1
أم وأب يحبانه ، سرير دافئ و طعام ساخن موضوع لأجله فوق طاولة … كل هذه الأشياء ليست من بين هموم طفل مشرد لا وقت له ليتأمل أو يحلم بكل هذا ، كل ما عليه هو أن يجد شخصًا نبيلًا يمرّ بجانبه لينتشل أحد جيوبه بسرعة
لوسيان ، ذلك الاسم الذي منحوه له في الميتم على يد إحدى الراهبات اللاتي كنّ يعتنين بالأطفال الرضع، كان مثل باقي أيتام ليس مميزًا بشيء خاص الشيء الوحيد الذي يملكه هو تلك القلادة التي تظل معلقة على رقبته، منذ أن وجدته الأخوات عند باب الميتم وهو رضيع وحيد يبكي ملفوفًا بغطاء ناعم من نوعية عالية
لحسن حظه لم تكن الراهبات صغيرات سيئات ، بل كنّ طيبات القلب احتفظن بقلادته بحرص حتى بلغ الثامنة من عمره ، ثم أعيدت إليه كي لا تُسرق من قبل راهبات أكبر سنًا أو حتى من مدير الميتم البخيل
ـــــــــــ
كان البقاء في شارع مكدّس بالثلوج أمرًا معتادًا للأطفال المشردين، فليس هناك ميزانية تكفي لشراء ملابس مناسبة أو طعام يشبع جوعهم، خاصة حين يكون المدير يختلس الأموال، والراهبات يلتزمن الصمت مقابل بعض الرشاوى
كان ذلك الصبي ذو الحادية عشرة عامًا يراقب الشارع العام بصمت ، يحدق في كل زاوية متحققًا من أن لا أحد هنا يسبقُه إلى سرقة ضحيته.
هبت نسمة هواء باردة صفعت وجهه بعنف ، رفرفت خصلات شعره الأبيض عاليًا بفعل الريح كانت ملابسه رقيقة جدًا في وجه هذا الشتاء القارس، رغم أن إحدى الراهبات تمكنت من توفير سترة له ، إلا أنها لم تكن كافية لتحمّل هذا البرد القارس
رفع قبعته المرقعة ليُخفي شعره الأبيض ، ذلك الشعر النادر في الإمبراطورية، حتى بين النبلاء لم يكن أحد يمتلك مثله من بين كل نبلاء الذين مرو عليه . لحسن حظهة، كونه من عامة الناس أنقذه من اللعنات التي كانت ستنزل عليه من الكنيسة أو ربما مطالبة بموته بحجة كونه مختلفًا
ارتسمت ابتسامة على وجهه عندما وقعت عيناه على آنسة ثرية ، ليست ذكية لتلبس ملابس مزركشة مثل هذه أو سترة و وشاح صوفي عالي الجودة في شارع كهذا . كانت هذه على الأرجح زرياتها الأولى بعد حفل بلوغها سن الرشد
تفحص الأشخاص المحيطين بها ، ولاحظ فارسًا يحمل سيفًا مربوطًا على خصره ، مما قد يشكل عائقًا أثناء عمليته، بالإضافة إلى وجود خادمة متحمسة بطريقة خرقاء
بدأ يتحرك بهدوء نحو الأمام ، وعيناه الزرقاوان ترصدان هدفه بوضوح ؛ حقيبة الفتاة في تلك اللحظة، دقت أجراس الكنيسة ، التفتت أنظار الغالبية نحو المبنى كنيسة ، وانتهز هو الفرصة لينتشل حقيبتها في لحظة صدمة منها
قبل أن تتاح للفارس فرصة للإمساك به، انخفض إلى الأسفل ، مرورا أسفل فستان الآنسة ، التي خرجت منه صرخة خجلة تجاه هذا التصرف غير الأخلاقي خرج هو من الجهة المقابلة وبدأ يركض مبتعدًا
نظر الفارس إلى الخادمة ليفهم معنى نظراته لتأخذ الآنسة إلى أحد المحلات القريبة لتكون في أمان، بينما شرع هو في الركض خلف السارق الصغير
لم يكن الهروب صعبًا ، ليس بالنسبة لصبي يعاني من فرط النشاط ويعرف المنطقة جيدًا ، فقد ركض بين الحشود وقفز عبر المحلات، ثم اختتم هروبه بالاختباء داخل عربة شحن
خرج لوسيان من العربة واتجه نحو زقاق فارغ ، وهو يحدق في الحقيبة الجلدية الجميلة التي بين يديه، التي سوف تجلب له مالًا جيدًا بتأكيد فتح الحقيبة ووجد بداخلها عطراً يمكن أن يهديه لأخته الصغيرة ، و خاتمًا جميلًا سيكون بيعه مربحًا في السوق السفلي، والأفضل من ذلك، وجد بعض العملات الذهبية جاهزة للصرف
استرق سمعه لصوت حذو خطوات تقترب منه، لكنها لم تكن رحيمة إطلاقًا. رأى بعض الرجال أصحاب البنية الأكبر، وعرف غايتهم من نظراتهم الحادة. لم تمضِ لحظات حتى بدأ بالركض مرة أخرى، ممسكًا بالحقيبة كما لو كانت حياته تعتمد عليها.
عندما عبر الجسر، بدأت آثار التعب تظهر على وجهه. نظر خلفه فرأى أولئك الرجال ثلاثة يلاحقونه بلا هوادة. كان يفضل الموت على منحهم غنيمته. وضع الحقيبة الجلدية داخل ملابسه واحتضن جسده بشدة، ثم قفز فوق السور ليلتحم جسده بالماء البارد للنهر
توقف الرجال عن مطاردته ، غير محظوظين بعدم تمكنهم من الإمساك بغنيمة سهلة مثل هذه . من المرجح أن هذا الصبي سيموت بعد أن رمى نفسه في النهر.
«تشه ولد غبي…..» تمتم أحد رجال قبل أن يسيرون مبتعيدن عن جسر
تحت مياه النهر الباردة ، كان يحاول السباحة نحو الأعلى بأقصى ما لديه ، رغم صعوبة ذلك، إلا أنه لم يحقق أي نتيجة يذكر. بدأ الهواء يضيق في صدره ، وشريط حياته القصير يمر أمام عينيه الآن
عاش في ذلك الميتم البائس ، حيث تُربى الفتيات ليصبحن خادمات مثاليات، والصبيان ليكونوا خدمًا أو مرتزقة.
بالطبع ، لم تخلُ حياته من نظرات الاحتقار والإساءة من قِبل بعض الراهبات الأكبر سنًا، ومن مدير يختلس الأموال ويقدّم الرشاوى لهن
الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله لإطعام نفسه وأخته بالتبني هو سرقة جيوب النبلاء
رغم أن عقوبة سرقة نبيل تصل إلى الإعدام ، إلا أن مخاطرة حياته لأجلها كانت تستحق. لم يكن مستعدًا لسماع بكاء اخته مرة أخرى بسبب الجوع أو البرد
كان يراقبها بين فترة وأخرى ، تنظر إلى الأطفال الآخرين، حتى وإن كانوا من عامة الناس، إلا أنهم لديهم عائلات تعتني بهم ، على عكسهما
أما حياته السابقة…؟
اتسعت عيناه تحت الماء ، نفس تلك العيون التي كادت تتقبل مصير موت الغرق، اتسعت فجأة عند تذكره حياة غير حياته حالية ، ذكريات لم يكن يعرف بامتلاكها و مشاعر لم يشعر بها إلا الآن
كان طالبًا في مرحلة الثانوية ، يعيش حياة عادية ومسالمة، أمه تحبه كونه الطفل الأصغر، وأبوه يعلمه أشياء لطالما اعتبرها مسلمات روتينية ؛ السياسة، أخبار السيارات والمحركات.
الإخوة أكبر منه سنًا ؛ أخته الكبرى التي كانت دائمًا تدلله وتغرقه بالهدايا في كل مرة تعود فيها من عطلتها الجامعية، وشقيقه الأكبر الذي كان أقرب إليه أكثر من أي فرد آخر.
لقد كان لديه عائلة… فما الذي حدث إذن؟ لماذا وُلد في هذا العالم وعاش بتلك الطريقة البائسة لأحد عشر عامًا كاملة؟
حاول السباحة نحو الأعلى حقًا هذه المرة ، تاركًا خلفه تلك الحقيبة . هو لا يريد الموت، ولا يستطيع الموت الآن ، ايميلي أخته الصغيرة لا تملك غيره… ايميلي!
مر في رأسه شريط كامل ؛ هذا العالم هو رواية خيالية قُدمت له كهدية في سنة التحاقه بالثانوية! لا يتذكر من منحها له، لكنه تذكر قراءتها في مرحلة ما، عندما انقطعت الكهرباء في المنزل، وتحت ضوء الشموع، بسبب الملل.
“المجد بين يديك” كانت رواية تجريدية، على أقل حسب ما يتذكره ، تتناول صراعًا بين أمراء حول خلافة العرش، الأمير الأول كان ابن محظية، والأمير الثاني ابن إمبراطورة ، لكن المشكلة لم تكن هنا فقط ؛ بل تكمن في أن أخته الصغيرة كانت ستُجَرّ إلى حزب الأمير الثاني بسبب مهاراتها في جوسسة ، و سوف تُعامل كحيوان أليف لذلك الأمير مدلل، لتُموت بعد حمايتها للأمير الأول الذي تبين أنه حبها الاول
زاد نشاط عضلاته ، ليسبح صعودًا نحو الأعلى ، شهق بقوة و هو يحاول البقاء طافيًا على سطح الماء ، ثم بدأ بالسباحة نحو اليابسة أسفل جسر نحو تلك ضفة
انبسط على اليابسة ، وهو يسعل الماء العالق بين رئتيه. نظر إلى جانبه، فرأى أن الحقيبة وصلت إلى اليابسة أيضًا معه ، وكان من المفترض أن تغرق حقيبة مثل هذه ، فكان غريبًا أن تصل إلى جواره تمامًا.
وقف بسرعة، حمل الحقيبة ووضعها في أحد جيوب سترته الداخلية، ثم بدأ يركض بأقصى سرعة
مطعم إدوارد ؛ مطعم شهير في الإمبراطورية ، ليس فقط لأنه يقدم طعامًا ومشروبات من خارج الإمبراطورية وقائمة طعام متغيرة يوميًا ، مما يجعل حتى النبلاء يتسللون إليه ويخفون هويتهم ليتذوقوا أطعمة نادرة، بل أيضًا لأنه يُعتبر وكرًا لتوزيع المعلومات وشبكة اتصالات واسعة.
كان لوسيان يلهث بقوة و و هو ينظر إلى المدخل الأمامي… لم يحلم أبدًا أن يدخل هذا المكان ، فهو لا يملك المال الكافي للدفع. لكنه كان محظوظًا عدة مرات عندما تناول طعامًا هنا بفضل علاقته برئيس أو كما يحب أن يطلق على نفسه الشاف رئيسي
توجه بخطوات سريعة إلى باب خلفي ودخل من هناك كان المكان كما يعرفه دائمًا ؛ ممر خشبي طويل ، حيث يحرس عمال دائما على نظافة المكان ، مع وجود بعض الطاولات ومكان لتلقي طلبات الطعام والشراب ، الطعام هنا ليس مثل الواجهة الأمامية، لكنه ما زال لذيذًا
أعضاء النقابة أو العمال المؤقتون ينالون شرف تناول الطعام هنا، وبالطبع هناك بعض الأطفال ذوي المهام الخاصة مثله
توجه نحو اللوحة المعروضة التي تُظهر بعض المهام وأسعارها. اعتاد دومًا الحصول على مهام بسيطة، مثل جمع معلومات من المرتزقة أو فرسان سكرة الذين يختلطون بالنبلاء ليجمعوا فضائحهم. رغم أن المبالغ صغيرة، إلا أن أي شيء أفضل من لا شيء
لم يستطع أن يتذكر جيدًا كيف مات في الرواية ، كل ما يتذكره هو أنه حاول سرقة أحد النبلاء ، وتم اكتشاف أمره، فعوقب بقطع رأسه أمام العامة دون محاكمة ، قبل يوم واحد من أخذ أخته من قِبل فرسان الإمبراطور
لم يستطع أن يتذكر جيدًا كيف مات في الرواية، كل ما يتذكره هو أنه حاول سرقة أحد النبلاء، وتم اكتشاف أمره، فعوقب بقطع رأسه أمام العامة دون محاكمة، قبل يوم واحد من أخذ أخته من قِبل فرسان الإمبراطور.
لفت انتباهه عندما سقطت عيناه على رودريك . كان رودريك مساعد رئيس نقابة مخفية في هيئة مطعم كما هو حال دائمًا كان متيقظ يراقب من منطقته و يرى إن كان مكان نظيفاً أم لا
لطالما حسد لوسيان رودريك غلى مظهره ؛ شعره البني و عيونه البنية ، مظهر المعتاد الذي يمكنك رؤيته في كل مكان، لا أحد ينتقده عليه ، على عكس لوسيان الذي سبب له شعره الأبيض عقدة كبيرة ، إضافة إلى لون عينيه الغريب
توقف رودريك عن عمله عندما انتبه للوسيان الواقف أمام لوحة مهام معلقة قائلا له : «لوسيان؟ ماذا تفعل هنا؟ حسب ما أعرف، ليس لديك أي مهام هنا اليوم . هل أنت جائع؟»
نظر لوسيان إلى رودريك بحيرة علت ملامح وجهه بريئ تقوس حاجبيه و عض شفتيه لوهلة لفكرة حسد سخيفة التي مرت على باله فجأة شَّاعر بالذنب بسبب اهتمام رودريك به
لاحظ رودريك مظهره المبلل و كيف كانت قطرات ماء تقطر من كل مكان في جسده ، تلك النظرة في عينيه… كان معتادًا على نظرة لوسيان الباردة ن
حوه ، لكن هذه المرة لم تكن نظرة باردة فقط ، بل احتوت أيضًا على لمحة من قهر
( يتبع )
التعليقات لهذا الفصل " 1"