5
عندما اختفت الأرضية، شعرتُ بإحساسٍ مرعبٍ بالطّفو.
أدركتُ أنّ شيئًا ما قد حدث بشكلٍ خاطئ، وحاولتُ الإمساك بساق الطّاولة بسرعة، لكنّه كان قد فات الأوان.
لم أستطع مقاومة الجاذبيّة، وسقطتُ مباشرةً إلى الأسفل.
لم تكن هذه مغامرة، بل قبر.
أغمضتُ عينيّ بقوّة وأنا أشعر بدوّامة السّقوط.
عندما بدأ دماغي يرتجف وسيطرت الدّوخة على رؤيتي، توقّف السّقوط فجأة.
‘…ما هذا؟’
كنتُ مستعدّةً لتحطّم عظمةٍ ما، لكن لم أشعر بأيّ ألم.
حرّكتُ أصابع يديّ وقدميّ. كانت جميعها سليمةً تمامًا.
لكن، ربّما بسبب صدمة السّقوط، شعرتُ بدوّارٍ في رأسي.
كانت رؤيتي مشوّشةً لدرجة أنّني لم أرَ بوضوح.
في انتظار عودة رؤيتي، بدأتُ أتحسّس المحيط للتأكّد مما إذا كنتُ قد هبطتُ في مكانٍ آمن.
أوّل ما لمسته كان شيئًا صلبًا ومسطّحًا.
تحسّستُ بحذرٍ بأطراف أصابعي.
شعرتُ بشيءٍ ناعمٍ كالمخمل وباردٍ كالجليد.
كان ملمسه يشبه جلد كائنٍ حيّ، أو كأنّني أداعب أفعى حريريّة.
“ما هذا بحقّ السماء؟”
لم أرَ شيئًا بوضوح بسبب تشوّش رؤيتي.
يبدو أنّه ليس أفعى، لأنّه لم يعضّني.
عندما فركته بجرأةٍ أكبر، تحرّك الشّيء المجهول كما لو كان حيًّا.
الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر، كان هناك شيءٌ غريب.
لم أشعر بأيّ صدمةٍ كما لو كنتُ قد سقطتُ على الأرض.
كان هناك شيءٌ يدعم ساقيّ وظهري.
نعم، كما لو أنّ شخصًا حيًّا قد احتضنني أثناء سقوطي.
لحظة، شخصٌ حيّ؟
مجرد التّفكير بأنّه قد يكون شخصًا جعل ظهري يقشعرّ تلقائيًّا.
في تلك اللحظة، بدأت رؤيتي المضطربة بسبب صدمة السّقوط تتّضح.
أوّل ما لفت انتباهي كان الغبار العائم في الهواء.
كانت حبّات الغبار التي سقطت معي تلمع كأنّها مسحوق الألماس تحت ضوء القمر.
ثمّ كانت هناك عينان زرقاوان تلمعان بنفس القدر، تنظران إليّ بنظراتٍ ثاقبة.
“آه.”
عرفتُ على الفور من هو بمجرّد رؤيته.
إنّه الفتى الذي رأيته على غلاف الرّواية التي أعطتني إيّاها أختي.
بطل هذه الرّواية، ثيودور ليندال فرانسيس.
كان ثيودور، الذي ملأ رؤيتي المتعافية حديثًا، مخيفًا نوعًا ما.
ولم يكن ذلك بسبب بنيته القويّة أو مظهره الشّرس كأحد أوباش الأزقّة.
بل لأنّ ثيودور، كما رأيته بعينيّ، كان غير واقعيّ بشكلٍ مفرط.
في الغلاف، كان يبدو شابًّا ناضجًا، لكن ثيودور الذي أمامي الآن كان أقرب إلى صبيٍّ غير ناضجٍ وقلق.
بسبب السّقوط غير المتوقّع في أحضانه، تمكّنتُ من رؤيته عن قرب.
‘لم أظنّ يومًا أنّني سأستخدم هذا الوصف لرجل…’
كان ثيودور جميلًا جدًّا.
جميلًا لدرجة لا تستطيع مفرداتي الفقيرة وصفه.
كان الشّخص الذي كان يبكي بنزقٍ قبل قليل هو ثيودور، إذ كانت دموعه التي لم يمسحها بعد تتعلّق برموشه.
تتبّعتُ آثار الدّموع الواضحة بعينيّ، ثمّ أدركتُ.
الصّراخ منذ قليل، كان ثيودور من أطلقه.
لكن مهما كان جميلًا، فإنّ الإزعاج اللّيليّ جريمةٌ لا تُغتفر.
كنتُ على وشك أن أطلب منه التّزام الصّمت قليلاً، لكن ثيودور تحدّث أوّلاً:
“سمعتُ عنكِ.”
من؟ أنا؟
هل هذه نسخةٌ متقدّمة من “ألم نلتقِ من قبل؟”
عبستُ وأنا أحاول فهم ما يعنيه، فاقترب ثيودور فجأة وألصق جبهته بجبهتي.
“أنا أعرف كلّ شيء، لذا من الأفضل أن تقولي الحقيقة.”
“ماذا تعرف بالضّبط…؟”
تظاهرتُ بالبراءة قدر استطاعتي.
لم أعرف بعد ما الذي يعرفه.
“أعرف أنّكِ جنيّة.”
“ماذا؟ أيّ جنيّة؟”
“أنتِ جنيّة بانشي (جنيّةٌ تظهر في الأساطير الكلتيّة، تُعرف بالنّحيب. تظهر بأشكالٍ مختلفة كفتاةٍ صغيرة أو عجوز أو سيّدةٍ نبيلة. يُقال إنّها تظهر وتبكي عندما يكون شخصٌ مهمّ أو نبيل على وشك الموت).”
أيّ جنيّة هذه؟
نظرتُ إليه بدهشة، فتجهّم وجهه الملائكيّ بشدّة.
“حتّى أنتِ تحاولين خداعي الآن؟”
“لحظة، هذا الموقف ليس مناسبًا للحديث، فدعني أوّلاً…”
كانت الوضعيّة محرجة للغاية بسبب قرب وجهينا.
شعرتُ بنفَسه البارد بوضوح، فحاولتُ سحب ظهري إلى الخلف.
لكن بمجرّد محاولتي الإفلات من أحضانه، صرخ غاضبًا:
“لا أستطيع! بل لن أترككِ! أخيرًا أمسكتُ بجنيّة، أنا لستُ أحمق.”
“لحظة!”
“بمجرّد أن أترككِ، ستهربين وتطيرين، أليس كذلك؟ لا تحاولي خداعي، لن أترككِ!”
“آه!”
احتضنني ثيودور بقوّةٍ خانقة، مما جعل المسافة التي حافظتُ عليها بلا معنى.
شعرتُ بصدره القويّ عبر طبقةٍ رقيقة من القماش.
كنتُ أسمع دقّات قلبه.
كان قلبه ينبض بسرعةٍ ملحوظة، ربّما بسبب المفاجأة.
حسنًا، أنا لستُ جنيّة.
كيف أشرح هذا؟
حاولتُ الإفلات من أحضانه أوّلاً لأتمكّن من التّوضيح.
لكن على الرّغم من ذراعيه النّحيلتين، كان قويًّا بشكلٍ مذهل.
كان يعانقني وكأنّني دميةٌ محبوبة، وصرخ:
“هل أبدو مضحكًا إلى هذا الحدّ؟ هل أبدو كأحمقٍ لا يستطيع التّمييز بين جنيّةٍ وبشريّ؟”
يبدو أنّكَ لا تستطيع التّمييز، إذن أنتَ أحمق.
كافحتُ لإزاحة ذراعه النّحيلة بأيّ طريقة.
لا عضلات، فمن أين تأتي هذه القوّة؟
يبدو كسيّدٍ أنيقٍ لم يركل كرةً في حياته، لكن قوّة ذراعيه كانت مذهلة.
“لا أعرف لماذا لديك لسّوء فهم هذا ، لكنني…”
قاطعني ثيودور:
“جنيّة.”
“لا، لستُ كذلك.”
“أنتِ جنيّة.”
“واه، هذا حقًا جنونٍ! أقول لكَ إنّني لستُ كذلك!”
كان ثيودور، على عكس مظهره، عنيدًا بشكلٍ لا داعي له.
وجهٌ جميل، لكنّه مجرّد عنيد.
عندما عبستُ، ردّ ثيودور بعبوسٍ أكبر.
نظرتُ إليه بنظراتٍ حادّة تحت ضوء القمر، وردّ هو بنظراتٍ مماثلة.
“حسنًا، حسنًا! سأريكِ دليلاً واضحًا على أنّكِ جنيّة.”
هل هذا مناسب؟
كان متحمّسًا جدًا لاكتشافه جنيّة، فعيناه الجوهريّتان تلألأتا.
كم عمره حتّى يتحدّث عن الجنيّات؟
لكنّه، مقارنةً بما سبق، بدا الآن أقرب إلى صبيٍّ في عمره، وهو ما كان ممتعًا للنّظر.
“حينها، ستعترفين بصدق. سأتغاضى مرّةً واحدة لأنّكِ جنيّة.”
أصحّح، كان ممتعًا للنّظر فقط.
خشي ثيودور هروبي، فاحتضنني بإحكام كما تحتضن الأوزّة بيضها، وبدأ يشرح:
“كانت مربّيتي تقرأ لي كلّ ليلة قصصًا عنكنّ.
أنتنّ، البانشي، تظهرن عندما يكون شخصٌ على وشك الموت وتبكين.”
من؟ أنا؟
“تصرخنّ بصوتٍ حادّ وتنتحبن، لذلك يُطلق عليكنّ أيضًا نساء النّحيب.”
توقّعتُ أنّ الجنيّات ينثرن غبار النجوم السّحريّ، لكن هذا يبدو مخيفًا.
“لحظة.”
من المثير للاهتمام أن يكون هناك مثل هذه الجنيّات، لكن بدا لي شيءٌ غريب.
“لكن كيف يكون ذلك دليلاً على أنّني جنيّة؟”
“كنتِ تصرخين قبل أن تسقطي في أحضاني.”
حسنًا، أيّ شخصٍ يسقط من مكانٍ مرتفع سيصرخ.
توقّعتُ ممرًّا سرّيًّا، لكن الأرضية انهارت.
من لن يصرخ في مثل هذا الموقف؟
“هذه مجرّد صدفة.”
ضحك ثيودور بسخريةٍ باردة.
“تظهرن مرتديات فستانًا أخضر،”
عند ذكر الفستان الأخضر، تحقّقتُ من ملابسي.
مهما كان التّفكير متفائلاً، فهذا أقرب إلى كيس أرزٍّ منه إلى فستان.
اخترتُ أوّل ما وجدته في حقيبة جريتنا، وتفسيره لهذا كفستانٍ أخضر كان موهبةً بحدّ ذاتها.
“وشعرٌ طويلٌ أشعث،”
ألقى ثيودور نظرةً على قميصي، ثمّ أمسك برفقٍ بأطراف شعري.
شعرتُ بيده البيضاء النّحيلة تداعب شعري بلطف.
رغم أنّه كان يلمس أطراف شعري بلا مبالاة، إلا أنّ أصابعه كانت ترتجف.
كانت لمسة ثيودور خرقاء، كما لو كان يداعب شخصًا لأوّل مرّة.
“وأعينٌ محمرّة من البكاء اليوميّ.”
بينما كان يمسك بأطراف شعري، التقى بعينيّ.
عندما رأى عينيّ المحمرّتين، ظهرت على وجهه تعبيراتٌ مليئة باليقين.
فتحتُ فمي ثمّ أغلقته مجدّدًا.
لم أعرف من أين أبدأ بتصحيح سوء الفهم.
شعري كان منسدلاً لتجفيفه، وعينيّ كانتا محمرّتين بسبب الإرهاق الدّائم.
ومن أين أتى بفكرة أنّ هذا القميص السّخيف هو فستانٌ أخضر؟
كلّ هذا مجرّد صدفةٍ ملعونة.
كما يُقال، التّأويل أفضل من الحلم نفسه، وهذا بالضّبط ما يحدث الآن.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"