الفصل 51 -أنتِ لي.
بكل ما أوتيت من قوة، حاولت أن أتحرر وأنا أحدّق باتجاه فرانز.
لكنه ما زال واقفًا هناك، كدميةٍ بلا روح، تحدّق في الفراغ.
“فرانز! افتح عينيك! أرجوك!”
صرخت وتوسلت مرارًا، لكنّ صوتي لم يصل إليه.
هل إن تناولت ذلك العقار الغريب، سيتحوّل حالي إلى ما آل إليه؟
لا، لا أريد ذلك… أشعر وكأنني عالقة في كابوس مروّع ومخيف.
“كوني مطيعة وتناوليه… واصبحي بشرية، هيه هيه هيه.”
“لا! أرجوك! أووووه!”
أمسك الساحر بفمي وأجبرني على ابتلاع محتوى الزجاجة البنفسجية.
رغبت في الرفض، لكنني شعرت بالسائل وهو ينزلق عبر حلقي.
وبمجرد أن ابتلعته، تدفّقت دمائي كالإعصار في عروقي.
وسرعان ما انغمرت أفكاري بالبياض الخالص، بينما اندفعت طاقةٌ هائلة داخل جسدي، تبعتها ومضة ضوءٍ ساطعة.
“آآآااه!”
بدأ جسدي يكبر فجأة، واختفى فرائي ليظهر جلدي الأبيض الناصع.
تعثرت إلى الخلف وامسكت بكتف فرانز لا شعوريًا.
سحبت عباءته من فوق كتفه ولففت بها جسدي، مغطيةً ساقيّ بالكامل.
أصبحت بشرًا بفعل السحر الصناعي، لا بقوة كاردين…
لقد كان مختلفًا عن ذلك الوقت…
عندما تحولت إلى بشر بفضل طاقة كاردين، لم أشعر بأي ألم، وكان كل شيء طبيعيًا.
أما الآن، فشعرت وكأن رأسي سينفجر من الألم،
وأطرافي بالكاد أستطيع تحريكها، وكأنها ليست لي.
“كيف… كيف يمكن لهذا أن يحدث؟”
جلست على الأرض وكأنني انهرت، ممسكةً بالعباءة بقوة.
وشعري الفضي المبعثر كان يلمع تحت ضوء الثريا، بطريقة حزينة وموحشة.
“مذهل.”
انطلقت همسة إعجاب منخفضة من فوق رأسي.
جثم رجلٌ مقنّع بالقناع الأسود على ركبةٍ واحدة أمامي، ثم أمسك بشعري الفضي.
انسابت خصلات شعري بين أصابعه كما تنساب حبات الرمل.
“لم أرَ في حياتي حيواناً بهذه الروعة.”
رفع رأسي بإصبعه تحت ذقني.
“آه…!”
تمعّن فيّ بعينيه الذهبية الرمادية، وكانت نظرته كأنّه يقيم سلعة… تلك النظرة أوقدت في داخلي نارًا من الغضب الحارق.
أنفاسه على وجنتي جعلتني أشعر وكأنّ حشرات تزحف على جلدي.
أردت أن أزيح يده فورًا، أن أصرخ، أن ألكمه،
لكن حتى إصبعي الصغير لم يكن يستجيب.
“أنتِ كفراشةٍ فضية علقت في شبكة عنكبوت، ترتجفين بجمالٍ آسر. أريد أن أحتفظ بكِ لنفسي وحدي.”
زاد بريق عينيه الذهبية الرمادية عمقًا، وبإبهامه، راح يداعب شفتي برقة مقززة.
لو أنني أستطيع فقط قطع إصبعه الآن…
الغيظ يعصرني من هذا العجز المهين.
“هذه العبدة… لي أنا.”
ابتسم المقنّع الأسود ابتسامة رضا وهو ينطقها.
كادت معدتي تنقلب من الاشمئزاز، لكن قلبي كان يخفق بجنون حتى كدت أختنق.
وحين أعلنها، ارتفعت أصوات الحاضرين من خلفه بتنهيدات خيبة أمل.
لم يعترض أحد… لا أحد تجرأ حتى على الاحتجاج.
يبدو أن مكانته أو سلطته لا يمكن المساس بها.
الجميع كان يخافه… أو يراقب ردّ فعله بحذر.
من يكون هذا؟ لا أذكر وجوده في القصة الأصلية…
عاد إلى مقعده في الصف الأمامي، جالسًا بكبرياء.
وراءه وقف فارسان بعباءات سوداء، يحرسانه.
لكنّه لم يأتِ وحده…
لقد أحكم رجاله الآخرون السيطرة على جميع أنحاء القاعة.
هل سأتمكن من الفرار مع فرانز بسلام من بين هؤلاء؟
شعرت وكأن حجرًا ثقيلًا جثم على صدري.
أما تاجر العبيد، فحنى رأسه بابتسامة خبيثة نحو الجمهور.
“نعتذر أشد الاعتذار، لكن ثنائي الثعالب المعروض اليوم قد تم بيعه لهذا الضيف الكريم. نرجو زيارتكم مجددًا.”
تأفف النبلاء وغادروا القاعة بتنهيدات استياء.
وباتت القاعة خاليةً إلا من المقنّع الأسود ورجاله.
انحنى تاجر العبيد له بتذلل، محاولًا إرضاءه.
“نظرك الثاقب لا يُضاهى. نهنئكم على الصفقة.”
ثم قال وهو يتملّق:
“إن رغبت، يمكننا تزويد العبدة بأساور أو أطواق أو حتى وشم عبودية.
نظرًا لطبيعته الوحشية، نوصي بذلك بشدة.”
ارتعد قلبي.
هل… سيضعون علينا وشم عبودية؟!
وحوش! أنتم لا تستحقون أن تُدعوا بشرًا!
“فكرة لا بأس بها.”
رفع المقنّع حاجبه باهتمام.
وأخذ يمرر يده المقززة على عنقي.
رغبت في عضه، في طرده، لكن تأثير العقار جعل الوقوف بحد ذاته معجزة.
نظرت إلى فرانز… ما زال غائبًا عن الوعي.
“وماذا تفعل الأطواق؟”
“نعم، الأطواق مزودة بسحر البرق الخفيف، تجعل العبد لا يرفض أوامر سيده.
يمكن للسيد تشديدها أو تخفيفها كما يشاء.
لكن إن كانت تُشوّه المنظر، فنوصي بالوشم السحري.”
“وشم؟”
“نعم، الوشم السحري يسمح لك بالتحكم في العبد بكلمةٍ واحدة. وبالنسبة للوحوش الأقوياء، فهم قد يضحون بحياتهم لحماية سيدهم.”
“أعجبتني الفكرة. ومن سينفّذ الوشم؟”
“آه، نعم، ساحرنا الخاص سيتولى الأمر. لن يستغرق ساعةً حتى يُنهيه.”
الساحر العجوز الذي كان صامتًا خلف التاجر انحنى مطأطئًا رأسه.
ثم همس التاجر بحذر:
“أعتذر، لكن… كم كنت تفكر بدفعه مقابل العبيد؟
أنت ضيف مميز، ويمكننا تخفيض السعر كثيرًا لأجلك.”
حدّق به المقنّع بنظرة ازدراء.
ثم نقّر بلسانه كأنّه يشتمه.
“قلت إنهم لي. إن كنت
ترغب بالنجاة، فارحل.”
اصفرّ وجه التاجر دفعةً واحدة.
“أر… أرجو العفو… إن لم تدفع فلن نستطيع الاستمرار… نحن بحاجة إلى المال لنعيش…”
لم يُكمل كلمته.
السيف انقض عليه فجأة.
أحد الحراس وراء المقنّع، قطع جسده بضربة واحدة.
“آهغ!”
صرخ تاجر العبيد بصوتٍ بشع وانهار على الأرض، واندفع دمه من جسده ليصبغ الأرض بالأحمر.
رذاذ دمائه تناثر على وجهي.
إنها المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا يموت…
كل شيء داخلي بدأ يرتجف، وعقلي أصبح خاليًا، كأنه غُمر بالثلج.
المقنّع الأسود اقترب ببرود، ولم يضطرب حتى في تنفّسه.
مسح وجهي بيده.
“آه… لقد لوثت ملكي بهذا الدم القذر.”
رما القفاز الملطخ، بينما يدي المرتجفتان لا تزالان تشدّان عباءتي.
يا له من وحشٍ متعجرف… لا، بل حثالة لا يعتبر حتى البشر بشرًا.
إن اصطحبنا معه… سيحوّل حياتي وحياة فرانز إلى جحيم.
قاومت مشاعري، محاولًا أن لا أظهر أي ضعف.
يجب أن أستغل لحظة غفلته… لأهرب مع فرانز.
المقنّع أصدر أوامره بهدوء كأنه يطلب العشاء.
“نظّفوا المكان، وأحضروا العربة. سأصطحب ممتلكاتي. أوه، خذوا هذا الساحر العجوز أيضًا. نحتاجه ليحفر الوشم.”
“حسنًا. وماذا عن مَن تبقى من عبيد السوق؟”
“اقضوا عليهم جميعًا. لا نترك أثرًا.”
إعدام… كل من بقي هنا؟
رغم أنهم يستحقون الموت،
كان من المفترض أن يُحاكموا وفق القانون!
هل هذا الرجل فوق القانون؟!
أحد الحراس أمسك الساحر العجوز من رقبته وسحبه دون مقاومة،
بينما بدأ الحراس الآخرون بإغلاق أبواب القاعة.
لم يبقَ فيها سوى رجال السوق.
راحوا يخرجون سيوفهم ببطء.
تحت الثريا، لمع بريقها.
“اهربوا!”
“آااه! أنقذونا!”
صرخ الحاضرون وهم يفرون،بعضهم عبر الباب الخلفي، والبعض قاوم بالسيف.
ساد الفوضى، أصوات الصراخ، الحديد، الدماء…
لا وقت للجمود الآن! الآن، عليّ أن أهرب مع فرانز!
لكن جسدي لا يتحرك… ماذا أفعل؟
وفيما كنت أُفكر بخطة هروب، قبضت على يدي لا إراديًا.
مهلًا… أيمكنني التحرك؟!
لا أصدق…
قبل قليل لم أستطع تحريك إصبع، والآن بدأت أشعر بالقوة تعود.
انخفض الصداع… وعادت لي السيطرة على أطرافي.
ما الذي يحدث؟
ألم أتناول نفس العقار الذي شلّ فرانز؟
اقترب مني المقنّع مجددًا،
فتظاهرت بسرعة بأنني دمية بلا روح.
مدّ يده ليلمس وجهي.
كانت باردة بشكل مخيف.
“أن أجد ثعلبة مثلكِ… إنها نعمة من السماء.”
واصلت التحديق في الفراغ كأنني فقدت الوعي كليًا.
رجاله تفرّقوا لترتيب المكان،
ولم يبقَ على المسرح سوى أنا، المقنّع، وفرانز.
رفعت رموشي الطويلة ببطء ونظرت إليه مباشرة.
في تلك اللحظة…
ارتجفت عيناه الذهبية الرمادية، ثم انحنت كأنها هلال.
“أنتِ حقًا… فاتنة. تعالي معي. سأُهديكِ أجمل قفصٍ على وجه الأرض.”
التعليقات لهذا الفصل " 51"