الفصل 44 – هل أنتم جميعًا… تتقدمون لخطبتها؟
بتوجيهٍ من بيتي، وصلتُ إلى قاعة الوليمة، حيث السقف العالي والثريات الكريستالية تتلألأ من الأعلى، والمائدة البيضاء المستديرة تتوسط المكان بأناقة.
حافة فستاني الأزرق أخذت تهمس بخفة فوق أرضية الرخام بينما كنتُ أُمسك بطرفه بخفّة وأنا أخطو إلى الداخل برشاقة.
صحيح أنني لم أعتد بعد على الكعب العالي، وكدتُ أن أنزلق فوق الأرض اللامعة عدة مرات…
لكن، بفضل توازني الغريزي الذي يشبه توازن الحيوانات، نجوت من كارثة الوقوع على مؤخرتي.
في المقعد الأعلى من المائدة المستديرة، كان كاردين جالسًا، وبجانبه مايلد، وبيرك، وأوين، ورون، وفرانز.
مهلًا… ما الذي يفعله فرانز هنا؟!
كان في هيئةٍ بشرية، مرتديًا توكسيدو أنيقًا. وقد جمع شعره الفضي المنفوش في ذيلٍ مرتب، مما جعله يبدو كنبيل صغير من عائلة أرستقراطية.
هذا الذي لا يطيق الاقتراب من الناس إلا أثناء التدريب، يجلس الآن على مائدة العشاء؟ ما الذي يخطط له؟!
“شوشو، هل أنتِ بخير؟”
بمجرد أن رآني، نهض كاردين من مكانه وسار نحوي، ممسكًا بيدي بنعومة، ونظر إليّ بثبات.
“ذلك الفستان يليق بكِ.”
“هـه؟ آه… شكرًا لك، سيدي الدوق.”
حين سمعتُ مديحه المباشر، شعرتُ ببعض الحرج فانخفضتُ برأسي بخجل.
اصطحبني كاردين إلى مقعدي المقابل له، وجلسنا.
وبمجرد أن جلست، لوّح لي رون بحماس، كمن رأى ملاكًا.
“شوشو! إنكِ مذهلة، تبدين كجنية ثلجية!”
“شكرًا يا رون. يبدو أن لديك ذوقًا رفيعًا جدًا.”
ضحكتُ بخفة وأنا أرد عليه ممازحة.
مايلد وبيرك لم يبخلا عليّ بالمديح أيضًا، وقالا إنني بالكاد أُعرف بنفسي بعد هذا الجمال والأناقة.
“شوشو، لقد تحولتِ إلى آنسة فاتنة! كدتُ لا أصدق عينيّ.”
حتى أوين نظر إليّ بعينين دافئتين وهمس بإعجاب.
رجاءً، كفى مديحًا، أعلم أنني فاتنة، لكنني أُصاب بالإحراج الشديد!
الوحيد الذي بقي صامتًا بوجه جامد وذراعين معقودتين كان فرانز.
لحظة… أليس هذا أول مرة يرى فيها شكلي بعد أن أصبحتُ بشرية؟!
كنت أتوقع أن يُفاجأ أو يسخر مني بطريقة طفولية… لكنه بدلًا من ذلك، تجاهلني تمامًا؟ هذا وقح!
تملكني الغضب، فرمقته بنظرة حادّة.
في تلك اللحظة، دخل الخدم مصطفين وهم يحملون صواني فضية مليئة بأشهى الأطباق المتنوعة.
تألّقت الطاولة بتنسيقٍ رائع من الورود الوردية والأواني الفضية التي انعكست عليها أضواء الشموع.
شُويت شرائح اللحم البقري بإتقان، وتبعها فطيرة التفاح المقرمشة ذات الرائحة العطرة، وحساء اللحم، وسلطات وفواكه بألوانٍ زاهية.
جاء الطعام وفق الترتيب التقليدي: الحساء، ثم السلطة، فالأسماك، فاللحوم. بدا الأمر كوليمة ملكية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ابتلعت ريقي وأنا أحدّق بشغف في المائدة.
حين اقتربت إحدى الخادمات لتساعدني، أوقفها كاردين بإشارةٍ من يده.
ثم تولى بنفسه تقطيع الستيك ووضعه برفق في طبقي.
“شوفيليا، جربي هذه القطعة.”
ما الذي يدفع سمو الدوق لخدمتي بنفسه؟ لم أفهم السبب، لكن الستيك كان أكثر إغراءً من أن أرفضه.
ما إن تذوّقتُه حتى اتسعت عيناي اندهاشًا من النكهة: مذاق فخم برائحة الشواء، وعصارة لذيذة، وقوام يذوب في الفم.
“يا إلهي، إنه لذيذ جدًا! طعمه… طعم من عالم آخر!”
“يسعدني أنه راقَ لكِ. خذي وقتكِ وتناولي الطعام بهدوء.”
ابتسم كاردين برضًا، وواصل تقطيع قطعٍ أخرى لي.
حين نظرتُ حولي، كان الجميع يتناولون طعامهم بهدوء واستمتاع.
منذ مدة طويلة لم أتناول طعامًا في وليمة رسمية كهذه، عادةً كنت أتناول الطعام على عجل.
لفتني فرانز، الذي استخدم السكين والشوكة ببراعة ملفتة.
أمضى حياته كـ”ثعلب”، فكيف يعرف آداب المائدة؟!
راقبته بدهشة، ويبدو أنه شعر بنظراتي، فابتسم بمكر وقال:
“هل وقعتِ في غرامي، شوشو؟”
“ما هذا الهراء؟! هل فقدتَ عقلك؟!”
صرختُ بخجل، فهز كتفيه بلا مبالاة.
“حسنًا، نظراتكِ كانت حارّة جدًا، فهمتُ الأمر بشكل خاطئ إذًا؟”
“كفاك تخيلات، أرجوك.”
رمقته بازدراء وابتسمت بسخرية، بينما أوين، الذي جلس بجواره، ابتسم بوداعة.
“فرانز.”
رغم هدوء نبرته، فإن صوته كان يحمل قوةً لافتة، حتى أن فرانز نفسه توقف لثوانٍ.
“من الرائع أن نرى هذا التآلف بين أبناء العرق الواحد، لكن… ألا تظن أنك تُسبب الحرج لشوشو؟ هذا أمر يصعب غضّ الطرف عنه.”
أوين… أرجوك، لا تبتسم وأنت تلمع السكين بتلك الطريقة المخيفة. عيناك لا تبتسمان على الإطلاق.
“وأنا أُوافق أوين.”
قال كاردين ببرود وهو يضع فنجانه جانبًا. عيناه كانتا تبرقان ببرودة شتوية قاتلة.
“لقد حذرتك سابقًا يا فرانز، لا تتجاوز حدودك.”
ساد الصمت فجأة. حتى صوت تلامس الأواني الفضية والكؤوس الزجاجية اختفى.
أنا، من جهتي، واصلت مضغ شريحة الستيك بصمت. ما هذا الجو المشحون؟ سأُصاب بعسر الهضم إن استمر الوضع هكذا!
كاردين عادةً بارد لا مبالٍ، لكن أحيانًا… عينيه تنقلبان فجأة بهذه الطريقة المرعبة.
لا مفر، عليّ التدخّل.
“كفى، كفى الآن. نحن في مأدبة جميلة معًا، فلنستمتع بها بدلًا من هذا التوتر.”
“صحيح.”
“إن كانت شوشو تطلب هذا…”
أومأ كاردين والتقط شوكته مجددًا. أوين كذلك عاد لتناول طعامه بابتسامة هادئة.
أما فرانز، فجلس عابسًا كطفل غاضب في الثالثة من عمره، ثم بدأ يلتهم الطعام بسرعة. يا له من ثعلب، وشهيّته كأنها شهية خنزير جائع!
كم طبقًا من الستيك أكل حتى الآن؟ سيقضي على بقرة كاملة بهذه الطريقة.
في لحظة، مسح فمه بالمنديل ثم أخذ يشمّ الهواء.
اقترب منّي، رفع رأسه وشمّ مجددًا، ثم ضيّق عينيه نحوي.
ما… ما الذي يفعله؟!
“غريب… رائحتكِ تغيّرت، شوشو.”
“ماذا؟ عن أي رائحة تتحدث؟”
أخذ يقترب مني أكثر وهو يشمّني بتركيز.
“م-ماذا تفعل؟! توقف حالًا!”
دفعته بحدة، لكن عينيه استمرتا في اختراقي بنظراتٍ مشككة.
“رائحتكِ مختلفة تمامًا عن البارحة… ماذا حصل؟”
عيناه كانت تفتشان داخلي، كأنهما تحاولان سلب سرٍ دفين مني.
تغيّرت رائحتي؟ لا تقل إن السبب… هو القبلة مع الدوق البارحة؟!
هل يُعقل أن قبلة واحدة تغيّر الرائحة؟ أي نوع من المنطق هذا؟!
لكن… لا يمكنني قول الحقيقة هنا أمام الجميع! لا وألف لا!
“أ-أوه… لا شيء مهم. فقط… أعتقد أنني امتصصتُ بعضًا من طاقة سمو الدوق بعد وقتٍ طويل، فحسب.”
قلتُ ذلك ببرود وأعدت تركيزي للطعام.
“همم… هكذا إذًا.”
فرانز أسند ذقنه إلى يده وابتسم ابتسامة تنذر بالخطر، بينما قلبي كان ينبض كطبلٍ مجنون خشية أن يكتشف الحقيقة.
“لقد وصلت وجبة البط المشوي! تفضلوا واستمتعوا بالطعم!”
دخل خادمان يحملان طبقًا هائلًا من البط المحمّص.
لكن… ذلك لم يكن مجرد بط! لقد كان بحجم طائر نعام صغير!
الجلد المقرمش الذهبي اللامع ورائحة الشواء المثيرة للغريزة جعلتني أبلع ريقي من جديد.
“يا له من فريسة فاخرة.”
قالها فرانز، وهو يلمع عينيه ثم انقضّ على اللحم بشراسة، ممسكًا الشوكة والسكين كصياد متعطش.
أخيرًا… شعرتُ بالارتياح. لحسن الحظ، هذه الثعلب يتشتّت تمامًا أمام الطعام.
وحين التفتُّ، التقت نظراتي بنظرات كاردين.
كان يحتسي قهوته، لكنه ظل يراقبني دون انقطاع.
سيدي الدوق، رجاءً… توقف، نظراتك خانقة، سأختنق من التوتر!
شفتيه التي مست حافة الفنجان برقي كانت أول ما لاحظته…
في لحظة، استرجع عقلي حرارة قبلتنا في الليلة الماضية، وأخفضت رأسي بسرعة.
لماذا ينبض قلبي هكذا؟! قبلة واحدة، مجرد قبلة، لماذا أشعر بهذا الحرج الجنوني؟!
طعنتُ قطعة من الستيك بوحشية وغرستها في فمي.
وبينما كنت ألتهمها لأُخفي ارتباكي، وجدت طبقي قد أصبح فارغًا.
وهنا، وضع أوين قطعة من لحمه في طبقي بلطف.
“شوشو، هل ترغبين بقطعة من لحمي؟ سمعتُ أن التحول البشري يتطلب تناول الكثير من البروتين.”
نظرتُ إليه للحظة وأنا مسحورة بابتسامته المشرقة.
لكن فجأة، وضع كاردين كامل قطعة اللحم خاصته في طبقي أيضًا.
حدّقتُ به بدهشة، فشرح لي بهدوء:
“لقد كنتِ تتدرّبين كثيرًا مؤخرًا. عليكِ أن تأكلي جيدًا.”
“شكرًا جزيلًا، سيدي الدوق.”
ثم أتى دور رون، الذي قسّم لحمته إلى نصفين وأضافها فوق البرج المتكوّم في طبقي.
“خذي أيضًا من لحمي، شوشو! أنتِ بحاجة للقوة!”
“وتفضلي من لحمي كذلك، يبدو أنكِ فقدتِ بعض الوزن مؤخرًا.”
قال مايلد بأسف وهو يضيف نصيبه. وهكذا، أصبح في طبقي برج مكون من أربع طبقات من الستيك!
ما هذا؟ حملة تضامن من أجل شوشو؟!
فرانز شهق وارتجفت عيناه من الصدمة، ثم لوّح بشوكته إلى الجميع صارخًا:
“أنتم… أنتم تقدمون لها اللحم… هل أنتم جميعًا تتقدمون لخطبة شوشو؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 44"