استمتعوا
وهكذا،جلس الشقيقان متقاربين في حديقة أنجيلا الصغيرة.
بالطبع، كان رايان متجمّدًا كالصخرة.
لقد تذرّع بأن لديه عملًا ما، ثم وجد نفسه مجبرًا على مشاركة ذلك العمل مع شقيقه.
لم يُتَح له حتّى مجال للمراوغة، فوجد نفسه منقادًا على مضض… ومع ذلك، كان رايان غاضبًا من شقيقه في هذه اللحظة.
‘…لن أتفوّه بكلمة واحدة.’
ليكون صريحًا، فقد تلاشت مشاعر الضيق التي كانت تملؤه إلى حدٍّ كبير الآن.
كان شقيقه قد بنى كوخًا من الخشب ليكون قريبًا منه،وذهب للصيد من أجله.
رغم انقطاع الحديث بينهما، إلا أنّ رايان كان يشعر في قرارة نفسه بمدى اهتمام فيليكس به.
لكنّ فتىً في الثانية عشرة من عمره لم يكن يعرف…
كيف يُصلح علاقة قطعها بنفسه.
“…….”
حين كان رايان يغرس جذور السبانخ في التراب بصمت…
قال فيليكس، الذي كان جاثيًا بجسده الضخم: “هل زرعتها لتأكلها لاحقًا؟”
أجاب رايان،
وقد شعر بالحرج فخرج صوته متجهّمًا دون قصد.
“أجل، ولماذا؟”
“يبدو أنّ لديك ذوقًا جيّدًا، لا أدري عمّن ورثتَه. هذه السبانخ التي جلبتها تنمو في الشتاء، لذا ستتمكّن من أكلها قريبًا.”
“…وكيف عرفتَ هذا؟”
“قبل أن آتي إلى هنا، درستُ كثيرًا عن غابة الظلال. هناك عدد لا بأس به من النباتات الصالحة للأكل فيها، ليس السبانخ فحسب.”
“…حقًّا؟”
نظر رايان إلى فيليكس دون قصد.
لكنّه ما لبث أن التفت سريعًا وقد صُدم من ردّة فعله، وكأنّه تفاجأ بنفسه.
لكنّها كانت إشارة جيّدة.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه فيليكس.
“لهذا، ما رأيك أن نذهب معًا لنجمع النباتات قريبًا؟”
“لا، شكرًا.”
“همم؟”
“…أقصد، افعل ما تشاء.”
‘يا له من فتى ظريف…من أين حصل على كل هذه اللطافة.!؟’
“بما أنّ الأمر كذلك، فلنذهب غدًا فورًا.”
“غدًا؟! بحقّك؟!”
“أو بعد غد إن أردت.”
“كفى! سنذهب غدًا وانتهى!”
وسط الحديقة الجافّة، أخذ الحوار يسري بينهما على نحوٍ غير متوقّع.
وكان ذلك نجاحًا لا بأس به.
ضحك فيليكس، وقد بدا له شقيقه محرجًا بشكلٍ محبّب، ثم التفت دون قصد…
فرأى طفلةً تضغط وجهها عند النافذة، مشكّلةً فمها على هيئة منقار بطة، وهي تحدّق نحوه.
‘قُبلة!’
ترى، هل كانت تُراقبهما طوال الوقت؟
كانت شفتاها المضغوطتان تهمهم بشيء، لكنّ فيليكس استطاع أن يفهم تمامًا أنّها تطلب “قبلة”.
‘أن يصل الأمر لهذا الحدّ من التعلّق بالقبلات…’
‘لا بدّ أنّ الأميرة دلّلتها كثيرًا…’
رغم أنّ فيليكس شعر بأنّ تَعَلُّق الطفلة بالقبلات بات يُثقل كاهله قليلًا، إلا أنّه شعر أيضًا بالحاجة إلى أن يُظهر مشاعره أكثر.
فهو لم يُدلّل أخاه بعد كما ينبغي.
‘تمّ الاستلام يا لولو!’
أجاب فيليكس بحركة شفتيه، وهو يومئ برأسه موافقًا.
كان رايان قد ارتاح على ما يبدو، فانشغل مجدّدًا بغرس السبانخ بتركيز.
“رايان.”
“ماذا؟”
“في الحقيقة… هناك شرط مقابل أن نذهب معًا غدًا.”
“…لا تقل إنّ الشرط هو أن نعود إلى قصر الدوق أو شيء من هذا القبيل…”
“دعني أحتضنك.”
“ماذااا؟!”
فتح رايان فمه مصعوقًا وكأنّه سمع ما لا يُصدّق.
ثم ما لبث أن صرخ مرةً أخرى وقد بدا عليه الذهول.
“تـ… تعانقني؟ هل جُننت؟!”
“لقد عانقتك أيضًا عندما التقينا عند البحيرة السوداء. لا بأس أن يحتضن الأخ شقيقه.”
“لا! لا أريد! لماذا يجب أن…!”
“إذًا، هل أضمّك أنا؟”
“آآآااه!!”
وبينما كان فيليكس يعانقه قسرًا، كانت وجنتا رايان تُسحقان على صدره، فبدأ رايان يصدر أنينًا مزعجًا.
“مقرف! ابتعد عنّي! دعني وشأني!”
“لقد اغتسلتُ، فلا شيء مقرف. ومن الآن فصاعدًا… لن أذهب لأيّ مكان من دونك.”
“ما هذا الهراء… يا إلهي!”
بقي رايان محبوسًا في حضن فيليكس لبرهة، ثمّ بالكاد أفلت نفسه وهو يلهث.
صرخ بعدها بوجهٍ محمَرّ:
“الآن وقد احتضنتَني، فعليك غدًا أن تجد نباتات صالحة للأكل مئة بالمئة! إن لم تفعل… فلن يكون هناك أيّ عناق بعد اليوم!”
ثم أسرع إلى الباب الخلفي وأغلقه بشدّة.
كوواانغ-!
دوّى الصوت واهتزّ المكان، ثمّ خيّم الصمت.
لكن…
فُتح الباب مجدّدًا فجأة.
“اـ…الباب أغلق بقوّة بسبب الريح! أنا لم أفعل شيئًا!”
راح رايان يهمهم بكلمات متضاربة لا معنى لها، ثمّ تمتم بتردّد:
“…والأميرة جائعة، لذا لا تقم بأيّ تصرّفات غريبة وتعال بسرعة. لنتناول الطعام فحسب.”
تمتماته الغاضبة لم يكن من السهل تفسيرها، لكنّه هذه المرّة أغلق الباب بهدوء.
تمامًا كقلبه…
لم يُفتَح بالكامل، لكنّه على الأقل لم يُظهر عداءً.
“يطلب منّي أن آكل، هاه…”
بل إنّه كان قلقًا من أن يجوّع.
“لقد كبِر فعلًا… وبدأ يقلق على شقيقه.”
شعر فيليكس بدفءٍ ينتشر في صدره، ثمّ فتح الباب.
فرأى على الأرض أمامه شخصًا صغيرًا كان بانتظاره.
لقد نزلت لولو من النافذة بهدوء ودون أن يلحظها أحد.
“نجحتُ في التقرّب من رايان!”
“رائع!”
رفعت لولو قدميها على أطراف أصابعها ومدّت راحة يدها الصغيرة، فانخفض فيليكس على ركبتيه ولامس راحته براحتها.
“لولو.”
“نعم؟”
“أنتِ لا تفعلين سوى أشياء تستحقّ الشكر.”
من ذا الذي قال إنّ هذه الملاك وحش؟
تذكّر فيليكس غروره في الماضي.
والآن، بات مقتنعًا تمامًا أنّ هذه الصغيرة أكثر نضجًا منه.
فهي، رغم خوفها من عدائه الواضح، لم تتوقف عن محاولة التودّد إليه.
“هل يمكنني أن أضمّكِ؟”
خرج السؤال من فيليكس دون أن يشعر.
ولحسن الحظ، ارتسمت على شفتي لولو، التي اتّسعت عيناها بدهشة، ابتسامة تعلوها الترقّب.
“نعم!”
بمجرّد سماعه لموافقة الطفلة، رفعها فيليكس بحذر بين ذراعيه.
“لولو، هل تُحبّين القُبل على الخدّ؟”
لم يكن من عادته التصرّف بهذه الطريقة.
لكنّ عينيها المتألّقتين اللتين كانت تحدّقان به بشدّة جعلته يُسأل كأنّه مُسَيَّر.
“نعععععمم، ججججدًا أنا أحبّها! أعطني قبلة على الخدّ!”
هزّت الطفلة رأسها ثم أشارت إلى خدّها بأصابعها الصغيرة مرارًا.
فطبع فيليكس قبلة خفيفة على خدّها المستدير، الطريّ كالعجين.
“هل فعلتُها بالشكل الصحيح؟”
“هيهي، لقد حصلتُ على مديح!”
ضحكت الصغيرة بصوتٍ ناعم وهي بين ذراعيه.
لولو، كونها تنينًا وطفلةً عاديّة في آنٍ معًا، لم تكن تحمل أيّ ذنب.
بل على العكس، لقد غفرت له خطيئته.
لهذا، قرّر فيليكس أن يُطلق عليها اسم “ملاك”.
وبعد لحظات…
“هااام… على فكرة، لولو تشعر بالنعاس.”
ربّما حان وقت قيلولة النهار.
فتحت فمها الصغير بتثاؤب طويل، ثمّ غفت وهي في حضنه.
راحت أنفاسها الصغيرة تُسمَع بانتظام.
فمدّ فيليكس يده بحذر، ووضعها على السرير كي لا تستيقظ.
وبعد أن أنهى الموقف، عاد إلى المطبخ، حيث كانت أنجيلا تجلس وحدها.
“صاحبة السمو.”
“ها قد عدتَ؟ كنتُ على وشك أن أتناول الطعام، لكنّ الأخوين اختفيا، ولابد أنّ سلمندرنا الصغير نام. لقد بقيتُ وحدي لذا أشعر بالوحدة.”
“لكن بفضل لولو، أعتقد أنّ الأمور تحسّنت. على كلٍّ… أين ذهب رايان؟”
“قال إنّه لا يريد أن يرى وجهك، فأكل على عجل، ثم خرج يتجوّل.”
‘لا يزال يشعر بالحرج إذًا…’
لا بأس.
الوقت أمامهم طويل.
ابتسم فيليكس بهدوء، وجلس إلى المائدة.
لكن، بعدما اختفى الأطفال الصاخبون وبقي الكبار وحدهم، عادت التساؤلات التي كانت تختمر في نفسه.
“صاحبة السمو.”
“ماذا الآن؟ كُل قبل أن يبرد الطعام.”
“…في بنيڤرا، يقولون إنّ التنانين يجب أن تُباد.”
في الحقيقة، كان هذا حديثًا أراد أن يفتحه معها منذ زمن.
بنيڤرا…
دين مملكة ليديا الرسميّ، والاسم الذي يسمعه كلّ طفل في العاصمة منذ صغره كقصص الأطفال.
وكان فيليكس، بصفته من طبقة النبلاء العليا، ليس استثناءً.
فهو فارس، ومؤمنٌ مخلص، يُطيع دون تردّد كلمات المَلِك الحالي، داريشيه، الذي يُمثّل الحاكم على الأرض.
باستثناء ما حدث مع لولو هذه المرّة.
“…بصراحة، أنا في حيرة.”
شدّ على الشوكة بيده الخشنة.
“بحسب الكتاب المقدّس لبنيڤرا، فإنّ التنين شرٌّ يجب أن يهزمه نجمٌ صغير في المستقبل…”
“لن أقول لك شيئًا.”
قطعت أنجيلا كلامه بنبرة صارمة.
كانت تُحرّك شوكتها وهي تُحدّق به.
“أنا لست كأبي. لن أخدع أحدًا. كما أنّني لا أثق بك بعد لأُخبرك بكلّ شيء.”
عيناها الزرقاوان، المشابهتان تمامًا لعيني الملك الذي لطالما وثق به وتبِعه…
لكنّهما لم تكونا دافئتين ومحبّتين كما اعتاد رؤيتهما في وجهه.
“على كلّ حال، إن كنتَ تنوي البقاء هنا من أجل رايان، فستعرف عاجلًا أو آجلًا ما هو الملك الحقيقي الذي تخدمه.”
لكنّ فيليكس، وهو ينظر إلى عينيها الباردتين حدّ الصقيع، بدأ يُدرك شيئًا ما.
هذه المرأة لا تكذب.
بل ولا تحاول حتّى إخفاء أنّها تُخفي شيئًا.
“شكرًا على صراحتكِ.”
رغم أنّ الحوار كان قصيرًا، إلا أنّ فيليكس تعلّم منه الكثير.
هل يستحقّ الملك أن نحميه؟
هل يستحقّ أن نتّبعه؟
كان سؤالًا لطالما ردّده في نفسه كرئيس لعائلة فرسان…
وقد وجد إجابته منذ هجوم التنين.
الآن، سيُكرّس نفسه لحماية رايان.
وسيتبع لولو وأنجيلا، اللتين أنقذتاه.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: لينا.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 17"