الفصل 20 – على وشك أن أُخلِّف جرحًا يدوم مدى الحياة
عادت النظرة إلى عيني بيرت صافيةً ومتزنة، وملامحه التي كانت مشوهة كوحش عادت لتصبح وجه فارس جليل يفيض بالهيبة والخبرة.
بيدٍ مرتجفة، رفع بيرت يده ليلامس وجنة كاردين. أمسك كاردين يد عمه النحيلة والمجعدة بلطف وأغمض عينيه.
تسللت دمعة ساخنة من تحت رموشه الطويلة.
“أنا آسف… لقد كدت أترك لك جرحًا يدوم مدى الحياة.”
“لا بأس، يا عمّي. المهم أنك بخير الآن.”
ابتسم بيرت ابتسامة خفيفة وأومأ برأسه مرارًا.
كنت أقف متوارية خلف الستار أرتدي المعطف، أرقب الرجلين المتعانقين. عندما رأيت كاردين يبتسم كطفل صغير، غصَّ قلبي. لم أعلم أنه قادر على صنع تعبير كهذا.
“كيف حال طاقتك، عمّي؟ هل جسدك بخير؟”
“أجل… أظن أن تلك الثعلبة البيضاء عضّتني، ومنذ تلك اللحظة بدأت أستعيد وعيي. أين هي الآن؟”
… آه، هل يقصدني أنا؟
تقدّمت إلى الأمام بتردد، تتمايل خصلات شعري الفضي الطويل مع كل خطوة. كنت حافية القدمين، لذلك بدا الرخام باردًا على بشرتي.
“تشرفنا بلقائك، سموّ الدوق السابق.”
اتسعت عينا بيرت في دهشة عندما رآني بهيئتي الجديدة.
“يا إلهي! لم أكن أعلم أنك من فصيلة الشُبُه-بشرية. لقد أنقذتِ حياتي، أنا مدين لكِ.”
عندما حاول بيرت أن ينهض مترنّحًا، سارع كاردين لمساعدته على الوقوف. ثم انحنى بيرت لي أمامي بانحناءة احترام عميقة.
أن يُنحني أحد القادة العسكريين الذين حكموا قلعة الشمال وضبطوا حدود المملكة رأسه لي؟ شعرت بالإحراج ولم أعرف كيف أتصرف.
“لم أفعل سوى ما كان ينبغي فعله. لا داعي لكل هذا، حقًا.”
“بل يجب. لولاكِ… لكنت سبّبت ألمًا لا يُحتمل لابن أخي. لا أريد له أن يتحمل عبء قتل أحد أقاربه بيده. أنا ممتن لكِ من أعماق قلبي.”
ذرف بيرت دموعًا غزيرة وهو يُكرر انحناءه، وكانت نبرة صوته تفيض بمحبّته الصادقة لابن أخيه.
وأنا بدوري… لم أكن لأسمح لـ كاردين أن يتحمل مثل ذلك العقاب المرعب. كنت محظوظة لأني تمكنت من امتصاص طاقة بيرت الجامحة.
ثم التفت بيرت إلى كاردين وسأله:
“ومن أين أحضرت هذه المنقذة؟”
التفت كاردين نحوي لبرهة. كانت نظرته دافئة ورقيقة إلى حدٍ لا يُطاق.
قال بثبات:
“اسمها شوبيليا. نُسميها شوشو. إنها المعالِجة الوحيدة القادرة على تهدئة طاقتي الجامحة، وهي أيضًا… رفيقتي.”
“… ماذا؟!”
هل سمعت ما أظنه؟!
رفيقة؟! أيعني بذلك “شريكة حياته”؟! أم أنه اختصر عبارة “حيوان رفيق”؟!
تجمدت في مكاني من شدة الإرباك. لم أجد لحظة مناسبة لأُصحح الموقف.
بيرت ابتسم بحنو، فتكوّنت التجاعيد عند عينيه.
“هاها… من كان يظن أن كاردين، الذي لم يسمح لأحد بالاقتراب منه، سيختار فتاةً من فصيلة الشبه-بشر لتكون رفيقته.”
كنت مصدومة من مدى سرعة تقبّله للأمر. هل من الطبيعي في هذا العالم أن تربط علاقة بين إنسان وشبه-بشري؟
كاردين انحنى انحناءة طفيفة، وابتسامة هادئة ترتسم على وجهه.
“لقد أمرتني يا عمّي وأنا صغير، ألا أرتبط بأي أحد حتى أتمكن من السيطرة الكاملة على طاقتي. لكن…”
توقف قليلًا، ثم اقترب مني ومدّ يده لي.
أمسك يدي بلطف. أصابعه تشبكت مع أصابعي، وتمازج دفء كفيه مع راحتي.
… إنها أول مرة أمسك يده منذ أن أصبحت بشرًا.
كان مجرّد تلامس بسيط… لكن شعورًا غريبًا غمرني. أحسست بصدق مشاعره، بفرحه وارتياحه.
“عندما أكون بجانب شوبيليا، أشعر أنني على طبيعتي تمامًا.”
“دوق…”
نظرت إليه مأخوذة، قلبي يخفق، ولساني عاجز عن النطق.
قال بيرت بصوت لطيف:
“لقد أسأت فهمي، يا كاردين.”
“عمّي؟”
“لم أقصد أن أمنعك عن الارتباط لأجل التحكم في طاقتك. كنت أتمنى أن تجد يومًا شخصًا تفهمه ويفهمك، يرى جوهرك ويقبلك كما أنت.”
ثم وجه عينيه نحوي مباشرة وقال:
“ويبدو أنك وجدت ضالّتك أخيرًا… أنا سعيد حقًا.”
نُقل بيرت إلى الجناح الداخلي لتلقي العلاج على يد رون، وبقي كاردين إلى جواره.
أما أنا، فلم يكن من اللائق أن أخرج أمام الآخرين بمعطف فقط، لذا استلفت زيّ أحد الجنود مع زوج من الأحذية، وغيرت ملابسي في غرفة الاستقبال.
“غريب… توقعت أنني سأعود لهيئة الثعلب فورًا.”
ارتديت البنطال والسترة بخجل، ثم انتعلت الحذاء.
بما أني قضيت وقتًا طويلًا كجرو صغير، لم أعتد بعد على الحركة كإنسانة.
في المرة السابقة لم أحتمل أكثر من دقيقة قبل أن أعود لشكلي الحيواني.
لكن هذه المرة… يبدو أن التحول يدوم أكثر. ربما بسبب قوة طاقة بيرت الهائلة.
وأنا أهمّ بالخروج من غرفة الاستقبال، لمحت مرآة طويلة تقبع في الزاوية.
“أوه… لم أُلقِ نظرة جيدة على وجهي من قبل، أليس كذلك؟”
حين تحولت أول مرة في غرفة نوم كاردين، كنت مرتبكة للغاية ولم أنظر حتى للمرآة. ثم عدت لشكلي الحيواني سريعًا.
اقتربت من المرآة مسحورة.
هناك، خلف الزجاج، وقفت فتاة ذات شعر فضي طويل تبدو مندهشة. بشرتها بيضاء كالبورسلين، وجهها بيضوي، قوامها ممشوق ورشيق. عيناها زمرديتان واسعتان، وأنفها مستقيم، وشفاهها وردية تشبه براعم الزهور في فجر الندى.
“مستحيل… أنا كنت بهذه الجمال؟ من جروٍ قصير الساقين إلى هذه الفتاة المذهلة؟”
تأملت نفسي في المرآة مذهولة.
“آه! لا وقت لهذا الآن!”
أفقت متأخرة من انبهاري، وهززت رأسي لأستعيد تركيزي.
عندما خرجت من غرفة الاستقبال، وجدت فرقة من الفرسان واقفين، يتهامسون بدهشة.
ما إن رأوني حتى فتحوا أعينهم وفغروا أفواههم في ذهول.
“لا يُعقل… شوشو؟!”
“يا إلهي، لا أصدق!”
حتى بيرك، قائد الفرسان، بدا عليه التأثر.
“الطفلة التي دللتها كأنها ابنتي أصبحت فجأة شابة بالغة… هذا كثير عليّ!”
“هدئ من روعك، بيرك. شوشو من فصيلة الشبه-بشر، ما حدث مجرد تحول طبيعي.”
ربّت مايلد على كتف بيرك ليواسيه، ثم اقترب أوين وهو يبتسم بودّ.
“شوشو، إنها المرة الأولى التي أراكِ فيها بشريّة… دهشت من جمالك.”
أحرجني مديحه العفوي، واحمرّ وجهي خجلًا.
“شكرًا، أوين. لازلت أشعر بغرابة تجاه هذه الهيئة.”
أوين تأملني بنظرة مشفقة:
“سمعت أنكِ امتصصت طاقة الدوق السابق. ألم يكن هذا مرهقًا جدًا؟ كيف حالك؟”
“بالعكس، أنا ممتنة له. طاقته ساعدتني لأبقى بشريّة لفترة أطول.”
بلا شعور، أملت رأسي قليلًا كما اعتدت أن أفعل وأنا جرو، ثم ابتسمت.
لحظةً… أوين تجمّد في مكانه، حدّق بي دون حراك.
“ما الأمر؟”
هز رأسه وكأنّه استيقظ من حلم، ثم نظر إليَّ بابتسامة ساخرة.
“كنت لطيفة وجميلة وأنتِ ثعلبة، لكن بصفتكِ إنسانة… أنتِ فاتنة. ربما… كنتِ أكثر أمانًا حين كنتِ ثعلباً فقط.”
همهم بكلمات غامضة جعلتني أرتبك.
وفجأة، شعرت بيد كبيرة تحتضن كتفي.
“وجدتُك، شوشو.”
“دوق!”
كاردين لفّ ذراعه حول كتفي وجذبني نحوه، فارتطم رأسي بصدره القوي دون قصد.
لحظة، هل أوين تجهم وجهه فجأة؟ ما الذي يحدث؟
“ماذا كنتِ تفعلين؟”
قالها كاردين وهمسها يصل أذني مشبعًا بالضيق.
“لا شيء… بالمناسبة، ماذا عن بيرت؟ هل هو بخير؟”
“إنه نائم الآن، بعد أن استعاد هدوءه.”
“حقًا؟ لحسن الحظ..”
أخيرًا، اطمأن قلبي. كنت قلقة جدًا أن يُصاب بأي مكروه.
مرر كاردين أصابعه في شعره المنسدل، بدا عليه التعب، لكنه أيضًا… مرتاح.
ربما لأن عمه بخير الآن.
“هل هناك احتمال أن يفقد السيطرة مجددًا؟”
“مستحيل. بما أنكِ امتصصتِ كامل طاقته، لم يعد في جسده ما يدفعه للانفجار.”
… يا إلهي. يبدو أنني التهمت كل طاقته فعلًا. رغم شهيتي المفتوحة، لم أعتقد أنني أكلت كلها.
لحظة… هذا يعني أنني لو أكلت طاقة كاردين، فلن يُصاب بالجنون أبدًا؟
دون وعي، بلعت ريقي وتذكرت طعم تلك الطاقة الغامر.
“شوشو، لا تُفكري بأفكار سخيفة.”
“هـه؟ ماذا؟”
آه، أرعبتني! كيف اكتشف ما يدور برأسي؟!
نظرتُ إليه متفاجئة، فقال كاردين وهو يهز رأسه بأسى:
“أراهن أنكِ تخططين لأكل طاقتي بالكامل، مثلما فعلتِ مع عمي، أليس كذلك؟”
“ك-كيف عرفت؟”
شعرت وكأنني طفلة ضبطوها وهي تسرق الحلوى. كاردين عقد ذراعيه وتقطّب جبينه.
“هذه فكرة متهورة. في المرة السابقة حالفنا الحظ ونجوتم جميعًا، لكن تكرارها قد يؤذيكِ. لذا… لا تكرري الأمر مجددًا.”
تحدّث وكأنه يوبّخ طفلة صغيرة، وهذا أزعجني. أنا الآن سيدة، لست جروًا!
نفخت خدّي وتذمّرت:
“أنا لست ساذجة لتلك الدرجة.”
ابتسم بخفة، ثم مد يده ليمسّد شعري بلطف.
“شعركِ متشابك. سواء كنتِ ثعلباً أو فتاة، أنتِ كما أنت.”
“توقف! لا تعاملني كطفلة!”
تهربت من يده، لكنه تابع بحنان تسريح خصلاتي المعقدة، كما كان يفعل لفرو الثعلب.
ثم اقترب مايلد وقال وهو يسعل:
“أعتذر عن المقاطعة يا سيدي، لكن… أين تريد أن ننقل الدوق السابق ليستقر؟”
“ابحث عن بيت استراحة في الجنوب. حضّروا له المعالجين، الخدم، والجنود اللازمين.”
“أمرك، سأتولى الأمر دون تأخير.”
استمعت إلى حديثهما، وفجأة، لاحظت أمرًا غريبًا.
“لماذا لا يبقى بيرت معنا هنا في قلعة الشمال؟”
“حالته الجسدية حرجة. الشمال ليس مكانًا مناسبًا للتعافي. الجنوب دافئ وأكثر ملاءمة لعلاجه.”
… سيرحل إذًا. سيبتعد عن كاردين، وسيعود الأخير إلى وحدته المعتادة.
“هل أنت بخير حقًا، دوق؟”
“بشأن ماذا؟”
“حين يغادر عمّك… ستبقى وحيدًا مجددًا.”
مجرد قول كلمة وحيد كاد يجعلني أجهش بالبكاء.
لِمَ أنا عاطفية هكذا اليوم؟! لماذا أهتم كثيرًا لما يشعر به كاردين؟!
شعرت بكفه توضع فوق رأسي برفق، ثم ابتسم لي بلطف.
“لماذا تظنين أنني سأبقى وحيدًا؟ لديّ فرسان أوفياء… ولديّ رفيقتي بجانبي.”
التعليقات لهذا الفصل " 20"