الحلقة 52 – إلى الجحيم!
قلدت ابتسامة القناع الأسود، ورفعت طرفي شفتي عنوة.
“اذهب إلى الجحيم.”
أرجعت رأسي إلى الخلف بقوة، ثم سددت ضربة بكامل قوتي إلى جبين ذلك الوغد برأسي.
طاخ!
تجعد وجهه فجأة بعد ضربة الرأس المباغتة.
“آخ!”
يبدو أن الألم كان شديدًا، إذ ترنح بينما احمرت جبهته المستقيمة بشكل ملحوظ.
لم أكن أعلم أن جمجمة الثعلب المتحول على هيئة إنسان بهذه الصلابة.
كنت أتوقع أن أتألم أنا أيضًا من النطحة، لكن الألم كان محتملًا.
“اركض، فرانز!”
أمسكت بذراع فرانز سريعًا وبدأت أركض. لحسن الحظ، رغم ترنحه، تبعني جيدًا.
كانت قدماي تؤلمانني من الركض حافية، لكن لم يكن هناك وقت للتردد. كان علينا الفرار من هذا الجحيم أولًا.
“أمسكوهما، حالًا!”
صرخ القناع الأسود من خلفي، غاضبًا. إن تم الإمساك بنا الآن، فكل شيء سينتهي.
سحبت فرانز بقوة واندفعت تجاه بوابة الخروج.
لحسن الحظ، لم يكن هناك حراس على البوابة. لكن من كل اتجاه، كان فرسان القناع الأسود يركضون نحونا.
لا! إن استمر الأمر هكذا، سيمسكون بنا حقًا!
كـوووم!
انفجرت البوابة الفاخرة أمامنا بشكل مفاجئ!
اندفعت إلى الأرض، ساجدة، وغطيت فرانز بكتفي من شدة الانفجار.
كان الصوت مدويًا لدرجة أن أذني طُبِلت.
تناثر حطام الباب في كل مكان، وانتشر الغبار الرمادي بكثافة.
من؟ لا يمكن أن يكون…
دخل شخص من خلال الحطام، يخطو فوق أنقاض الباب.
أضاءت نيران المشاعل وجهه بوميض متراقص.
عباءة سوداء، وزي كحلي داكن، وشعر أسود، وعينان زرقاوان كالكوبالت تلمعان بغضب بارد.
في تلك اللحظة، حاول أحد فرسان القناع الأسود الإمساك بي.
“ك… كاردين!”
صرخت باسمه كما يصرخ طفل باحث عن أمه.
فوجئ كاردين حين رآني في هيئة بشرية، وصرخ بدوره.
“شوشو! انتبهي!”
استل سيفه على الفور، واندفع نحو الفرسان الذين كانوا يطاردونني.
ومضت عيناه الزرقاوان بغضب يكاد يمزق خصومه، وسرعان ما مزق سيفه كتف أحد فرسان القناع الأسود.
“آه!”
صرخ الفارس بألم، وسرعان ما سحبني كاردين إلى حضنه.
لفّ ذراعه القوية حول كتفي، وبمجرد أن شممت رائحته المألوفة، انفجرت دموعي.
كنت مذهولة وسعيدة للغاية حتى إن الكلمات لم تخرج من فمي.
وفيما لا يزال يحتضنني، التقط كاردين سيفًا سقط من يد الفارس المطروح أرضًا.
رمى السيف بقوة نحو منصة المزاد، مخترقًا الهواء بصوت حاد.
ششووووك!
رأيت النصل يمرّ بمحاذاة عنق القناع الأسود بدقة مذهلة.
“تبًا!”
أدار القناع رأسه في اللحظة الأخيرة متجنبًا الإصابة المميتة، لكن الدم تدفق بغزارة من عنقه.
رفع يده إلى عنقه الملطخ بالدماء، وحدق في كاردين بعينين مشبعتين بالعداء والوحشية.
“احموا السيد!”
سارع أتباع القناع الأسود إلى سحبه نحو الباب الخلفي. فصرخ كاردين بأمر صارم:
“أمسكوا بهم جميعًا! لا تتركوا أحدًا!”
اندفع أوين وقائد الفرسان بيرك في المقدمة، يلاحقون الهاربين.
في تلك اللحظة، ألقى أحد فرسان القناع الأسود كيسًا أسود أمامه، وكان وجهه مغطى بقناع.
فشششش!
انفجر الكيس الأسود في الهواء، ناشرًا غبارًا أسود حالكًا في كل مكان.
“سُم… إنه غبار سام!”
“ابتعدوا حالًا!”
انتشر الغبار السام كالضباب، فلم يُتح لأحد وقتًا للهروب، وغمر حراس الحدود فجأة.
“لا تتنفسوا!”
“اغلقوا أنوفكم!”
غطى الجنود والفرسان أنوفهم وأفواههم بسرعة، لكن ماذا إن كان هذا السم ضارًا بالجلد أيضًا؟
كان من الممكن أن يُصاب الكثيرون بجروح خطيرة. لم أستطع الوقوف مكتوفة الأيدي.
تحررت من حضن كاردين واندفعت للأمام.
“شوشو، توقفي، إنه خطر!”
حاول كاردين الإمساك بي، لكنني سبقته بخطوة.
مددت ذراعي بكل ما فيّ من رجاء.
كنت أستطيع استدعاء العواصف الثلجية بذيل الثعلب سابقًا، لكن الآن… وأنا بشر؟ لم أكن واثقة إن كنت لا أزال أملك تلك القوة.
وفي اللحظة التي مددت فيها يدي، انطلقت عاصفة ثلجية هائلة من راحتي، لتغمر الغبار السام.
تجمد الغبار السام فورًا وسقط إلى الأرض متحطمًا كبلورات ثلجية.
“نحن… نجونا!”
“شوشو، لقد أنقذتينا!”
صرخ جنود حرس الحدود بفرح وهم لا يزالون يغطون أنوفهم وأفواههم.
استعدت أنفاسي، وجمعت شعري المتناثر، بينما كان بخار أنفاسي الأبيض يتصاعد في الهواء.
ظننت أنني فقدت قوتي بسبب العقار الذي حولني لبشر، لكن يبدو أنني لم أفقدها بالكامل. الحمد لله.
كان البرد يتجمع على أطراف أصابعي كالصقيع. قبضت عليها بشدة.
أحسست بالطمأنينة… لكن أيضًا بالخوف.
قوتي بهذا الحجم؟ لقد تغلبت حتى على العقار الذي يحول الناس لدمى بلا روح، مثل فرانز.
من أكون أنا بحق؟
ثم لُفّت كتفي برداء دافئ. كانت رائحة مألوفة… إنه كاردين.
“ماذا لو أنك استنشقتِ السم؟ لماذا عرضتِ نفسك للخطر؟”
كان صوته معاتبًا، لكن عينيه كانتا ترتجفان من الارتياح والفرح.
“لأني فقط… أردت إنقاذ الناس. كانوا على وشك الموت.”
تنهد كاردين بعمق، واحتضن كتفي مرة أخرى.
عندها فقط أدركت.
أن ذراعيه القويتين
ترتجفان بخفة. وكان قلبه ينبض بسرعة من الخوف.
“آه… شكرًا لأنكش بخير، شوشو.”
كان صوته خشنًا، مفعمًا بالحزن، وعيناه تضطربان.
لقد كان خائفًا من ألا يجدني أبدًا، من أن يخسرني.
مددت ذراعي، واحتضنت ظهره بقوة.
“سيدي كاردين…”
وبينما كنت أتنفس في حضنه الواسع والدافئ، غمرتني الأحزان والخوف الذي كنت أكتمه، وانفجرت بالبكاء كطفلة صغيرة.
“لماذا أتيت متأخرًا؟ لقد كنت خائفة حتى الموت…”
“كل شيء على ما يرام الآن، أنا هنا يا شوشو… آسف لتأخري.”
ظل كاردين يكرر اعتذاره وهو يحتضنني.
شعرت بالطمأنينة، لكن الوقت لا يسمح بالبكاء.
ماذا عن فرانز؟ وماذا عن القناع الأسود الهارب؟
رفعت رأسي، ووجهي مبلل بالدموع والمخاط، لأتفقد الوضع.
كان فرسان الشمال يمسكون بأتباع منظمة تجار العبيد، يربطونهم بالحبال.
وفي زاوية أخرى، كان فرانز مستلقيًا، بينما يستخدم “رون” سحر العلاج عليه.
لما لاحظ رون نظراتي، أومأ مطمئنًا. في مثل هذه اللحظات، يكون الفتى الساحر رون حقًا سندًا لا يعوّض.
بفضل وجود رون، هدأ قلقي على فرانز، وبدأت أبحث عن القناع الأسود.
يا له من جبان… أن يهرب بعدما نشر الغبار السام!
“هل تعتقد أننا سنتمكن من الإمساك بالقناع الأسود؟”
“أتباعي يلاحقونه الآن. سنمسكه، لا تقلقي.”
مسح كاردين دموعي بلطف وهو يطمئنني.
عضضت على شفتي السفلى.
إن كان قد هرب، فلن يكون من السهل الإمساك به. نحن لا نعرف وجهه تحت القناع، كيف سنعثر عليه؟
“أعتقد أنه من النبلاء الكبار. كان من كبار الضيوف في مزاد المستذئبين. بل هو من تخلّص من التاجر نفسه.”
“أهو من حولك قسرًا إلى بشر؟”
ما زال جسدي يرتجف من فكرة أنني أُجبرت على التحول بواسطة العقار.
“نعم. وفرانز أيضًا… لقد جعله يتحول بالقوة.”
“كان يجب أن أقتله بيدي. تأخرت خطوة واحدة.”
زمّ كاردين شفتيه، وضمّ كتفي، فوضعت يدي بهدوء فوق ظهر كفه.
“لكنك لم تتأخر. لقد أتيت… وأنقذتني.”
ارتعشت عينا كاردين وهو يلتقي بنظراتي. مد يده ليغلق عباءتي بإحكام.
“لو أصابكِ شيء… كنت سأفقد كل شيء.”
لكني لم أتمكن من سماع بقية كلامه، إذ وصل القائد بيرك وهو يجر أحد فرسان القناع الأسود من عنقه.
كان ذلك الفارس مصابًا في كتفه من ضربة كاردين، ينزف ويتنفس بصعوبة.
“دوقي، بحثنا في هوية هذا الرجل، ولم نجد أي شارة نبيلة على زيه. يبدو أنه أخفى هويته بالكامل عند حضوره المزاد.”
“استجوبوه حتى يفضح هوية القناع الأسود.”
“أمركم.”
لكن قبل أن يأخذوه، أخرج الفارس فجأة حبة سوداء من جيبه وابتلعها.
“تباً! متى فعل ذلك؟!”
حاول بيرك ضرب عنقه ليجبره على التقيؤ، لكن الأوان كان قد فات.
“لا… لا!”
انهار الفارس على الأرض، هامدًا، بينما صرخت بلا جدوى في الفراغ.
أصيب الجميع بالذهول من موته.
أي ولاء أعمى هذا، يجعله لا يخاف حتى الموت؟
أدار كاردين ظهري، وغطى رأسي بكفه.
“لا تنظري، شوشو…”
* * * *
رابط التيليجرام : https://t.me/+8usdJW3chYFjNWE0
التعليقات لهذا الفصل " 52"