الفصل 48 – أرجوك، استيقظ فقط
قبل لحظاتٍ فقط، كنت أكرهه بصدق… لكن حين أمسك به تاجر العبيد، انقبض قلبي بشدّة.
“تبًا…! هذه شبكةٌ سحرية، اهربوا بسرعة!”
صرخ فرانز بأعلى صوته، طالبًا من الثعالب أن تفرّ هاربة. اندفعت الثعلبة ذات العين الواحدة لإنقاذه، لكن بقية الثعالب منعتها.
“علينا إنقاذ فرانز!”
“سيدي! هذا خطير! عليك أن تهرب فورًا!”
تفرّقت الثعالب، واختفَت بين أشجار الغابة. تمنيت أن أركض خلفهم، لكني لم أستطع التحرك خشية أن يكتشفني تاجر العبيد.
لم يكن بوسعي إلا أن أختبئ بين الشجيرات، أراقب وأنا أرتجف خوفًا وعجزًا.
حين حاول المهاجمون ملاحقة الثعالب، أوقفهم تاجر العبيد وقال بصرامة:
“لا تدخلوا الغابة. هناك وحوشٌ شرسة. ولا وقت نضيعه.”
بدا عليه التوتر والقلق، والتفت إلى الخلف مرارًا.
“قريبًا، سيبدأ حرس قلعة الشمال جولة التفتيش. إن وصلوا، سنكون في عداد الموتى. خذوا هذا الحقير وارحلوا فورًا!”
أحضر المهاجمون عربةً كانو قد أخفوها بين الأشجار. اقترب تاجر العبيد من فرانز المحاصر داخل الشبكة السحرية.
مدّ يده الخشنة، تمرّغ بها على فروه الثمين بعينين يملؤهما الجشع.
“ههه… متشوّق لرؤية شكله بعد أن يعود إلى هيئة البشر. سيباع كعبدٍ نادر بثمنٍ باهظ.”
“غغغغ!”
أطلق فرانز زمجرة غضب، كاشفًا عن أنيابه، لكنه لم يستطع الحراك بسبب قوة الشبكة السحرية.
كان يحاول التملّص منها، لكن الشبكة كانت تشتد وتشتد كلما قاوم.
“تبًا لك، كلما حاولت الهرب، زاد الأمر سوءًا. كن هادئًا ووفّر جهدك.”
أخرج تاجر العبيد زجاجة دواء، وسكب محتواها على وجه فرانز. ما إن غطّاه الغبار الأرجواني المنبعث منها، حتى بدأ يصرخ ويتلوّى بشدة.
“كآآآآه!”
لكن لم يمضِ سوى ثوانٍ معدودة، حتى سقط فاقدًا للوعي.
أحد الرجال قيد عنقه بطوقٍ معدني ضخم، وغلّ قدميه بسلاسل ثقيلة.
طَق! كان صوت القيود الباردة كفيلًا بأن يصيبني بالقشعريرة.
صرخ تاجر العبيد:
“احملوه إلى العربة، بسرعة!”
حين صرف نظره للحظة، علمت أن هذه هي فرصتي الوحيدة.
جمعت شجاعتي واندفعت بكل ما لدي من قوة نحو فرانز.
أعلم أن ما أفعله جنون، لكن لا يمكنني أن أقف وأشاهده يُساق كالعبيد!
دخلت بين فراء ذيله الكثيف، ولففت جسدي داخله، مختبئةً تمامًا.
كان فروه كبيرًا وكثيفًا بما يكفي ليُخفي جسدي الصغير تمامًا.
اقترب عدد من الرجال، وحملوا فرانز وكأنه سلعة، وألقوه داخل العربة. تشبثت بذيله بإحكام كي لا أسقط.
كانت العربة ضيقة، داكنة، تشبه زنزانةً مغطاة بالقضبان.
في داخلها، اختلطت رائحة الدم بالعفن، وبرائحة الوحوش.
على أرضيتها تبنٌ مبعثر، لطخه الدم، وكان هناك خصلات من الفراء الممزق.
لكن… لم تكن فروة ثعلب. يا إلهي، هل كانت تخصّ سبعيًا آخر؟
أغلقوا باب العربة خلفنا، وساد الظلام الكثيف، باستثناء شعاعٍ خافتٍ من الشمس يتسلّل من نافذة صغيرة بقضبان.
سمعت صوت القفل يُغلق… طَق.
ارتجفت من شدة التوتر. ضممتُ ذيل فرانز بشدة إلى صدري.
“تحرّكوا بسرعة! ننطلق حالًا!”
مع صراخ تاجر العبيد، تحركت العربة وهي تهتز وترتجف.
رفعت عيني نحو النافذة الصغيرة…
“سموّ الدوق… أنا آسفة. لن أستطيع حضور موعد العشاء.”
هل سيتمكّن كاردين من العثور علينا؟ كل ما أرجوه أن تعمل تعويذة التتبّع التي استخدمها “رون” كما ينبغي.
إلى أن يصل، يجب أن أحمي فرانز بأي ثمن… وألا أسمح لهم ببيعه كعبد.
نظرت إلى فرانز المغمى عليه، وارتجف صوتي بالدعاء:
“أرجوك… افتح عينيك، فرانز…”
* * *
في قصر الدوق كاردين، وبينما كان يوقّع على وثيقةٍ باستخدام ريشة الكتابة، تجهم وجهه فجأة.
انكسرت رأس الريشة، وتناثرت قطرات الحبر على الورقة.
“سموّ الدوق، هل أنت بخير؟!”
سارع “مايلد” إلى مناولته منديلاً، بينما بدأ ينظف الحبر من على المكتب. نهض كاردين من مكانه، ومسح يده وهو يشعر بانقباضٍ مزعج في صدره.
حدسه كان ينبئه… بشيءٍ شرير قادم.
اقترب من النافذة، وألقى نظرةً حادةً على الخارج.
“هل عادت شوشو؟”
“سوف أتحقق من ذلك حالًا.”
وقبل أن يغادر “مايلد”، اقتحم “أوين” المكتب، شاحب الوجه، دون استئذان.
“يا سمو الدوق! الأمر طارئ للغاية!”
لهاثه كان دليلاً على أنه ركض بسرعة. قال بصوتٍ لاهث:
“لقد تم أسر شوشو وفرانز… على يد تجار العبيد!”
دفع كاردين الطاولة بقوة واندفع للأمام، وجهه تجهم وكأنه وحشٌ غاضب.
“ماذا تقول؟! كيف أمكن لتجار عبيد أن يقبضوا على شوشو خارج بوابة القلعة؟!”
قبل أن يجيب “أوين”، دخل إلى المكتب ثعلبٌ ضخم ذو فراء رمادي… وعينٍ واحدة فقط.
انحنى باحترام وقال:
“أنا آرك، من قبيلة أولفيس. أتيت لمقابلة سموّ الدوق.”
رمقه كاردين بنظرةٍ باردة حادة تمتلئ ازدراءً.
“ما الذي جاء بكم، قبيلة أولفيس، إلى عقر داري؟”
“جئت أبلغكم عن مصير فرانز ورويل. تم اختطافهما من قِبل تجار عبيد في غابة البتولا.”
تفاجأ “مايلد” ورفع حاجبيه متسائلًا:
“هل أنت متأكد؟! وكيف علمتم بذلك؟”
“كنا نستعد لمغادرة الغابة عندما جاء فرانز ومعه رويل. فجأة، هجم علينا تجار العبيد. وكأنهم كانوا يعرفون موقعنا مسبقًا. فرانز قاتل لحمايتنا، لكنه أُسر، ورويل سُحبت معه.”
“تجرأوا على هذا؟…”
كان كاردين يكاد ينفجر من شدة الغضب.
من بين أسنانه المشدودة خرج أنينٌ أشبه بزمجرةٍ وحشية. قبض يده بشدة حتى احمرّت.
وفجأة، تفجّرت من جسده موجة هائلة من السحر القوي، أشبه بإعصار.
“يختطفون شوشو من أرضي؟! سأمزّق هؤلاء الأوغاد أشلاءً!”
اشتعلت عيناه الزرقاوان بلونٍ أحمر داكن، يتوهج بالغضب.
ارتجف “آرك” وهو ينظر إليه بعينين خائفتين، يتصبب عرقًا باردًا.
قبيلة أولفيس، منذ اختطاف فرانز، حاولت إيجاد حلّ. واقترح أحد الثعالب التوجه إلى دوق كاردين لطلب المساعدة.
آرك لم يكن واثقًا، لكنه تشبث بأملٍ ضعيف.
“فرانز كان محقًا… الدوق كاردين يكنّ لـرويل اهتمامًا خاصًا. يقال إنه صاحب قوةٍ سحريةٍ تفوق البشر، وُلد بقدرٍ ملعون… فهل تقبله الحاكمة؟”
اشتعلت عيناه بالدم، وهو يصرخ:
“أعلنوا الاستنفار! ليخرج كلّ جندي! حتى لو كان عليهم أن يجوبوا الجحيم… اجلبوا شوشو فورًا!”
* * *
ضغطة… ضغطة…
كنتُ أضغط بباطن قدمي الأمامية، المستديرة كالقطعة اللزجة من كعكة الأرز، على وجه فرانز داخل العربة المتأرجحة.
جربتُ كل شيء لأوقظه. دستُ على ذيله، قفزتُ فوق جسده بخفة، حتى أنني رقصتُ فوق صدره، لكنه لم يتحرك قيد أنملة.
“فرانز… استيقظ، أرجوك، هه؟”
ضغطتُ على وجهه الصغير بقوة حتى تَشَوَّهَت شواربه، لكنه ظلّ ساكنًا كالحجر.
هل مات؟
أصابني الذعر، فألصقت أذني بقلبه. لحسن الحظ، كان ينبض بقوة، صوته كقرع الطبول في مهرجان الحياة.
“فرانز، يا من تتظاهر بالقوة دائمًا، ها أنت تُغمى عليك بسبب بعض مسحوق النوم؟ أقسم إن استيقظت، لن أنسى السخرية منك مدى الحياة!”
من شدة القلق، أصبحتُ ثرثارة على غير عادتي. كنتُ أتمتم بصوت خافت، خائفًا من أن يسمعنا أولئك الأوغاد من تجار العبيد خارج العربة.
صفعتُ وجنتيه بلطافة باستخدام قدمي الأمامية الصغيرة.
في البداية كان بدافع القلق… دعاء صامت بأن يفتح عينيه. لكنني وجدتُ نفسي أستمر، الصفعة تلو الصفعة…
ولم أنكر… بدأتُ أستمتع.
“آهغ… كفى ضربًا.”
تأوه فرانز وهو يفتح عينيه ببطء. عينيه الفضيتين وقعتا علي، ومعهما انهمرت دموعي لا إراديًا، ممزوجة براحة لم أعهدها.
“أيها الأحمق! بم تفكر لتظل نائمًا كل هذا الوقت؟!”
ضربته مرة أخرى بخفة على جسده، فارتعش.
“كفى… أنتِ صغيرة، لكنكِ تضربين كوحش.”
تنفستُ بعمق بينما أحدّق في القيد المعدني الملتف حول عنقه. السلسلة المتصلة به كانت تصدر صوت ارتطام بارد حاد.
“هل… هل أنت بخير؟ هل يؤلمك هذا القيد؟”
أدار رأسه يمنة ويسرة ببطء، وحين رأى القيد في عنقه، انعقد حاجباه بضيقٍ شديد.
حاول أن يفكه بمخالبه، لكنه لم يتحرك. حتى عندما هز ذيله، لم يحدث شيء يُذكر.
“بسبب هذا القيد، لا أستطيع استخدام أي من قواي.”
“وماذا سنفعل الآن؟ كيف نهرب من هنا؟”
وجه فرانز نظره نحو النافذة الصغيرة. كانت الشمس قد تجاوزت كبد السماء.
“كم مضى على انطلاق العربة؟”
“تجاوزنا فترة الظهيرة… أستطيع تمييز ذلك من رائحة الهواء وظلال الضوء.”
منذ أن أصبحتُ نصف حيوان، بتّ أُدرك أشياء لم أكن لأشعر بها حين كنت بشرًا.
فرانز نظر إليَّ، وفجأة انتفش فراؤه بالكامل، وراح يزمجر بغضب، صوته خافت لكن مشحونٌ بالتهديد.
“حمقاء! هل تحاولين الموت؟! لماذا تبعتني؟!”
“وما الذي كنتَ تريدني أن أفعله؟ أن أقف وأشاهدك تُؤخذ كالعبيد دون أن أحرك ساكنًا؟!”
صرختُ به دون تردد. غضبه كان واضحًا، لكنه كبحه بصعوبة وهو يلهث بغضب مكبوت.
“هذا لا يعنيكِ من الأساس…”
التعليقات لهذا الفصل " 48"