الفصل 45 – هل ترغبين في اللحاق به؟
“ماذا؟! ما هذا الهراء؟”
رددتُ بدهشة لا تخلو من الغضب، ليبادلني فرانز نظرة حادة غاضبة كأنما أحرقتْ جوارحي.
“في عرف قبيلتنا، تقديم الطعام لأحدهم يعني عرض الزواج. وأمام خطيبكِ، بكل وقاحة، تقدّمين طعامك لغيره؟!”
حدقت فيه بوجه خالٍ من الحياة، ما هذه العادات التي تُشبه قصص الأرواح القديمة؟
وفجأة، “رون” يبتسم ببراءة ويضع ما تبقّى من لحم في طبق فرانز:
“فرانز، إذا لم يكفِك، خذ من لحمي.”
“هاه، لحم من رجل؟! يا للعار…”
غمغم فرانز بتأفف، لكن يبدو أن شهيته غلبت كبرياءه، فقد التهم قطعة اللحم دفعة واحدة.
“شوشو، لديكِ صلصة على طرف شفتيكِِ.”
اقترب “كاردن” مني بلطف، محاولًا تنظيف فمي بمنديل، كعادته عندما كنتُ ثعلبة صغيرة وكان يعتني بفرائي.
ودون تفكير، قدمت شفتي له، لكن لمّا لامست أنامله شفتاي، شعرت بحرارة مفاجئة جعلتني أشيح بوجهي عنه بسرعة.
توقف “كاردن” في مكانه، وجهه كعادته بلا تعبير، يستحيل أن أقرأ ما يجول في خاطره.
هل… هل جُرح؟
“لـ-لا بأس، سأفعلها بنفسي!”
أخذتُ المنديل وبدأت أفرك شفتيّ بتوتر.
الآن بعد أن أصبحتُ إنسانة، أصبحت لمسات “كاردن” تلك محرجة، بل تُربكني.
ساد صمتٌ ثقيل بيني وبينه، لحسن الحظ أن الآخرين كانوا منشغلين في أحاديثهم ولم يلاحظوا شيئًا.
“انتهيت.”
قالها فرانز وهو يضع أدوات الطعام جانبًا، وصحنه نظيف تمامًا.
يا لهذا الفتى! أكل لحم بقرة كاملة بمفرده!
مسح فمه بالمنديل بخفةٍ أرستقراطية، كأنه أميرٌ من سلالة نبيلة، ما أوقحه.
“سأغادر غدًا، قلتها مسبقًا.”
“ماذا؟! هل تتحدث بجدية؟!”
صحتُ مصدومة، فأومأ برأسه بكل هدوء:
“تم تحديد موعد الرحيل. لقد تم اختياري كخليفة لقبيلة وولفِس، وعليّ قيادتهم.”
“أنت؟ الخليفة؟!”
لا أصدق… هذا الثعلب الأناني، الوقح، المتغطرس، سيقود شعبًا بأكمله؟
أشعر بقلقٍ على مستقبل قبيلته.
راح يحدق فيّ بعينيه الفضيتين، نظراته كانت ملتهبة بشيء لا أستطيع تسميته سوى… توقٍ عميق.
منذ متى بدأ ينظر إليّ بهذه الطريقة؟
ماذا يريد مني، يا ترى؟
بعدما أعلن رحيله، خيّم الصقيع على المائدة.
وضعتُ فنجاني بصوت مسموع، كأنني أُعاتب.
“لماذا لم تخبرنا من قبل؟!”
خرج صوتي محمّلًا بعتابٍ لم أقصده، فراح يحدّق فيّ مستندًا بيده إلى ذقنه، وكأنه يقرأ أفكاري.
“سؤالي هو: هل ستلحقين بي، أيا كان موعد الرحيل؟”
لم أفكر في الأمر…
صحيح أن وجوده أحيانًا ممتع، ربما بسبب غريزتي كأنثى من نفس جنسه.
لكني أعلم تمامًا أن هذا النوع من الصداقة الطائشة لا يدوم طويلًا.
ابتسم فرانز جانبًا، وكأنه قرأ ترددي.
“لن أستعجل الجواب. أمامك حتى الغد.”
ثم وقف، وحدّق بكاردن نظرة مليئة بالريبة والبرود:
“طعام البشر ليس سيئًا. المرة القادمة ستتذوق طعام قبيلتنا: لحم نيء، طازج، لم تمسه نار.”
كاردن عبس وأجابه بجفاء:
“أُقدّر نيتك فقط.”
وحين همّ فرانز بالمغادرة، ظهر الاضطراب على وجوه الحاضرين.
قام “رون” بسرعة، قلقٌ يكسو وجهه الطفولي:
“هل سترحل فعلًا، فرانز؟”
نظرة فرانز نحوه كانت سريعة، ثم قال:
“نعم، أيها الساحر الصغير. شكراً على الشاي.”
“هل ستعود لتشرب الشاي معي مجددًا؟”
لحظة… متى أصبحا يتبادلان جلسات الشاي؟
طفلٌ بريء وساحرٌ نقيّ، مع ثعلب حاد الطباع ولسانه لاذع؟
راقبتُهما بدهشة، ولم أكن الوحيدة، إذ عمّت ملامح الفضول على وجوه الجميع.
كانت أنف “رون” النمشاء تشتعل احمرارًا، وعيناه توشك على البكاء، كجروٍ سُرِق منه صاحبه.
فرانز، إن كنت تملك ذرة إحساس، فربّت على رأسه، قُل له كلمة لطيفة!
“آه، كم أنت مزعج…”
تنهد بتكاسل، ثم اقترب وربت على شعره:
“لا تسهر في دراستك. كل جيدًا، ونَم مبكرًا. وإلا لن تنمو.”
“هل تقلق عليّ، فرانز؟”
“ماذا؟!”
ضحك ساخرًا بأنفاس ساخرة، بينما مسح “رون” دموعه بثبات، وابتسم كعادته.
يا له من وجه كالشمس! لا أملّ من النظر إليه.
“لا تقلق، في لقائنا القادم، سأكون أطول منك.”
رائع يا رون! تمكن من الرد عليه بابتسامة بريئة تحمل لسعة خفية.
انكمش وجه فرانز فورًا.
“أوه، هل تظن أنك قادر على التفوق عليّ؟”
مجادلتهما كانت أشبه بخلافٍ لطيف بين أخوين.
ثم نهض فرانز وقال:
“يكفي. حان وقت الرحيل.”
اتجه نحو النافذة، ووضع يديه في جيبه، مائلًا برأسه كعادته المتعجرفة:
“شكرًا على كل شيء. اعتنوا بأنفسكم.”
ثم اقترب مني، وهمس في أذني:
“تعالي إلى خارج أسوار القصر… سأخبرك بالحقيقة عن قوتكِ.”
ومضى بعدها ليتحول في لحظة إلى ثعلبٍ فضيّ مهيب، وقفز من النافذة واختفى.
وقفت في مكاني، أتساءل: هل أتبعه؟ أم أتركه يرحل دون رجعة؟
قلبي أخبرني أنني لن أراه مرة أخرى إن تركته الآن.
كان الصمت يسود القاعة، وهمسات تدور بين الجميع.
ترددتُ، ثم وقفتُ بحذر.
لكن يدًا قوية أمسكت بمعصمي.
“شوڤيليا، إلى أين تظنين نفسك ذاهبة؟”
كان “كاردن”، عيونه تضيق، وصوته يملأه الشك.
“أنا فقط… أريد أن أودّعه عند البوابة. لدي بعض الأسئلة.”
زمّ كاردن شفتيه، ثم أمر:
“رون، فعّل عليها تعويذة تتبع. للاحتياط.”
“حاضر، سيدي.”
ركض “رون” نحوي وقال بابتسامة قلقة:
“شوشو، أعطني يدكِ فقط، لن يأخذ وقتًا.”
مددتُ يدي دون تردد، فرسم تعويذة مضيئة على معصمي، تسربت إلى جلدي كنسيمٍ هادئ.
“هكذا نطمئن. الآن يمكننا العثور عليك مهما ابتعدتِ.”
آه، كاردن المبالغ في حمايتي… لكن كيف أُعارض كل هذا الاهتمام؟
“شكرًا يا رون، أشعر بالأمان الآن.”
التفتُّ مستعدة للانطلاق، لكنني توقفت.
بهذا الفستان الطويل والكعب العالي، لن أتمكن من اللحاق بفرانز.
ركّزت، فبدأ شعري الفضي يطفو، ثم غمرتني سحابة بيضاء وتحولتُ إلى ثعلبة صغيرة.
لوّحتُ بذَيْلي نحو كاردن:
“سأعود قريبًا، يا دوق!”
وانطلقتُ بقفزة… لكن فجأة، وجدتُ نفسي معلقة في الهواء، أحدهم يمسكني!
“هــه؟! دعني! كاوووووون!”
التعليقات لهذا الفصل " 45"