طَق… طَق…
صرير عظميّ اخترق الصمت، إذ شعرت وكأن مفاصل جسدي تلتوي، وعظامي تنمو في لحظة، تجرني نحو ألمٍ لا يُحتمل.
كان الأمر كما لو أن كل عضلة في جسدي تتمزق إلى أشلاء، وكأن النيران تمزقني من الداخل.
من جسدي تصاعد ضبابٌ أبيض نقي، لفّني للحظة، ثم تلاشى كالحلم.
نظرت إلى الأسفل بذهولٍ غائم… الفراء الأبيض الكثيف الذي كان يغطي جسدي قد اختفى، وبدلاً منه ظهرت بشرة ناعمة كالعاج المصقول.
اختفت ذيولي الكثيفة، لتظهر ساقان طويلتان رشيقتان.
ظهري استقام، وشعري الفضي الطويل انسدل حولي كستارٍ من ضوء القمر.
ما كان في السابق كفوفًا صغيرة مكسوّة بالوبر، أصبح الآن يدًا بيضاء نحيلة.
‘أنا… تحوّلت إلى بشرية؟!’
كنت أظن أنني – باعتباري جرواً صغيرًا – إن تحوّلت فسأكون طفلة بشرية… لكن المفاجأة أنني أمتلك الآن جسد امرأة ناضجة!
“شوشو… لا يمكن!”
حين التفتُّ ببطء، كانت نظرات كاردين مسمّرةً عليّ، وقد بدا الذهول يرتسم على وجهه بوضوح.
وفور أن التقت نظراتنا، أدار رأسه بسرعة محرجًا.
ثم، وهو ما يزال يشيح بوجهه عني، لفّ كتفيّ بلطف بملاءة السرير.
آه! لم أدرك حتى تلك اللحظة أنني بلا أي قطعة ملابس!
احمرّ وجهي على الفور كجمرٍ مشتعل، وصحت بخجلٍ مرعوب، ثم لففت جسدي تمامًا بالملاءة ودفنت وجهي المشتعل بين طيّاتها.
حتى كاردين بدا في حالة ارتباك. مرّر يده بين خصلات شعره الأمامية وهو يتنهّد بخفة.
“يبدو أنكِ تحوّلت إلى بشرية بعد أن امتصصتِ بعضًا من طاقتي السحرية.”
ما الذي ينبغي عليّ فعله الآن؟
كان رأسي ممتلئًا ومضطربًا بالخجل، فاكتفيت بتحريك أصابع قدميّ بخجلٍ أسفل الغطاء، وأنا أدفن وجهي في الملاءة.
“شوشو، هل أنتِ بخير؟”
اقتربت يدٌ كبيرة من رأسي.
كاردين مدّ يده ليجمع خصلات شعري الفضي المنسدلة، ودفعها برفق خلف أذني. لم أستطع مقاومة شعور الدغدغة، فارتعش كتفيّ لا إراديًا.
دقّ… دقّ… دقّ…
قلبي بدأ ينبض كطبول الحرب، مرتبكًا لا يعرف السكون. ما هذا الارتجاف؟!
“انظري إليّ، شوشو.”
صوته العميق الدافئ سحبني دون إرادة، فرفعت رأسي نحوه… كانت عيناه تبتسمان بحنان نادر.
خصلات شعري كانت تنساب بين أصابعه وتلمع بنورٍ ناعم كأشعة القمر.
ثم امتدت يده لتحتضن وجنتيّ برفق.
ويا للعادة… ما إن شعرت براحة كفّه الحنونة على وجهي، حتى حككت خديّ بكفه كما كنت أفعل حين كنت جرواً صغيرًا.
فجأة، شدّ كاردين جسده، كأنه تجمّد في مكانه.
‘هل فعلت شيئًا خطأ؟’
“أنتِ حقًا… تجعلينني…”
صوته خرج كهمسةٍ مخنوقة بين أسنانه، أشبه بتنهيدة يائسة.
انزلقت أصابعه من خديّ ولامست أذني برفق، ثم اقترب أكثر وهمس قربها بصوتٍ خافت:
“ناديني باسمي.”
كأنني مُنَوّمة، فتحت فمي ببطء بينما أحدّق فيه…
لكن… قبل أن أتمكّن من التلفظ باسمه، تلاشت الرؤية من أمامي، واهتزّ العالم من حولي.
أطرافي فقدت قوتها، وشعرت كأنني أنهار من الداخل.
“آه…؟!”
جسدي البشري بدأ ينكمش ويتقلّص بسرعة جنونية، وفي غمضة عين… عدت جرواً صغيرًا من جديد.
أخرجت رأسي من تحت الملاءة بحذر.
يا إلهي… هل جننت؟ لم يمضِ حتى دقيقة كاملة!
ضربت الملاءة الصغيرة بأطرافي الغاضبة.
كيف انتهى بي المطاف هكذا بعد كل هذا الجهد؟!
نفخت خدّي في انزعاج، وإذا بصوت ضحكة مكبوتة يأتي من خلفي.
استدرت بسرعة لأرى كاردين يضع يده على فمه بينما كتفيه يرتجفان من شدة الضحك.
حدّقت فيه بنظرةٍ حادة.
“هل… تضحك عليّ؟”
حين نطقت الكلمات الأولى… ارتجف كل شيء من حولي
في لحظةٍ خاطفة، تلاقت نظراتي مع كاردين، كما لو أن الهواء نفسه قد توقف بيننا.
لقد… لقد نطقت للتو؟
تلاطمت أعيننا في الفضاء الفاصل، وكانت نظرات كاردين تتأرجح بين الذهول والارتباك.
“هل… هل تكلّمتِ؟”
“شوشو… هل تستطيعين حقًا التحدث كبني البشر؟”
تدلى فكي من الدهشة والانبهار.
“كياااه؟! حقًا! أستطيع أن أتكلم! أستطيع الكلام!”
اندفعت أقفز على السرير كفراشةٍ مرحة، أغمر نفسي بالدهشة والفرح، وكاردين ما يزال يحدّق بي بذات النظرة المصدومة.
لكنني لم أفهم كيف حدث ذلك.
كيف لي أن أتكلم كبشر… هكذا فجأة؟!
حتى إن كنت مخلوقًا من فصيلة الثعلب البشري، فهذا التحول المفاجئ يبعث على القلق.
أيمكن أن يكون خللًا في الجسد؟ اضطرابًا خفيًا؟ مرضًا يوشك على الظهور؟
اجتاحتني المخاوف، وأخذت أدور على السرير في دوائرٍ صغيرة.
“ه.. ها؟ ما هذا؟ لماذا بدأت أتكلم فجأة؟ أهذا طبيعي؟ أم أن هناك خطبًا ما؟”
“شوشو، اهدئي. لا بأس. كل شيء سيكون بخير.”
أمسكني كاردين بكلتا يديه، ناظرًا إليّ بوجهٍ تعلوه الجدية.
“حين امتصصتِ جزءًا من طاقتي السحرية قبل قليل، تحوّلتِ مؤقتًا إلى بشرية.”
“نعم، أتذكر.”
“على ما يبدو، ذلك منحكِ القدرة على الكلام كبشر.”
“كـ.. كياااه؟”
توقفت أنفاسي لوهلة، وفي رأسي لمعت فكرة كالصاعقة.
إذًا… كلما استهلكتُ طاقة سحرية أكثر، استطعت التحوّل إلى بشر لفترةٍ أطول؟!
يا إلهي!
لا حاجة للبحث عن أعشابٍ مقدّسة أو دماء تنينٍ نادر…
المصدر المعجزة… طاقة كاردين السحرية تقف أمامي الآن!
رفعت بصري إليه ببطء.
ولو رآني أحد الآن، لرآني كمفترسة تتربص بفريستها الجاهلة.
ابتسمت بخبث داخلي…
من الآن فصاعدًا، الشرير هذا… صار وجبتي القادمة.
“إذًا، بناءً على استنتاجي، أعتقد أننا بحاجة إلى معالجة الأمر بدقة و…”
“كياااه؟”
أوه، يا للمصيبة!
كنت منهمكة في أفكاري السوداء، ولم أنتبه لكلمةٍ واحدة قالها.
أدّيت دور البريئة، وأملت رأسي متظاهرةً بعدم الفهم، في حين زفر كاردين ببطء ثم ربت على ظهري بلطف.
“سأأمر رون بالتحقيق في ظاهرة تحوّلكِ إلى بشر ونطقكِ بالكلام. وحتى تتضح الصورة تمامًا… يمنع عليكِ امتصاص طاقتي السحرية.”
“مـ.. ماذا؟! لِماذا؟!”
ما هذا القرار الكارثي؟!
أخيرًا عثرت على مفتاح التحوّل، والآن تُمنع عني الطاقة؟!
بل كنت أفكر أن ألتهمها يوميًا دون توقف!
“ما من معلومات كافية حول تأثير طاقتي على جسدكِ. علينا أن نضع احتمال الآثار الجانبية في الحسبان… لحظة، شوشو.”
“هـ.. ها؟!”
“أنتِ تسيلين لعابكِ.”
أوه، لا…
نظرتُ إلى الأسفل فإذا بلعابي يتساقط على الملاءة!
ردّ فعل تلقائي ما إن فكرت في امتصاص طاقته مجددًا.
بغريزةٍ مذعورة، رفعت ذيلي بتوتر.
“ه.. هذا فقط لأني… كنت أفكر في اللحم المقدد الذي لم أُكمله بالأمس!”
“بما أنه وقت الإفطار، لا غرابة. فلنترك هذا الحديث لاحقًا. أولًا، عليكِ تناول طعامك.”
“كياااه.”
ضممت كفّي الأماميتين، وأومأت برأسي بخضوع.
حرماني من الطاقة جعل حتى ذيلي يتهدّل حزنًا.
نظر إليّ كاردين بعينٍ يملؤها العطف، ثم ربت بلطف على رأسي.
“لا تقلقي كثيرًا. سلامتك هي الأولوية القصوى.”
يبدو أنه يعتقد أنني قلقة بشأن الأعراض الجانبية…
بينما في الحقيقة، أفكر فقط كيف أستطيع امتصاص طاقته أكثر.
لكن حسنًا، سأسايره مؤقتًا…
سعلتُ بخفة، وقررت أن أكون مؤدبة قدر الإمكان في كلامي.
فقد اعتدتُ على مناداته في داخلي فقط، لكن الآن وقد نطقت، فلا بد أن أستخدم ألقاب الاحترام.
فهو في النهاية دوق قلعة الشمال…
“سيدي الدوق… شكرًا لك. لأنك أنقذتني من الغرق في الماء قبل قليل.”
قلت جملتي بنبرة واضحة، وأنا أحدّق في عينيه بلا تردّد.
للحظة، تجمّد مكانه مذهولًا، ثم رفع يده ليغطي وجهه وهو يزيح خصلاته للخلف.
آه… أذناه قد احمرّتا قليلًا.
أيمكن… أنه أحبّ كلامي؟!
فورًا، اشتعلت في داخلي نيران الدعابة، وابتسمت بمكر صغير.
“سيدي الدوق؟”
“هاه… شوشو، هذا يكفي. أظنني بحاجة إلى وقتٍ للتأقلم مع حديثكِ.”
ربت على رأسي مجددًا ثم نهض واقفًا.
“سأطلب من بيتي أن تجلب لك الحساء. ارتاحي قليلًا.”
“حسنًا.”
في تلك اللحظة، دوّى صوت الطرق على باب الغرفة، ودخل مايلد وبيتي
“سيدي الدوق، وضعنا المعالج الطبي بانتظاركم عند الباب.”
وما إن رأيتهما، قفزت من السرير فرحةً.
“أوه! إنه السيد المساعد وبيتي!”
خرجت الألقاب من فمي بسلاسةٍ غريبة.
تجمّد مايلد وبيتي في مكانهما فور سماع صوتي.
مايلد حدّق بي مشدوهًا كأنه لا يصدّق.
“دوق… هل كانت السيدة شوشو… هي من تكلمت الآن؟”
تقدّمت نحوه بخطواتٍ خفيفة، وحرّكت ذيلي بلطف.
“مرحبًا، سيّدي المساعد.”
مجرد تحية بسيطة… لكن عيني مايلد اغرورقت بالدموع من التأثر.
“يا إلهي… شكرًا لك. أن أتلقّى تحيةً من السيدة شوشو… لن أنسى هذا اليوم طوال حياتي.”
“هاه؟ معذرة؟”
بل تجاوز التأثر حدوده، وجثا على ركبتيه مستعدًا للصلاة امتنانًا.
تحدّث كاردين ببرود وهو يراقب الموقف.
“لا حاجة للمعالج الطبي. لحسن الحظ، استقرّت حالتها.”
“هذا يبعث على الطمأنينة، سيدي.”
تنفّس مايلد الصعداء وقد زال القلق من صدره.
“مايلد، استدعِ القائد بورك ورون سنعقد اجتماعًا عاجلًا.”
في هذا الوقت من الليل؟ اجتماع طارئ؟
أليس هذا استغلالًا مفرطًا للموظفين؟
رمقته بنظرةٍ مصدومة، لكن وجهه كان قاسيًا كالحجر.
لماذا هو غاضب مجددًا؟ ما الذي أزعجه هذه المرة؟
لوّح لبيتي، التي ما زالت مصدومة في مكانها.
“بيتي، اهتمي بإعداد طعام شوشو.”
“نعم؟ فـ… فهمت، سيدي.”
رفعتني بيتي بين ذراعيها بسرعة، وانطلقت بي نحو صالة الجلوس المتّصلة بغرفتي.
أخرجت رأسي بهدوء ونظرت إلى الخلف.
كان كاردين يتحدّث مع مايلد بنظراتٍ ثقيلة، وفجأة… استدار ونظر إليّ مباشرةً.
عيناه، بلونهما العميق كلُجج البحر، اخترقتني كسهمٍ صامت.
هل اكتشف أنني كنت أتسلل بالنظر؟
انكمشت خجلًا، وانزويت داخل حضن بيتي، محاولةً أن أختفي من نظره كليًا.
التعليقات لهذا الفصل " 12"