اخترق برد الشتاء العظام وارتطم بجسدي بأكمله.
ما إن سقطت في الماء، حتى بدأت أطرافي تتحرك غريزيًا. وبصعوبة، استطعت أن أطفو فوق سطح الماء القصير بأقدامي الصغيرة المتخبطة.
توقّف كلب الصيد، كما توقعت، أمام حافة البركة. حدّق فيّ وهو يزمجر بصوت منخفض، عينيه لا تفارقاني.
راح يدور حول حافة الماء، مترقّبًا خروجي، وكأنّه صيّاد ينتظر فريسته أن تخطئ.
“كييينغ، كيينغ… (لماذا لا ترحل؟! أرجوك، فقط ابتعد!)”
أخذت أسبح بعنف، محركةً ساقيّ الصغيرتين في محاولة للهرب.
كلما لامس الماء البارد فروي، ارتجف جسدي بالكامل. صار الفرو أثقل كلما امتص المزيد من الماء.
مع كل محاولة للسباحة، ازدادت أنفاسي اضطرابًا، وقواي تلاشت تدريجيًا. وابتلعت الماء أكثر من مرة، عاجزة عن تثبيت توازني.
“كيييينغ… (لا أستطيع… لا أستطيع التنفس. أرجوكم، أنقذوني…)”
بدأ جسدي يثقل أكثر، وقواي تنهار. يا للعبث… هل هذه نهايتي؟
تشببب!
في تلك اللحظة، انشق سطح الماء فجأة، وقفز أحدهم إلى البحيرة.
كل ما شعرت به بعدها هو يدٌ دافئة تحتضنني… ثم أظلم كل شيء.
شعرت وكأن جسدي يغوص عميقًا.
كان أمرًا غريبًا… ألم يتم إنقاذي؟ لماذا لا أزال أسمع خرير الماء في أذني وكأنني غارقة؟
لم يكن المكان الذي وجدت نفسي فيه غرفة، بل عالم أسود عميق، لا يملؤه سوى تماوجات ماء داكنة وصمت قاتل.
كنت ممددة في قاع البركة، منكمشة على نفسي.
لا أسماك تسبح، ولا أعشاب بحرية تتحرك، فقط قاع ساكن، بارد، موحش.
عندما رفعت رأسي نحو السطح، رأيت الماء يتماوج باستمرار.
كان سطح الماء المضطرب يشبه شاشة تلفاز قديم معطّل، تومض باللون الأسود، ثم بدأت صورة مألوفة تظهر على تلك الشاشة.
صورة ثعلب صغير أبيض واقف على ممر المشاة.
وأنا… أقفز نحوه دون تردد لإنقاذه.
آه… هذه آخر ذكرياتي قبل أن أتقمّص هذا الجسد.
ثم تلاشت الصورة، وظهرت أنا، مستلقية في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها المترين.
كانت تلك الغرفة الضيقة الرطبة، هي ملاذي الوحيد.
بعد أن فشل والداي في إدارة المطعم، غرقنا في الديون وتفرّقنا.
عملت بدوام جزئي بينما أدرس، لكن لم يكن هناك بصيص أمل في الأفق.
كنت أسير داخل نفق مظلم، أجرجر نفسي للاستمرار.
في ذلك اليوم، خرجت لألحق بعملي.
لم يكن لدي المال لتسديد رسوم الفصل الدراسي التالي، أو حتى إيجار الغرفة. وكان هاتفي مفصولًا بسبب تراكم الفواتير.
فنجان قهوة مع صديق صار ترفًا لا يمكن تحمّله.
وعندما وقفت أنتظر الضوء الأخضر عند ممر المشاة…
شعرت بأن الخيط الذي كنت أتشبث به بكل قواي انقطع فجأة.
(لماذا عليّ أن أعيش بهذه الطريقة اليائسة؟)
كان الإغراء بالتخلي عن كل شيء قويًا… حلوًا ومُهلكًا في آنٍ واحد.
وفي تلك اللحظة، رأيت الثعلب الصغير على الممر.
اعتقدت أنني أتوهم، أنني فقدت صوابي.
لكن فروه الأبيض النقي وعيونه الزرقاء التي تشبه المحيط، كانت تنظر نحوي مباشرة.
كان ضائعًا في عالم لا ينتمي إليه، تمامًا مثلي.
أردت إنقاذه…
لا، لم يكن الأمر كذلك.
الحقيقة أنني كنت أرغب في إنقاذ نفسي… لأنه لم يأتِ أحد لإنقاذي يومًا.
ومن دون تفكير، قفزت.
حين ضممته إلى صدري، غمرني ضوء مبهر لا أعرف مصدره، ولا إلى أين سيأخذني.
حين فتحت عيناي مجددًا، كنت دافئة.
أمام ناظري اشتعلت نار المخيم، ولفّ جسدي منشفة كبيرة.
كنت مستلقية على ساقي أحدهم… لا، على ركبة كاردين.
لقد جفّ فروي، وأصبح ناعمًا بعدما كان مبتلًا تمامًا.
رفعت رأسي لأراه نائمًا، عينيه مغمضتين.
هل كان يعتني بي حتى غلبه النوم؟
كنت لا أزال أشعر بالدوار وثقل الجسد… ربما من السباحة في الماء البارد.
وفجأة، فتح كاردين عينيه بسرعة، وبحث بنظره عني ليتأكد أنني بخير.
زفر بارتياح، ثم مد يده ليربت رأسي بلطف.
“لو تأخرت لحظة واحدة فقط… كان سيقع ما لا يُحمد عقباه.”
رغم هدوئه الظاهري، إلا أن يده التي لامست عنقي كانت ترتجف بخفّة.
(يا إلهي… لقد كان قلقًا علي حقًا…)
كانت تفوح منه رائحة الماء العفن، ما جعلني أتساءل…
(لمَ لم يرسل أحد رجاله؟ لماذا أنقذني بنفسه؟)
رغم أنني بالكاد فتحت عيناي، كانت حرارة جسدي تتصاعد بشكل مخيف.
دق… دق… دق…
دقات قلبي تخبط في أذني بعنف.
(ما الذي يحدث؟ لماذا جسدي يشعر بهذا الشكل؟)
“شوشو! هل أنت بخير؟!”
وُضِعَت منشفة باردة على جبهتي. كاردين كان يمسح جسدي المشتعل بالحرارة بعناية.
برودة القماش خففت الحمى قليلًا، لكن سرعان ما عادت موجة الحرارة كعاصفة، تسلب أنفاسي.
حين بدأت أتأوه من الألم، سمعت كاردين يتحرّك فجأة.
“أحضروا الطبيب فورًا! روندو، حالًا!”
تعالت الأصوات من حولي، والفوضى عمّت المكان.
ثم، شعرت بجسدي يُرفَع عن الأرض. لقد حملني كاردين بذراعيه.
حاولت التملص، لكن لم يكن في جسدي قوة تُذكر. لم أقدر سوى على الارتعاش.
مدّ يده وربت على رأسي بحنان.
كانت يده الباردة تلامس جبهتي المحترقة، فأشعرتني بالسكينة والارتخاء.
من خلال بصري المشوش، رأيت ملامحه بوضوح، وقد امتلأت بالقلق والأسى.
“شوشو، تماسكِ… فقط القليل بعد.”
“أه…غ…”
بشق الأنفس فتحت عيناي مجددًا. رأيت أمامي معصم كاردين.
تحديدًا، القوة التي تنبض تحته بشكل غريب.
أتذكّر، في أول لقاء لي معه، عندما عضضت يده دون قصد، أحسست بقوة غامضة تتدفق نحوي.
قال لي حينها إنني أملك القدرة على تهدئة سحره، لكنه كان مخطئًا.
الآن، عرفت الحقيقة.
أنا لا يمكنني أن أكون بديلة أوليفيا، البطلة الأصلية.
كانت أوليفيا الحقيقية هي من تستطيع علاج سحر كاردين.
أما أنا… فكل ما أريده هو التهام تلك القوة.
رائحة سحره كانت حلوة بشكل لا يُحتمل… شهية بدرجة مرعبة.
مددت لساني دون وعي، أزدرد ريقي من الشوق.
(كاردين… لماذا تشتمّ بهذه الروعة؟)
اشتعل دمي، وبدأ قلبي ينبض بجنون. شعرت بعطش لا يُروى. حريق يشتعل في حلقي.
ولإخماد هذا اللهيب…
…عليّ أن أتناول السحر.
فتحت فمي، وأبرزت أنيابي.
وبدافع غريزي بحت، غرستها في معصم كاردين دون تردد.
“كااااه!”
لابد أنه شعر بالألم… لكنه لم يتأوّه، بل عض شفتيه بصمت. ارتعشت رموشه الطويلة المرتخية.
وفجأة، تمنّيت لو لمست تلك الشفاه… (WTF?)
حين اخترقت أنيابي جلده، تدفقت طاقة هائلة من عروقه إلى داخلي.
(آه… هذا السحر… كم هو لذيذ…)
كان لذيذًا إلى حد الإدمان، دافئًا ومليئًا بالقوة.
ومع تدفقه إلى جسدي، بدأت دمي يغلي، وأعصابي تنتفض كالإبر، كأن قلبي يُثقب من الداخل.
دق… دق… دق… امتلأت روحي بقوة هائلة على وشك الانفجار.
كل خلية فيّ باتت تتوق لكاردين، كل إحساسي مشبع به.
شرارة انفجرت في عقلي.
القوة التي امتصصتها كانت غير مستقرة، تتراقص على حافة الانهيار.
“شوشو! استفيقي!”
صرخ كاردين وهو يحتضنني، لكن صوته بدا بعيدًا جدًا.
قلبي كاد ينفجر من شدّة النبض، وعروقي كانت تنتفخ بلا توقف.
(ما الذي يحدث… لجسدي؟)
التعليقات لهذا الفصل " 11"