53: هوية الفارس الأسود
تنفستُ بصعوبة وأنا بين ذراعي كاردين.
ارتجف جسدي بالكامل، ورغم محاولتي التماسك، ارتعدت شفتاي وسالت دموعي على وجنتي.
لا، لن أعتاد على هذا الجحيم مهما حدث.
مدّ كاردين يده الكبيرة وربّت بلطف على رأسي.
وحين حاولت كتم بكائي بصوت متقطع، همس قرب أذني بنبرة دافئة، وهو ينفث أنفاسه بهدوء:
“شش… لا بأس. أنا هنا.”
هدأ روعي مع لمسة يده التي كانت تمسد ظهري برقة.
لكن فجأة، جسد الفارس الذي ظننا أنه مات، بدأ يتحرك.
“م… ما هذا؟!”
“تراجعوا!”
جسد الفارس الذي حسبناه ميتًا بدأ يتقلص بسرعة، وفي لمح البصر، تحول من هيئة بشرية إلى ذئب ضخم مغطى بفراء رمادي باهت.
“مستحيل… إنه شبه بشري؟!”
شهقتُ من هول المفاجأة.
لو كان شبه بشري، لكان له رائحة نفاذة تميّزهم دائمًا، ولم نكن لنخطئه.
لكن هذا الفارس لم يُصدر أي رائحة… بدا إنسانًا تمامًا!
أن يتمكن أحدهم من إخفاء رائحة شبه البشر والتصرف بهذا الإتقان كالبشر…
ما الذي دفع هذا الذئب للولاء المطلق؟ لأي غاية يتفانى بهذه الطريقة؟
شدّت قبضتي وأنا أحدّق بجسده المتجمد، البارد.
الآن فهمت لماذا ذاك الذي يرتدي القناع الأسود يجمع شبه البشر. لم يكن الهدف مجرد استعبادهم.
بل يملك ساحرًا خاصًا، ويصنع عقاقير لتحويلهم قسرًا إلى بشر، كدمى بلا أرواح.
هل يمكن أن القناع الأسود يحوّل المزيد من شبه البشر إلى دُمى يحرّكها كما يشاء؟
“فارس حراسة من شبه البشر؟! هل هذا ممكن؟!”
قال بيرك بدهشة وهو ينحني بجانب الذئب يتفحصه بعناية.
عندها سأله كاردين:
“بيرك، هل سبق واستخدم أحد النبلاء شبه بشر كفرسان تابعين؟”
“سمعتُ أن بعض النبلاء يدرّبونهم سرًّا ليكونوا مرتزقة.”
“وهل هذا ممكن فعلاً؟”
“لا أفهم كيف… لطالما عُرف عنهم الطبع الوحشي، يصعب ترويضهم أو كسب ولائهم. لكن هذا؟ هذا غير متوقّع.”
“تحقق من هويته.”
“أمرك سيدي الدوق.”
اقترب كاردين مني، ووضع يده على كتفي بلطف.
“شوشو… هل أنت بخير؟”
“آه… نعم، أنا بخير الآن.”
“سأطلب تجهيز ملابس لكِ.”
عندها فقط أدركت أنني مغطاة بعباءة فقط، ساقاي مكشوفتان، حافية القدمين.
احمرّ وجهي من الخجل، لكن كاردين طمأنني بصوته الهادئ:
“سأتولى أمر المكان. أنتِ ارتاحي في العربة.”
“فرانز … هل سيكون بخير؟”
كان فرانز مستلقيًا على الأرض، وكأنه نائم.
رون كان بجانبه يبذل جهده في علاج سحري، لكن بدا واضحًا أن الأمر يفوق قدرته.
“أريد المساعدة.”
“اهتمي بنفسك أولاً. دعي الأمر لرون.”
وقف كاردين في طريقي ليمنعني.
في هذه الأثناء، عاد بعض الجنود بقمصان وبناطيل قديمة يبدو أنها من ملابس الخدم.
ارتديت البنطال الواسع بعد أن طويت أطرافه، ثم القميص، ثم عباءتي فوقهما.
الحذاء كان أكبر من مقاسي، لكنني ربطته بإحكام.
ثم نظّفت وجهي بقطعة قماش مبلّلة من المخزن.
حين خرجت، كان الوضع تحت السيطرة.
كاردين ومستشاروه جلسوا يتناقشون بوجوه متجهمة،
بينما يُقيّد ما تبقى من الخدم ويُقادون بعيدًا.
بقيت أبحث عن فرانتز دون أن أجده. أين نُقل؟
اقتربت من الحلقة الدائرة ثم توقفت، كان الاجتماع حادًا ومتوترًا، ولم أشأ المقاطعة.
انتظرت بصبر بينما كان كاردين يستجوب بيرك:
“هل عثرتم على سجلات المزاد؟”
“عذرًا، دهمنا المكتب بالكامل ولم نعثر على السجلات. وجدنا حارس المكتب مقتولًا.”
عبس كاردين بقوة، وعروق جبهته انتفضت غضبًا.
“لقد أُخفيت السجلات عمداً…”
عندها تحدث أوين بوجه جاد:
“اختفاء السجلات أمر مقلق. لا بد أنها تحتوي أسماء الزبائن الذين طلبوا شبه البشر. لو وقعت في يد القناع الأسود، فستُستخدم للابتزاز أو ما هو أسوأ.”
“ماذا تعني بأسوأ؟”
سأله بيرك، وعيناه مضطربتان.
تغيرت نظرات أوين اللطيفة إلى حادة كالنصل.
أدهشني… لم أظن أنه قادر على هذا النوع من البرود.
“تجارة شبه البشر محرّمة في مملكة أدن. لو تورّط نبلاء في مزاد كهذا، ستحدث فضيحة تهز المملكة. وقد يستخدم القناع الأسود السجلات كأداة ابتزاز.”
صفر بيرك بأسنانه وقال:
“يجب أن نكشف هوية هذا القناع الأسود بأي ثمن.”
ظل كاردين صامتًا، غارقًا في التفكير.
وحين هدأت المناقشة، تقدمت خطوة للأمام.
“سيدي الدوق… شكرًا لأنك أتيت لإنقاذي.”
وما إن أنهيت كلمتي، حتى ركض رون نحوي واحتضنني بقوة.
عينا رون الكبيرتان امتلأتا بالدموع.
“شوشو، لحسن الحظ أنك بخير! سمعت أنهم حولوك قسرًا لبشر، هل تؤلمين؟”
“أنا قوية، تذكر؟ صلبة مثل الصخر.”
مسحتُ على رأس رون الأحمر المجعد بحنان.
“آسفة لأنني أقلقتك.”
شعرت بالطمأنينة برؤية فرسان قلعة الشمال.
هؤلاء لا يهمهم إن كنت ثعلبة أم بشرية، كانوا دائمًا كما هم.
اقترب كاردين أخيرًا وأعلن:
“سنعود إلى قلعة الشمال. اجمعوا الأسرى وتحركوا.”
بدأ بيرك بتنظيم الجنود لسَوق من تبقّى من الخدم.
ثم مدّ كاردين يده إليّ بهدوء، وكأنه يرافق سيدة نبيلة.
منذ أن كنت ثعلبة صغيرة، كان يرفعني ويحملني هكذا…
لكن الآن شعرت بشيء
غريب وخجل داخلي.
“لا داعي. أستطيع السير وحدي.”
خرجت كلماتي متوترة على غير العادة، فابتسم كاردين كأنما يرى مشاغبة صغيرة.
“هربتِ بكل ثقة، وانتهى بك الأمر مخطوفة.”
“ذاك كان…!”
نظرت إليه بذهول.
حين التقت عيني بعينيه كإنسانة، شعرت بشيء غريب. مألوف، لكنه يربك قلبي.
ثم امتدت يده الكبيرة نحو خدي.
ارتجف كتفي بلا وعي، لم أعرف كيف أتصرف.
حين كنت ثعلبة، لم يكن الأمر غريبًا، لكن الآن…
أزاح خصلات شعري عن وجهي بلطف، وأعادها خلف أذني.
آه… كان فقط ينظف شعري.
شعرت بالارتياح للحظة، لكن حين مسّ طرف أذني بلطف، احمرّ وجهي بشدة.
“لن أتركك وحدكِ مجددًا، شوبيليا.”
كانت يده على خدي حارّة كأنها نار.
هل هو دفء يده، أم أن حرارة وجهي انتقلت إليه؟
سقط بيننا صمت ثقيل، ونظراته كانت عميقة ومشتعلة.
خرجنا من قصر المزاد، وأنا مستندة إلى ذراعه القوية.
في الخارج، كانت العربات والجنود بانتظارنا.
“أين فرانتز؟ أريد الاطمئنان عليه.”
“من هنا.”
قادني كاردين إلى إحدى العربات.
فتح الباب، وكان فرانتز مستلقيًا بسلام، وجهه شاحب.
وصل رون حاملًا حقيبته الثقيلة، اقترب منا مسرعًا.
“رون، ما وضعه؟ هل سيفيق؟”
حكّ رون رأسه وقال بحرج:
“سنحتاج إلى وقت لتخليص جسده من آثار الدواء. علينا إعطاؤه ترياقًا في القلعة.”
“أنا أيضًا حُقنت بذلك الدواء، لكنني تعافيت سريعًا. لماذا فرانتز لا يستفيق؟ هذا الدواء يحوّل شبه البشر إلى دمى بلا روح.”
في تلك اللحظة، شممت رائحة مألوفة.
رائحة ثعالب شبه بشر.
بدأ الجنود يتلفتون ويتهمسون.
وفجأة، ظهرت مجموعة من الثعالب الفضية أمام العربات.
في مقدمتهم، ثعلب بعين واحدة.
“قبيلة وولفِس؟ ما الذي جاء بهم إلى هنا؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 53"