الفصل 55: وداعٌ لثعلبي الفضي
جففت لينا دموع عينيها بأطراف كمّها، ثم أمسكت بذراع فرانز بحنان.
“أخي… لنذهب الآن. أستاذي بانتظارنا في الخارج.”
“جئتم جميعًا من أجلي… لقد سببت لكم الكثير من المتاعب.”
حين أبدى فرانز شعورًا بالذنب، اتسعت عينا لينا في دهشة وهزت رأسها نفيًا بعنف.
“لا تقل ذلك! أنت القائد القادم، من الطبيعي أن نسعى لإنقاذك.”
“دعيني لوحدي قليلًا… لدي ما أقوله لشوشو.”
“أخي؟”
عضّت لينا شفتيها الجميلتين بقلق، وضمّت يديها بتوتر شديد.
“لا تقل لي أنك ستتركنا وترحل مع تلك الثعلبة؟”
“لينا… هذا قرار يخصني وحدي، ولا يحق لكِ التدخل فيه.”
في لحظة، تحوّل وجه فرانز الحنون إلى برود قاسٍ.
انحنت لينا سريعًا برأسها، وقد فاجأها تغيّره المفاجئ.
“آسفة… لم أقصد.”
نزلت من العربة وهي مطأطئة الرأس، وغابت عن الأنظار، وقد خيم الحزن على ملامحها.
هل كان من الصواب تركها ترحل هكذا؟ لقد بدت وكأنها تحمل لفرانز مشاعر كبيرة…
فرانز، ببروده هذا، كم أنت فظّ.
حلّ الصمت في العربة بعد رحيل لينا. كنت على وشك أن أبدأ الحديث، لكن فرانز كان يأخذ نفسًا عميقًا.
لحظتُ ارتجافًا طفيفًا في طرف ذقنه الحاد.
“أنا لا أستحقكِ… لم أستطع حمايتك كخطيب. كل هذا خطئي. لو لم يأتِ الدوق لإنقاذنا، لكنا الآن عبدين.”
كم هو غريب… رغم ملامحه الرجولية الصلبة، كنت أراه أمامي كفتى جريح.
فتى شاحب الوجه، يقف على حافة الانهيار، ينظر إلي بعينين مليئتين بالذنب والألم.
بدأت دموعه تنهمر بصمت، تتسلل من عينيه وتنحدر على ذقنه.
“فرانز…”
رغبتُ بشدة أن أمد يدي نحوه، أن أواسيه. لكن… إن فعلت، فماذا بعد؟
لن يمكننا المضيّ سويًا.
“أنتِ جميلة للغاية…”
أردت أن أمازحه، أن أسأله لماذا كذب عليّ من قبل… لكن الكلمات اختنقت في حلقي.
مدّ يده ليمسح شعري بلطف.
“شعركِ… كأنه ضوء القمر سقط على الأرض.”
ثم نظر إليّ نظرة طويلة، عميقة.
“هل تتذكرين؟ في ذلك اليوم، تحت غابة أشجار القضبان، اليوم الذي نجحتِ فيه بالتحول لأول مرة ، قطعت لكِ وعدًا.”
“…..”
لم أستطع مواجهته بنظري. ثم سمعت صوته يتردد في أذني، مغمورًا بالشجن.
“قلتُ إننا سنقيم حفل خطوبة رسمي إذا نجحتِ أنتِ أيضًا في التحوّل… وعدتكِ بإكليل من الزهور الجميلة.”
كم هو مؤلم… رغم أنني لا أذكر شيئًا، قلبي يعتصر ألمًا.
هل هذا الألم من ذكريات لرويل المتبقية؟ أم هو شعوري الحقيقي؟
تماسكتُ، كي لا تنهمر دموعي.
ثم ابتسم فرانز ابتسامة ذابلة، كأوراق الخريف المتكسّرة.
“أعتذر… لم أستطع الوفاء بوعدي، يا رويل.”
أغمض عينيه، تنفس بهدوء، ثم فتحها مجددًا.
لكن لم يكن ذلك وجه الفتى الضعيف الذي رأيته قبل لحظات، بل وجه القائد، سيد عشيرة ولفيس، وقد اتخذ قراره.
“أخبري دوق كاردن… زعيم ولفيس لا يُخلف وعده.”
“وعد؟ أي وعد هذا؟”
لم يجبني. فقط فتح باب العربة وقفز برشاقة.
وفي لحظة، تحوّل إلى ثعلب فضيّ مهيب.
“فرانز، انتظر! أحقًا سترحل الآن؟”
“كوني بخير، شوشو.”
مددت يدي لا إراديًا نحوه.
ريش ذيله الناعم مرّ فوق كفّي بلطف… كان دافئًا. دافئًا لدرجة أن الدموع انسابت بلا إرادة.
“انتظرني لحظة، فرانز!”
صرخت باسمه، وأسرعت للخروج من العربة، لكنني تعثرت بقدميّ… كان الحذاء كبيرًا جدًا.
في اللحظة التي كدت أسقط فيها، أمسكني كاردن من خصري.
“انتبهي لخطواتكِ.”
همس في أذني، ثم أنزلني برفق على الأرض.
أومأت له برأسي بخفة، ثم ركضت خارج العربة.
كان أبناء ولفيس قد تجمعوا بالفعل. في المقدمة، وقفت لينا على شكلها الثعلبي الرمادي، وبجانبها الثعلب الأحدب بعين واحدة.
حين اقترب فرانز، انحنى الجميع برؤوسهم باحترام وارتياح.
أومأ الثعلب الأحدب برأسه بصرامة، فردّ عليه فرانز بانحناءة احترام.
“لقد عدت، فرانز.”
“أعتذر عن القلق الذي سببته. وسأؤدي مهامي كزعيم للعشيرة.”
نظرت لينا إليه بعينين دامعتين، وقد استعادت شكلها الثعلبي.
تأمل فرانز وجوه أفراد عشيرته، ثم استدار ناحيتي.
تلاقت أعيننا في الفراغ. عيناه الفضيتان كانت كبحيرة ساكنة، نقية.
لم ننبس بكلمة، لكننا فهمنا.
هذا هو الوداع… وداع لا رجعة فيه.
كتمت دموعي. أردت توديعه بابتسامة، لأنها الأخيرة.
بصوت مختنق، قلت:
“فرانز… اعتنِ بنفسك.”
لم أستطع قول “وداعًا”… لو قلتها، لن أراه مجددًا أبدًا.
قطب جبينه، ثم قال:
“من يقلق على من؟ أيتها المبتدئة… احذري من أن تبتلعكِ قوى السحر.”
كانت نبرته الساخرة، المتعالية، كعادته… كصديق.
سأشتاق لصوته هذا كثيرًا.
في تلك اللحظة، أدركت كم تعلقت به في وقت قصير. ربما لأننا من نفس الجنس، أو ربما… أكثر من ذلك.
مسحت دموعي، وابتسمت ابتسامة كبيرة.
“أنا أحب الطعام، تذكر؟ لن يحدث شيء كهذا.”
“كائن صغير، لكنكِ تتفاخرين كثيرًا.”
ثم التفت فرانز إلى كاردن، الذي كان يقف خلفي، وتحولت نظرته إلى جدية تامة.
بكل وقار، انحنى أمامه.
فرانز، المتغطرس دومًا، ينحني
للدوق كاردن؟ منظر لم أره من قبل.
“دوق كاردن… أتوسل إليك ألا تنسى وعدك. مهما حدث، احمِ شوشو.”
لم يكن يتحدث كصديق مشاكس، بل كزعيم لعشيرته.
“بصفتي قائد الشمال، أعدك بذلك، زعيم ولفيس القادم.”
أجاب كاردن بجديّة، وشدد قبضته على كتفي برفق.
ثم استدار فرانز، واندفع راكضًا، يتبعه عشرات الثعالب.
موجة فضيّة عظيمة، تجتاح الأفق كالنور.
وقفت أحدق… مذهولة، دامعة.
حتى غاب ثعلبي الفضي عن عيني، واختفى تمامًا.
✦✦✦
في قصر مزاد العبيد، وُجد ممر سري خفي. كان هذا الممر الموجود في الطابق السفلي يؤدي إلى غابة خارجية، وقد أُنشئ ليكون طريق هروب في حالات الطوارئ.
ركض عدد من الفرسان عبر الممر الطويل بسرعة ولهفة.
“اصبر قليلًا فقط! سنخرج في أي لحظة!”
كان أحد الفرسان يهرول حاملاً “القناع الأسود” على ظهره، فيما اندفعوا عبر النفق المظلم تحت الأرض بخطى مسرعة، وظلالهم تتراقص باضطراب على الجدران الحجرية.
“أه…!”
صدر أنين ثقيل من القناع الأسود، الذي بدا أن جراحه أعمق مما كان متوقعًا، بعد أن أصابه سيف الدوق.
كان عنقه ملفوفًا بضماد غارقٍ بالدماء التي تسربت من بين الطبقات. راح يضغط على أسنانه غيظًا، عاجزًا عن احتواء الإذلال والغضب المتأجج بداخله.
“لمَ تعقّبنا الدوق؟ كيف استطاع أن يشمّ أثرنا؟”
“يبدو أنه نقش على ذلك المستذئب تعويذة تتبع.”
أجاب الفارس الذي كان يحمله، فابتلع القناع الأسود سعالًا داميًا، قبل أن يسأل بصوت مبحوح متهدج:
“تلك الثعلبة… كيف أمكنها الحركة رغم تناولها العقار؟”
“سمعت إشاعة بأن سلالة الـ’وولفِس’ قد تُنجب أحيانًا فردًا متحوّلاً ذا قوى سحرية عظيمة… على الأرجح، كانت هي.”
“ذلك الثعلب إذًا… كما توقعت.”
في نهاية الممر المعتم، بدأ نور خافت يلوح في الأفق.
“لقد وصلنا إلى المخرج!”
فتحوا باب الممر بحذر شديد، ثم تفقدوا المكان للتأكد من أن أحدًا لا يتبعهم، قبل أن يخرجوا واحدًا تلو الآخر.
بعض الفرسان أسرعوا لجلب العربات والخيول التي كانت مخفية في الغابة القريبة.
لكن ما إن استقر الوضع، حتى بدأ القناع الأسود في السعال بعنف، يتناثر الدم من فمه خلف القناع.
“سيدي! هل أنت بخير؟!”
حاول أحد الفرسان دعمه، لكن القناع الأسود دفعه بعنف.
“تراجع! لا تلمسني!”
ترنّح فاقدًا لتوازنه واقترب من أحد الخيول، متشبثًا بوشاح السرج المزخرف بشعار نبيلٍ يُظهر رمحين متقاطعين.
تمسّك بالقماش بكل ما بقي فيه من قوة كي لا يسقط، في حين ظل الحصان واقفًا دون أن يفزع.
دوِيٌّ خافتٌ… طقطقة عظام.
بدأ جسده يرتجف، ثم راح يتلوى، تصدر منه أصوات عظام تتكسر وتنمو على نحو مشوّه.
“هيييييع!”
شعر الحصان بشيء غير طبيعي، فاضطرب بشدة. تمزق طرف من غطاء السرج الذي أمسك به القناع الأسود.
أسرع أحد الفرسان للإمساك بلجام الحصان وقيادته بعيدًا، فيما سارع آخرون ببسط عباءاتهم لإخفاء ما يحدث، كأنهم معتادون على ذلك المشهد.
“أآآه… غغغغ…”
على الرغم من أن الرياح لم تهب، فإن عباءات الفرسان راحت ترفرف بعنف غير طبيعي.
ومن بين أطرافها المتطايرة، ظهر ذئب رمادي داكن، يزفر أنفاسه الثقيلة، ينضح بهيبة مرعبة.
نزف دمٌ قرمزي من عنق الذئب، بينما تلألأت عيناه الذهبيتان الرماديتان ببريق من الجشع والامتلاك.
ثم زمجر بصوت أجش كأنما يُقسم:
“حتى وإن اضطررت لاتباعها إلى قاع الجحيم… سأظفر بتلك الثعلبة ذات القوى العظمى. إنها مفتاح مصيري، وركن أساسي في مشروعنا العظيم.”
التعليقات لهذا الفصل " 55"