الفصل 31 – لقد كنت مجروحة… حقًا
وقفت أمام المرآة، أدرت نفسي بدورة خفيفة وأنا أبتسم برضا. كلما تحركت، تمايلت أطراف الدانتيل تحت الفستان الأسود، ولمع المريول الأبيض الناصع فوقه.
كانت بيتي تراقبني بقلق بالغ، يداها مشبوكتان بتوتر ظاهر.
“لقد اتبعت ما قالته الآنسة شوشو، لكن… هل حقًا سيكون الأمر على ما يرام؟ دون أن نُخبر الدوق؟”
ابتسمت وأنا أربّت على كتفها برفق.
“لن يكون من المنطقي أن نبلغه في كل مرة أتحول فيها إلى هيئة بشرية. وأحيانًا، القليل من المرح لا يضر.”
وما إن أنهينا الحديث حتى التقطت آذاننا صوت خطوات خلف الباب.
“شوشو؟”
كان كاريدن، صوته ناعم ومليء بالود، يناديني من الخارج. لا أدري متى استيقظ.
تبادلنا النظرات بسرعة، كأننا عميلتان في مهمة سرّية، وعدنا كلانا إلى مواقعنا في لحظة.
اختبأت خلف الأريكة، ووقفت بيتي بجوار السلة التي وضعت فيها نسختي المزيّفة.
فُتح الباب بصمت، ومد كاريدن رأسه بحذر، متفقدًا السلة مباشرة.
انحنت بيتي له بتحية مهذبة، وهمست بصوت بالكاد يُسمع:
“الآنسة شوشو نائمة، سيدي الدوق.”
“مفهوم. يبدو أنها مرهقة، دعيها ترتاح جيدًا.”
لحسن الحظ، لم يدخل الغرفة، بل بقي للحظة عند الباب ثم أغلقه بهدوء.
استمعنا إلى خطواته وهي تبتعد تدريجيًا، إلى أن تلاشت تمامًا.
تنفّست بعمق ونهضت من خلف الأريكة، وقلبي لا يزال ينبض بعنف، كما لو كنت لصّة ضبطت في منتصف السرقة.
بيتي، هي الأخرى، جلست منهكة على الأرض، وجهها مليء بالذعر.
“يا آنسة شوشو، ظننت أننا كُشفنا! كاد قلبي يتوقف من الرعب!”
مددت لها يدي لأساعدها على الوقوف، ثم ابتسمت بثقة:
“شكرًا لكِ، بيتي. أرجو أن تعتني بي جيدًا… فقط لنصف يوم.”
* * *
“فقط لا تبتعدي عني، مفهوم؟”
قالتها بيتي وهي تسير أمامي في الممر الفسيح، تتلفت إلى الوراء كل بضع خطوات، تمامًا كما تفعل الأمهات حين يصطحبن أطفالهن إلى السوق.
هززت المكنسة في يدي بإصرار، وقلت بحماسة:
“لا تقلقي، بيتي. سأكون تحت إشرافكِ التام!”
“حقًا، لا أستطيع مجاراتكِ…” تمتمت بيتي مبتسمة وهي تواصل السير.
سرت خلفها بحذر، ممسكة بالمكنسة كخادمة جديدة تتعلم أصول المهنة.
في تلك اللحظة، مرت بعض الخادمات من الجهة المقابلة، يحملن سلال الغسيل. حيّين بيتي بكل احترام.
“صباح الخير، آنسة بيتي!”
“أحسنتم عملًا.”
لم أكن أعلم أن بيتي هي رئيسة الخادمات! ظننت دائمًا أنها خادمتي الخاصة. متى أصبحت بهذا المنصب الرفيع؟
نظرت إليها بإعجاب صادق.
“بيتي، هذا مذهل! كيف وصلتِ إلى منصب رئيسة الخادمات؟”
“الحقيقة أن رئيسة الخادمات السابقة اضطرت للتقاعد فجأة بسبب مشاكل صحية، فتم تعييني خلفًا لها.”
“مستحق بجدارة. لا أحد مثلكِ في الكفاءة.”
بيتي احمرّت خجلًا، وأجابت بتواضع:
“كنت محظوظة، لا أكثر. لا يوجد الكثير من أصحاب الخبرة في هذا القصر، خاصة لأنه يقع على الحدود.”
“لماذا؟”
“لأن هذا المكان حصن صعب، وعلى حدود مليئة بالوحوش. كثير من العاملين يتجنبونه. لذا، عادة ما يتم توظيف شباب بحاجة إلى المال رغم المخاطر.”
لم أكن أعلم أن الوضع بهذا السوء. حتى في ساحة تدريب الفرسان، ظهرت مخلوقات كالوَيفرن. لابد أن الخطر دائم هنا.
ربما حتى بيتي… تعمل هنا لأسباب قاهرة.
أدركت فجأة أنني، رغم كل ما فعلته من قبل، لم أسألها يومًا عن قصتها. كم كنت أنانية.
فسألتها بهدوء:
“بيتي… لماذا اخترتِ العمل في هذا القصر بالذات؟”
تغيرت ملامحها فجأة. خيّم حزن خاطف على وجهها، لكننا لم نكمل الحديث، إذ سمعنا صوت خطوات.
كان “رون”، شعره مبعثر، يلبس رداءه كيفما اتفق، يبدو أنه استيقظ لتوّه.
“أوه! أختي بيتي!”
لوّح لنا بحماسة، آثار النوم لا تزال في عينيه.
أسرعت بخفض رأسي، متظاهرة بأنني أنظف الأرضية.
بيتي حيّته بلطف:
“صباح الخير، سيد رون. هل سهرت مرة أخرى؟”
“في الواقع، رأيت بالأمس أحد أفراد قبيلة الثعالب مثل شوشو، فقضيت الليل أقرأ عنهم!”
أخرجت بيتي منديلاً من جيبها ومسحت عينيه بلطف، كأخت كبرى تعتني بأخيها الأصغر.
“أنت ما زلت في طور النمو، النوم ضروري لك.”
“حاضر، أختي بيتي.”
ثم أخرجت مشطًا وسرّحت له شعره الفوضوي، ورون استسلم لها دون مقاومة.
راقبتهما وأنا أبتسم خفية، أكنس الأرضية.
كم يبدو كطفل صغير بحاجة دائمة للعناية.
“بالمناسبة، هل شوشو استيقظت؟ أردت أن أتناول الإفطار معها.”
يا إلهي، شعرت بوخز في قلبي. خفضت رأسي أكثر، وكثّفت الكنس.
أجابت بيتي بلباقة:
“الآنسة شوشو ما زالت نائمة. كانت متعبة جدًا، لذا نود تركها ترتاح اليوم.”
“معقول. لقد امتصّت بالأمس طاقة الدوق. لا بد أنها مرهقة. سأذهب الآن. إلى اللقاء!”
وهرول على الدرج مبتعدًا.
ما إن اختفى حتى انتصبت واقفة وأنا أتمتم:
“آخ… ظهري…!”
بيتي نظرت إليّ بقلق:
“هل أنتِ بخير؟ كنت قلقة أن يكتشفكِ رون.”
“وأنا أيضًا…”
ابتسمنا لبعضنا، ثم واصلنا السير.
سألتني بيتي فجأة:
“حقًا قابلتِ أحد أفراد قبيلتك؟”
صورة الثعلب الفضي، فرانز، ظهرت في ذهني.
لقد اختفى أثناء قتال الوحوش. ربما عاد إلى قومه.
“نعم، اسمه فرانز. ينتمي إلى قبيلة تُدعى ‘أولفيس’.”
“واو! لابد أن اللقاء كان مؤثرًا. تهانينا!”
ابتسامتها كانت صادقة وكأنها هي من وجد أحد أقربائها.
لكن… تلك النظرات الفضية، الجارحة والحزينة في آن، عادت إلى مخيلتي. قلبي اعتصر فجأة.
خفضت نظري نحو السجادة، وشددت قبضتي على المكنسة.
“لا أعلم إن كنتُ سعيدة. أظن أن قبيلتي… تكرهني.”
“ماذا؟ كيف؟!”
امتلأت عينا بيتي بقلق حقيقي، وأمسكت بمعصمي.
“هذا الحديث لا يصلح للممرات. تعالي معي للحظة.”
قادَتني إلى غرفة صغيرة في نهاية الردهة. كانت صالة بسيطة مخصصة لاستراحة الخادمات، فيها طاولة مستديرة ومطبخ صغير.
رغم بساطتها، امتلأت الغرفة بدفء وراحة.
“اجلسي، سأجهّز لكِ كوبًا من الحليب الساخن.”
أغلقت الباب، ثم دخلت المطبخ.
وبعد لحظات، عادت تحمل كوبين، يتصاعد منهما بخار دافئ.
“أضفت بعض العسل. سيكون حلو المذاق.”
“شكرًا… لكِ، بيتي.”
جلسنا معًا، نشرب الحليب بهدوء.
وفكرت… هذه أول مرة أجلس مع بيتي على هذا النحو، كإنسانة، لا ككائن غريب. شعرت بدفء ناعم يملأ قلبي.
نظرت إليّ بيتي بحنان، وقالت:
“أخبريني، شوشو. ماذا قال لكِ ذلك الثعلب؟”
كلماتها كانت لطيفة، لكن صداها اخترق قلبي، حتى كدت أبكي.
حدقت في فنجاني، وأخبرتها بكل شيء: أنني كنت منبوذة، أن قبيلتي رأتني نذير شؤم، وأنهم طردوني بسبب قدرتي على ابتلاع السحر.
استمعت لي بصمت عميق، وعيناها تشعان تعاطفًا لا حد له.
وحين أنهيت، أمسكت بيدي. دفء يديها، وعطر الفانيليا الحلو، تغلغلا إلى روحي.
لطالما كانت بيتي تحمل ذلك الدفء… يجعلك ترغب أن تبوح لها بكل شيء.
نظرت إلى انعكاسي في عينيها البنّيتين، لأكتشف الحقيقة المؤلمة…
أنا… كنت مجروحة. حقًا مجروحة.
التعليقات لهذا الفصل " 31"