70 – لنرقص جميعًا بفرح!
ارتدّ صوت كاردين الجهوري والمهيب في أرجاء المكان، يحمل بين نبراته قوة القائد وهيبته.
تألّق شعره الأسود كبريق حجر السبج، وتمايل رداؤه الملكي مع نسمات الليل، بينما امتدّ الأفق خلف كتفيه العريضتين ليكشف عن سماء شاسعة تغمرها نجوم لا تُعدّ.
خمدت ضحكات الفرسان التي كانت تملأ المكان، وساد صمت وقور. التفت الجميع نحو كاردين، أنظارهم تنضح إجلالًا.
قال بصوت جهور:
“أيها الفرسان الشجعان، ارفعوا كؤوسكم! احتفالًا بولائكم وبشرف الفروسية، اليوم هو يوم الفرح والمرح، كلوا واشربوا وتمتّعوا حتى ترضى أرواحكم!”
“لتسكن القلعة الشمالية أبد الدهر!”
“المجد للدوق الأكبر هيلّيد!”
انطلقت هتافات الفرسان تعانق السماء، تهزّ أرجاء القاعة بحماسهم وولائهم لكاردين ومملكتهم.
كان من الواضح أن أرواحهم على أهبة الاستعداد للبذل في سبيل هذا القائد العظيم، وهذا ما منح خطابه تلك الهالة القوية الآسرة. شعرت، وأنا أراه، بثقل المنصب الذي يشغله.
ثم أدار كاردين رأسه وأشار إلى يوديث.
“هذا الاحتفال أقيم اليوم تكريمًا ليوديث، نائبة القائد السابقة. يوديث، تفضّلي بإعلان النخب.”
“حاضر، يا سيدي الدوق.”
نهضت يوديث فورًا، تستجيب للأمر بوقار يليق بمقامها.
في المناسبات الرسمية، لا تناديه بأخيها، بل تناديه بلقبه الرسمي… إنها امرأة دقيقة تفصل بين العام والخاص بحزم.
كانت ترتدي سروالًا جلديًا وقميصًا طويلًا وصدرية جلدية، وقد ناسبتها تلك الملابس الرجولية بجاذبية آسرة.
رفعت كأسها، ونظرت إلى الجنود بتفحّص واثق.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ملتوية تشبه ابتسامة مفترس أمام فريسته، وهو ما جعل بعض الجنود يشيحون بنظراتهم، وقد فاجأهم سحر حضورها القوي.
صرخت بقوة:
“أيها الجنود، أتعلمون ما هو القانون الوحيد في احتفال الفرسان؟”
فردّ الجنود بصوت واحد:
“نعلم يا سيدتي!”
“كرروه.”
“نحتسي حتى مطلع الفجر، لكن لا نفقد الوعي!”
ابتسمت يوديث برضا، ترفع كأسها عاليًا.
“لنخض الليلة معركتنا بالخمر لا بالسيوف! أظهروا شجاعة فرسان الشمال. لكن، احذروا، من يسكر فسوف يُدحرج داخل برميل بيرة!”
“علم وسننفّذ!”
هتف الجنود بحماسة، واحتسوا الكؤوس دفعة واحدة.
ويوديس أيضًا، ارتشفت نبيذها بشجاعة فاجأت الجميع.
تأمّلتها بشرود، وقلت في نفسي:
“يا لها من امرأة… مذهلة بحق.”
ربما كنت أتأمّلها بحب مفضوح، لأنها التفتت نحوي وحدّقت بي.
عبست حاجباها قليلاً، لكنها انحنت برأسها نحوي بأدب قبل أن تعود إلى مقعدها.
آه… لحسن الحظ لم تتجاهلني.
غريب، حين كنت ثعلبة كانت تتجاهلني كليًا، لكن الآن وقد عدت إنسانة، باتت تعيرني الانتباه؟ تصرّفها محيّر.
قال كاردين بصوت طفولي ملؤه الغيرة:
“شوشو، لماذا تنظرين إلى يوديث طوال الوقت بدلاً من النظر إليّ؟”
ضحكت بخفة، وأنا أردّ عليه ممازحة:
“أوه، هل تغار يا سيدي الدوق؟”
“غيرة؟”
أسند كاردين ذقنه إلى يده وحدّق بي بنظرة حادة.
آه، تلك النظرة مجددًا… سارعت بتجنّبها.
حين أكون في هيئة ثعلبة، ينظر إليّ بعين ملؤها الحنان. أما الآن، فهناك شوق عميق، رغبة قاتمة تسكن عينيه.
همس قائلًا وهو يمدّ يده ليحجب بصري:
“حين تنظرين إلى سواي، أرغب في حجب عينيكِ عن العالم.”
أزحت يده عن وجهي وأنا أحتجّ:
“هـ… هذه عادة سيئة! أنا حرّة في النظر إلى من أشاء!”
“لكن عيناكِ تبرقان حين تنظرين إلى يوديث ، وكأنكِ تفضّلينها عليّ.”
“أنا فقط… أريد أن أترك انطباعًا جيدًا لديها. إنها أخت رائعة وأنا معجبة بها.”
زمّ كاردين شفتيه وسخر:
“مجرد مهرجة عنيدة لا تنصاع لأحد.”
كتمت غيظي، وددت لو أصرخ: لا تُهِن مَن صارت قدوتي في الحياة!
لكنني تماسكت… فهي لا تزال لا تحبني، ولا يمكنني أن أكشف عن مشاعري قبل الأوان.
عليّ أن أبدأ بجمع المعلومات عنها أولًا. فذلك أقل ما يفعله المعجب الحقيقي.
نظرت إلى كاردين بنظرة جادة:
“سيدي الدوق، أود أن أسألك أمرًا بصدق، هل يمكنك أن تجيبني بصراحة؟”
“ما هو؟”
“هل تعتقد أن يوديث تكرهني؟”
“ولماذا تظنين ذلك؟”
“حين كنت ثعلبة، لم تنظر إليّ حتى مرة واحدة. ربما تعاني من حساسية من الفراء؟ أو تخشى الحيوانات؟”
وضع كاردين يده على فمه ليخفي ضحكته، ثم أدار وجهه.
“سيدي؟”
“اسألي يوديث بنفسكِ لاحقًا.”
“هاه؟”
أمالت رأسي باستغراب، غير فاهمة.
قال برقة، وهو يقرع كأسه بكأسي:
“الآن، شوشو، استمتعي بوليمة الفرسان.”
في تلك الليلة، تهادى ضوء النيران مع سطوع النجوم، وضجّت الساحة بضحكات الفرسان والجنود، بينما كانت الفرقة الموسيقية تعزف بإيقاع مبهج.
ظهر جنديان فجأة أمام الموقد الكبير، وشرعا يرقصان بحركات مضحكة بلا أي تناغم، مما أثار الضحك في كل مكان.
تدافع الجنود والفرسان واحدًا تلو الآخر، يرقصون بعفوية وفرح، يتشابكون بالأذرع، يدورون كالأطفال.
جلست أصفق وأضحك وأنا أراقب المشهد المليء بالحياة.
حتى قائد الفرسان، بيرك، جرّ مايلد قسرًا إلى ساحة الرقص، وأوين انضمّ بعد أن
سُحب هو الآخر.
حتى يوديث كانت ترقص بشراسة، ذراعها حول كتف أحد الجنود.
هممم، حركاتها تدلّ على أنها راقصة ماهرة حضرت العديد من الحفلات.
حين رآني رون، أحد الجنود الصغار، هتف:
“شوشو، تعالي لنرقص!”
“آه، لا بأس، مراقبتكم أفضل.”
أشار لي بيده متوسّلًا، لكنني لوّحت برفض، فقد كبرت على هذا النوع من الاحتفالات.
لكن، قبل أن أدرك ما يحدث، ألقت ظلال مريبة فوق رأسي.
نظرت لأجد بيرك وأوين يمدّان لي أيديهما بأدب، كما لو كنا في حفلة ملكية.
قال أوين مخاطبًا كاردين:
“يا سيدي الدوق، هل تأذن لنا باصطحاب الآنسة شوشو لبعض الوقت؟”
صرخت:
“مهلاً، ألا يهمكم رأيي أنا؟!”
لكن لم يعبأ أحد. وضعت آمالي في كاردين، واثقة أن غيرته ستحميني من الرقص.
إلا أن كاردين، رغم العبوس الخفيف بين حاجبيه، ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة.
يا إلهي، حتى هو ينوي التآمر عليّ؟
قال بصوت ناعم:
“دعوا شوشو تستمتع بفرحة الليلة. عاملُوها بلطف.”
صرخ بيرك بابتسامة عريضة:
“شكرًا لسماحك لنا، يا سيدي!”
مدّ أوين يده لي وقال بودّ:
“هيا، سيدتي، هل لي بهذا الشرف؟”
“في الواقع، أفضل المشاهدة فقط…”
لكنني وجدت نفسي، دون إرادتي، تُسحب إلى وسط ساحة الرقص برفقة بيرك وأوين.
ركض رون نحوي وابتسم، يمسك يدي قائلاً:
“شوشو، دعينا نرقص معًا.”
تنهدت:
“آه… حسنًا، استسلمت.”
لم أستطع أن أرفض طلبه اللطيف، فهو كأخٍ صغير لي.
تناولت يده، وبدأت الموسيقى تتسارع، فرحت أقفز وأدور معه في رقصة فلكلورية مرحة، لتتعالى هتافات الحضور:
“شوشو، مذهلة!”
“كم هي راقصة بارعة! ساحرة!”
طوّقني الفرسان، يصفّقون ويهتفون بسرور.
وبينما أتراقص بينهم، انتقلت من شريك إلى آخر – بيرك، أوين، مايلد، ورون.
قادني بيرك بحزم كأب عطوف، أما مايلد فكان خجولًا ومهذّبًا في رقصه، فيما أمسك أوين يدي بلطف وابتسم كزهرة ربيع.
في تلك اللحظة فقط… ألغيت كلامي السابق.
الرقص بين رجال بهذه الجاذبية؟ ممتع دائمًا، بلا شك.
ضحكات الجميع علت إلى عنان السماء، تصعد مع النجوم في ليلة لا تُنسى.
التعليقات لهذا الفصل " 70"