في مواجهة ترافس، الذي كان يلهث بصعوبة، كانت هناك جثث عدة من كلاب الجحيم السوداء ممددة، وقد اخترقتها السيوف السحرية.
بينما بدأ الفرسان من نفس فرقته، في إنزال أسلحتهم بعد أن ساد الهدوء في الجبال.
“سيد ترافيس!”
ركضت بريجيت نحوه، وعيناها تتألقان، بينما مسح ترافيس العرق عن جبينه بكمّه.
“لقد كان أداؤك رائعًا، كما هو متوقعٌ منك، سيد ترافيس.”
“أجل، لا بأس.”
“كيف كنتُ كمعالجة، برأيك؟ هل كنتُ أفضل من شقيقتي بكثير؟”
“نعم، شكرًا لكِ.”
رسم ترافيس ابتسامةً خفيفة على شفتيه، لكن عيناه لم تعكسا هذه الابتسامة.
الآن لأول مرة حصلَ على دعم بريجيت، مما دفعه للتساؤل بخفوت.
“هل كان علاجكِ لي اليوم بكل طاقتكِ؟”
“بالطبع، لا يمكنني التقصير في مساعدة السيد ترافيس،
أليس كذلك؟… هل هناك ما يزعجك؟”
رفع ترافس حاجبًا عند ملاحظته لنظرة بريجيت الفضولية.
“لا، على الإطلاق. لقد ساعدتيني بالفعل.”
ارتخت تعابير وجه بريجيت، ونظرت إليه بإطمئنان.
“على عكس شقيقتي، هذه هي المرة الأولى التي أتمكن فيها من الوقوف إلى جانبك ودعمك أثناء معاركك، لذا قد يكون هناك بعض الأشياء التي لم أتمكن من استيعابها بعد بشكل كامل. دعني أقدم لك علاجًا سحريًا مجددًا.”
رفعت يديها نحو ترافس وبدأت تلقي تعويذة الشفاء،
فتوهج ضوء قوي يحيط بجسد ترافيس.
‘يبدو أن مستوى طاقة بريجيت أعلى من أوريليا. ولكن…’
نظر ترافيس إلى يده التي تمسك بالسيف السحري.
‘لماذا شعرت اليوم وكأن جسدي لا يتحرك كما ينبغي؟
وأيضًا، هل كان هذا السيف بهذا الثقل دائمًا؟…’
رغم تمكنه من هزيمة مجموعة كلاب الجحيم بصعوبة،
إلا أن لحظةً خاطفة من القلق أصابته عندما كاد أحد أنياب الكلاب يصيبه في ذراعه.
عندما كانت أوريليا معه، كان ترافس قادرًا على هزيمة أمثال هذه الكائنات بسهولة.
لذا، بداخله، لم يكن ترافيس قادرًا على إخفاء شعوره بالقلق بشأن ما حدث في هذا اليوم.
رغم أن العلاج قد تم، إلا أن جسده بقي يشعر بثقل غير مألوف،
وكأن طاقته التي استنزفها في المعركة لم تعد إليه كما ينبغي.
‘ربما افتقار بريجيت للخبرة على عكس أوريليا التي رافقتني لفترةِ طويلة،
هو ما يجعل الأمور غير مريحة الآن….’
حاول تهدئة نفسه بهذه الفكرة، إلا أن عقله لم يستطع تجاوز الإنذار الداخلي الذي لم يتوقف عن الصراخ، مشيرًا إلى أن علاج بريجيت يختلف تمامًا عن علاج أوريليا.
هل يمكن أن تكون قوته التي حظيت بإشادة الجميع في هذا البلد بسبب-…
توقف عن التفكير بمثل هذه الأفكار، محاولًا كبتها.
(قوة المعالج هي في شفاء جروح المحارب، ولا يمكن للمعالج التأثير مباشرة على قدرات المحارب السحرية. فلو لم تكن لدى المحارب قوة كافية، فلن يكون لأي علاج نفع.)
بالنسبة لترافيس، كانت أوريليا، التي التقى بها قبل ست سنوات و خطبها، هي حُبّه الأول و أول معالجة تشاركه المعارك.
لم يذهب أبدًا إلى المعركة برفقة معالجة أخرى حتى هذا اليوم.
عندما كانت أوريليا تعالجه، كان يشعر بدفء داخلي وكأنَّ طاقة سحرية دافئة تجري في داخله، وتمنحه قوة متجددة.
كان يعتقد أن هذا الإحساس يمكن أن يتحقق أيضًا مع معالجين آخرين، بغض النظر عن الفروقات في توافق القوة السحرية.
لكن، لمرةٍ واحدةٍ فقط شعر بشيء خاص وغامض أثناء تواجده بجانب أوريليا.
حدث ذلك عندما أصيبت أوريليا بجرحٍ عميق في جبينها و هي تحميه.
في ذلك الوقت، كانت مجموعة من الوحوش قد ظهرت فجأة أثناء عبورهم عبر الجبال التي كانت ملجأً لهذه الكائنات، وكان غيلبرت الذي كان ضمن فريق المطاردة يتصدى لها.
إلا أن شريكة غيلبرت المعالجة كانت تبدو في حالةٍ سيئة، فكانت أوريليا، التي كانت قريبة منه، تلقي عليه تعويذة شفاء بسيطة.
عندما شكرها غيلبرت بابتسامة،
ابتسمت أوريليا بخجل، مما أثار مشاعر الغيرة في نفس ترافس.
وبينما كان مشتت الذهن، اقترب من كلب الجحيم كيربيروس
المختبئ بين الشجيرات دون أن ينتبه.
كيربيروس، الذي يحمل ثلاثة رؤوس، كان يندفع باتجاهه بوحشية،
وكل فمٍ له يحملُ أنيابًا حادة.
شعر ترافيس بخوفٍ يجمدُ جسده، ولم يستطع التحرك.
‘يبدو أنني سأموتُ هنا…’
رأى ترافيس قدم كيربيروس المرفوعة بمخالبه الحادة تتجه نحوه بسرعة.
وفي اللحظة التي كاد فيها كيربيروس أن يغرس مخالبه في جسده،
شعر بذراعين دافئتين تحتضانه لحمايته.
كانت تلك ذراعا أوريليا، التي وقفت بجانبه بشجاعة لتحميه،
وقد خدش كيربيروس جبينها بمخالبه، لتتناثر الدماء أمام عينيه وتعيده إلى وعيه.
جمع ترافيس كل قوته وغرس سيفه السحري في كيربيروس،
الذي كان في السابق أقوى منه. و بضربةٍ واحدة، قُتِل كيربيروس.
في تلك اللحظة تدفقت قوةٌ هائلة من أعماقه لا يزال يتذكرها.
‘في ذلك الحين، كنتُ أظنُ أنني استجمعتُ قوةً استثنائية بسبب الشعور بالخطر، لكن…’
ظل يذكر كيف شعر بحرارةِ غير عادية قد تدفقت من ذراعي أوريليا التي حمته،
وتسللت إلى داخله كقوة.
في ذلك الوقت، كان ترافس يعشق أوريليا الطيبة الجميلة،
والتي كان الجميع يتوقع لها مستقبلًا مشرقًا كمعالجة.
خاصةً بعد أن أنقذته وأصيبت بإصابة بليغة، ازدادت مشاعره تجاهها حبًا وتقديرًا،
وكان ممتنًا لها بشدة.
كان ينوي أن يحميها ويعتني بها مدى الحياة، فهي قد ضحت لأجله.
لكن مع مرور الوقت، وبزوغ نجم ترافيس وشهرته في معاركه،
بدأ يشعر بأن القوة التي يتوقعها الناس منه لم تتطور بالشكل المطلوب،
وأصبح جرح أوريليا البارز عند جبينها مصدر إزعاج له.
منذ الحادثة التي حمت فيها أوريليا ترافيس، ظل يحقق إنجازاتٍ مميزة في المعارك.
ومع مرور الوقت، بدأ يرى جرح أوريليا كعلامة مزعجة تلطخ سجله الناصع.
فكلما رأى هذا الجرح، تذكر الموقف المحرج عندما كان قريبًا من الموت، وكيف أن حياته كانت ستكون في خطر لولا مساعدتها، وكان هذا يثير شعوره بالضيق.
كما أن الجرح البارز على وجهها أصبح موضوعًا للتعليقات اللاذعة من البعض، مما جعل أوريليا تشعر بالحزن و تُصاب بالإكتئاب، وهذا ما زاد من انزعاج ترافيس،
إذ لم يكن بإمكانه إلا أن يشعر بالمسؤولية تجاه الحزن الذي يغمرها.
أوريليا المتواضعة والهادئة كانت مختلفة عن شقيقتها الشجاعة والفخورة، بريجيت،
التي كانت تشبهها نسبيًا في الملامح الجميلة.
ومع تقدم بريجيت وظهور مواهبها، وميولها الواضحة نحو ترافيس،
بدأ قلبه يميل إليها.
شعر ترافس أن بريجيت،
بجمالها ومهاراتها المتفوقة، قد تكون شريكة أكثر ملاءمةً له.
لكن على الرغم من أن ترافيس كان يتعامل بلطف مع بريجيت،
إلا أنه لم يتخذ قرارًا حاسمًا حيال مشاعرها الواضحة تجاهه،
وظل يتجنب اتخاذ موقف نهائي، وذلك لأن حدسه كان ينبئه بأن عليه ألا يتخلى عن أوريليا.
رغم علمه بأن قوة أوريليا السحرية ليست كبيرة،
كان يدرك أن علاجها يُعزز من نجاحه.
لقد سبق له أن شعر بقوة عظيمة تتدفق من أوريليا،
وكان ينكر هذا الشعور، لكنه لم يستبعد تمامًا احتمال أن تكون أوريليا هي مصدر قوته.
ومع ذلك، كانت تراوده مخاوف من أن يُظنَ بأن إنجازاته تعود إليها،
ما كان يثير في نفسه غضبًا وقلقًا. بالنسبة له، كانت الانتصارات المجيدة التي حققها ملكًا له وحده، وأوريليا ما هي إلا دورٌ مكمل.
‘أوريليا ذات الجرح البشع لن تجد من يقبل بها غيري..’
بهذه الأفكار المتعجرفة، بدأ ترافيس يُشعر أوريليا بأنه يجب ألا تتفاخر،
وعليها أن تكون ممتنة لبقائه بجوارها رغم قبحها وضعف قواها.
وقد حرص على أن يُذكرها دائمًا بذلك، حتى أصبحت تعابيره معها في بعض الأحيان لاذعة، وكأنه يحاول أن يرسخ لديها شعورًا بعدم أهميتها من دونه.
لكن عندما رحلت أوريليا عنه بسبب الحادثة في باحة القصر، شعر ترافس بالارتباك،
إذ لم يكن يريد أن يفقد سيطرته عليها أو يخسر مكانته بدونها.
وفي الوقت ذاته، لم يكن يرغب في تدمير علاقته ببريجيت، التي قد تزيد من قوته.
كان يفكر أنه في حال احتاج لأوريليا، يمكنه دائمًا التراجع و الإبتعاد عن بريجيت بقولِ عباراتٍ مبهمة، لكن بريجيت ذات الإرادة القوية كانت تفوقه في هذا الأمر.
وعندما علم بتخطيط وريليا بعد تركها لمنزل عائلتها، أدرك ترافيس أخيرًا أنه قد ارتكب خطأً لا يمكن إصلاحه.
‘اللعنة! كنتُ أنوي الاحتفاظ بأوريليا كورقةٍ رابحة في متناول يدي.’
حدق ترافيس في عيني كلب الجحيم الميت أمامه،
وهما مفتوحتان نحو السماء بلونٍ أحمر قانٍ، وقد شعر برعب لم يعهده من قبل.
التعليقات لهذا الفصل "10"