مفاصله و الثاني يهمس متوترًا له في أذنه : « ما هي المعلومات الأخرى التي لديك؟ »
قبل أن يُكمل لوسيان حديثه ، دوّى صوت المساعد بانفعالٍ شديد : « سيدي! هل تصدّق كلامه هذا دون دلائل قاطعة؟! »
رفع لوسيان رأسه ببطء تدريجيا ، عيناه تلمعان ببريقٍ خافتٍ و صوته ينخفض لدرجةٍ تجبرهم على الإنصات له : « الإمبراطور قرّر جمع فئة من الموهوبين الذين لا يملكون دعماً ولا جذوراً… منحهم هويات جديدة ليخدموا الأمير الأول ، تعويضًا عن نقص النبلاء الأقوياء في حزبه »
ارتفع حاجبا الرئيس قليلًا قبل أن يزفر ببطء ، صوته خرج تعبا و مرهقا : « لوسيان… أتتذكّر ما علّمتك إياه؟ لا تعطِ معلومات دون دليل ، أو على الأقل كن شخصًا موثوقًا »
تجمّد وجه لوسيان للحظة،ثم ابتسم بخفوتٍ لا يخلو من مرارة ، هو يعلم جيدًا أنه ليس شخصًا موثوقًا
مجرد سارقٍ صغيرٍ في زقاقٍ مبللٍ بالمطر… و لقيطٍ آخر من أطفال الشوارع ، تتسخ يديه بذنوب لم يرغب بإرتكابها
خفض نظره للحظة قبل أن يهمس بثقةٍ معتادة منه : « بعد بضعة أيام من جمع الموهوبين ، ستبدأ الإشاعة بالانتشار… أن الأمير الأول ركّز على دعم عامة الناس بدلًا من بناء علاقات مع النبلاء ، سيبدو تصرّفه نبيلاً أمام العامة ، لكنه سيقضم سمعته بين السادة النبلاء ببطءٍ كالسّم »
ساد الصمت بين ثلاثة لم يبقَ في الغرفة سوى صوت انفاس الثقيلة ، و ريشة القلم التي ما زالت تتدلّى بين أصابع الزعيم المرتجفة
وضع زعيم النقابة قلمه على الطاولة ووقف سائراً بخطوات بطيئة نحو لوسيان ، و رمقه بنظرة فاترة قبل أن يمسكه من ياقة قميصه خلف رقبته ويرفعه قُبيلًا ليقابل عينَيْه جيدًا
لم تمضِ سوى ثوانٍ ، و لأول مرة لم يشعر لوسيان الا بالخجل من لون عينه غريب الذي أمعن رئيس نظر إليه ؛ و و استمر الآخر في التحديق بلا تراجع فيه
اجاب الرئيس بصوتٍ منخفض حاسم : « حسناً… سأصدقك »
« سيدي! » صارخًا من جانبٍ آخر ، اندفع رودريك بالاعتراض لكن الرئيس نقابة تمالك نفسه و قال بحماس واضح : « لا بأس، رودريك أنا من ربّيت هذا الرجل لن م يُغامر و يأتي بمعلومات خاطئة لي … إلا أني ما زلت أشعر بفضول حول مصادره »
جلس مجدداً ، بدأ يكتب شيئًا على طرف ورقة ، ثم رفع رأسه وسأل بصوتٍ أهدأ: «هل كان هناك فرسان ملكيون في الحانة أو مكان مماثل في ذلك اليوم الذي حصلت عليه على هذن معلومات ؟ »
صاح رودريك بشكل أشد : «سيد وليام !» ، توقف الرئيس عن الكتابة ونظر إلي لوسيان للحظة
تردد لوسيان لوهلة بشأن ماريده في مقابل لكن فرصة مثل هذه لا تأتي مرتين لذلك أردف طالبا حقه من مشاركة هذه معلومات : «لا أريد أموالًا هذه المرّة… سأمنحك معلوماتٍ أكثر قيمة من هذه ولكني أريد منك شيئًا في المقابل»
قال لوسيان بصوتٍ متماسك رغم ارتجاف قبضة يده: « تكفّل بأختي بإيميلي! »
تجمّد رئيس النقابة لوهلة محدّق فيه مذهولًا : « هاه؟! »
تابع لوسيان بسرعة : « سأعطيك معلوماتٍ حصرية ، لن تجد مثلها في أرجاء الإمبراطورية… لكن لمدّة محدودة فقط »
ارتعشت يداه وهو يقبضهما بقوة حتى ازرقت مفاصله تفكيره مضطرب و قلبه يقرع صدره كطبول حرب ماذا يمكنه أن يفعل أكثر؟ كيف يقنعه؟
لكن الرئيس نقابة اكتفى بالتنهيدة القصيرة تلك التي تسبق قرارًا كبيرًا ثم قال بهدوءٍ : « حسنًا…»
«سيدي!!» صرخ مساعده غير مصدّق لما سمعه
رفع رئيس نقابة نظره نحو لوسيان قائلا بوضوح :
«سأتكفّل بإيميلي في المقابل ستعطيني كل ما تملك من معلومات عن الأمير الاول وحزبه »
تسمرت عينا لوسيان عليه بمزيج من الذهول والارتباك : « لماذا…»
« ماذا؟ » سأله الزعيم وهو يرفع حاجبه
«لماذا وافقت بهذه البساطة؟! أنت دائمًا تقول إن عليّ أن أضع ضمانًا قبل أي صفقة ، فلماذا لم تفعل هذه المرّة؟!»
تجاهله رئيس نقابة و لم يُجب بكلمة عن كلامه بل أدار ظهره ببطء و قال بصوت منخفض لمساعده:«حضّر ورقة الصفقة»
بينما وقف لوسيان مكانه يشعر بارتجاف في صدره لا يعرف سببه أهو خوف؟ أم راحة؟ أم مزيج غريب من كليهما؟
قال زعيم النقابة وهو يقلب بعض الأوراق على مكتبه بنبرة هادئة يحاول اخفاء علامات قلق التي ارتسمت على وجهه :
«لقد سمعت قبل فترة إشاعة عن وجود خطبٍ ما في قصر الأمير الثاني… ومهما حاولت زرع جواسيس هناك ، يتم الإمساك بهم في كل مرة»
أمسك بورقة جديدة وبدأ يخطّ عليها بعناية بينما تابع حديثه بنغمة منخفضة أكثر و عيناه لا تفارقان ورقة :
«غير أني تأكدت من صحة دخول عددٍ كبير من السحرة إلى جناحه مؤخرًا… أيّ معلومة في هذه اللحظة قد تغيّر مسار عملي بأكمله»
رفع بصره نحو لوسيان و نظراته اخترقته :« أعرف أن مصادرك لا تُحصى في هذه الشوارع و لا أعلم أيّ حانةٍ أو مكتبٍ أو زقاقٍ تسلكه لتحصل منها على معلوماتك… لكني أثق بشيءٍ واحد … معلوماتك لم تخذلني يومًا»
صمت لحظة ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة:« لا أعلم ما يدور في رأسك يا فتى… لكنك على الأقل ، تعرف ما يجب أن تفعله في أغلب الأحيان ، أحبّ الرجال البالغين الصغار مثلك ، الذين لا يثيرون الفوضى إلّا حين يكون لديهم سبب وجيه»
التفت نحو مساعده وقال بصرامة خفيفة:
«رودريك ، جهّز أوراق الكفالة فتاة لأجلي»
ثم عاد بنظره نحو لوسيان ، حاجبه مرفوع بابتسامة جانبية:«و الآن لوسيان… هل تريد أن نخوض حوارًا حول السبب الذي يجعلك مبللًا من الرأس إلى أخمص القدمين؟»
أجاب لوسيان ببساطة، كمن يحدّث نفسه:
«أوه… لقد غرقت في النهر … لكني بخير الآن»
توقّف رئيس نقابة عن الكتابة، عينه تتسع بدهشة حقيقية هذه المرة: « نعم الغرق في نهر في هذا الشتـ… مهلاً ماذا قلتَ؟!»
رفع رأسه بسرعة وبدت على وجهه ملامح مزيج من الغضب والذهول، بينما وقف المساعد مذهولًا يحدّق في الفتى الذي يبدو أنه نجح للتوّ في تحويل أكثر رجلٍ هدوءًا في العاصمة إلى بركانٍ على وشك الانفجار
صاح مساعده و قد اتسعت عيناه رعبًا:« يا إلهي ، لوسيان! كيف حدث ذلك؟! مهلًا يجب أن أفعل شيئًا فورًا!»
غادر المساعد رودريك مسرعًا مكان بعد تركه لأوراقه فوق المكتب التفت أنظار رئيس نقابة مرة أخرى في اتجاه لوسيان:«ماذا فعلت بالضبط حتى تسقط في النهر؟»
أجابه لوسيان وهو يجفف قطرات الماء من شعره المبلل التي أدركها متأخر وصوته يحمل نبرة خفيفة من السخرية:
«كانت محاولة لإنقاذ غنيمتي لهذا اليوم»
رفع رئيس نقابة حاجبًا واحد وهو متكئ على مكتبه بذراعيه المتشابكتين : «دعني أحزر… سرقت أحد النبلاء ، و قبل أن يُمسك بك حُرّاسه قررت أن ترمي نفسك في النهر؟»
ضحك لوسيان بمرح و هو يتذكر تلك مطاردة التي مر بها :
«نااه… لكنك اقتربت قليلًا»
تقلصت ابتسامة رئيس نقابة وهو يحدّق فيه مطولًا: « لوسيان أتكره النبلاء؟»
رفع لوسيان عينيه نحوه بإستغراب و قال بهدوء:«هذا يعتمد على رد فعلك»
تجمدت ملامح رئيس نقابة للحظة ثم قال بنبرة متوجسة:
«ماذا تعني؟»
اقترب لوسيان خطوة، وعيناه الزرقاوان تومضان بجدّية :
«أعني… أنك نبيل كيف انتقد نبلاء أمام نبيل ؟ »
ساد الصمت وبدت الصدمة على وجه رئيس النقابة الذي اتسعت عيناه قبل أن يقول بحماس:«المصدر الذي أعطاك هذه المعلومة… أخبرك بذلك أيضًا؟»
( يتبع )
التعليقات لهذا الفصل " 2"