قبضت سيلا على كمها بشدّة، حتى خُيّل أنّها ستمزّق القماش.
‘إذا شربه…!’
كادت الصرخة تعصف بشفتيها، لكنّها لم تستطع أن تُطلقها.
لم يكن مسموحًا لها أن تقول شيئًا، إذ إنّ مجرّد كلامها سيُعَدّ اعترافًا بمعرفتها بما يحويه ذلك الشاي.
“هذا الشاي.”
وضع كاليكس الكوب الذي لم يتبقَّ فيه إلا نصفه، وضاق بصره وهو يحدّق فيه.
“…مسموم.”
وما إن انطلقت كلمة ‘سمّ’، حتى تردّد الهمس المذعور في أنحاء القاعة.
حوّل كاليكس بصره شيئًا فشيئًا عن الكوب إلى سيلا، وانعكس وجهها المذعور في عينيه الصافيتين انعكاسًا كاملًا.
“ليزا، استدعِ كبير الخدم. وخذي كاليكس إلى الطبيب.”
“كما تأمرين.”
تحرّكت ليزا، التي كانت تنتظر بين الخادمات، بسرعة لتصطحب كاليكس بعيدًا.
‘سيكون بخير.’
في القصة الأصلية، كان كاليكس يملك مقاومةً لمعظم السموم.
وكان ميليان سمًّا ضعيفًا، فضلًا عن أنّ ليزا تملك الترياق، لذا لن يتضرّر.
رمقت سيلا المقعد الذي تركه كاليكس، ثم التفتت إلى الخادمات الواقفات.
“من هي الخادمة التي قدّمت الشاي؟”
“…….”
“إن كنتِ ترجين الرحمة، فهذا أوان الاعتراف.”
ارتجفت الخادمات عند تحذير سيلا الذي جاء ناعمًا في لفظه، حازمًا في معناه. وفجأة، جثت دانا على ركبتيها، وخفضت رأسها حتى لامس الأرض.
“لقد اقترفتُ ذنبًا جسيمًا!”
وكما كان مُرتّبًا، بدأت اعترافها.
“إنما فعلتُ ما أُمرتُ به، أرجو أن تُبقي على حياتي!”
“إذن، أخبريني—مَن الذي أمركِ بذلك؟”
“إنّها الماركيزة. أعطتني هذا، وأمرتني أن أضعه في شايكِ.”
ما إن نطقت دانا باسم الماركيزة، انقطع حتى الصوت الخافت للأنفاس المكبوتة، وخيّم صمت ثقيل على المكان، حتى بدا زقزقة الحشرات صاخبة على غير العادة.
وبعد صمت قصير، تناولت سيلا قارورة السمّ التي قدّمتها لها دانا.
“انستي سيلا…”
“آه.”
ارتجفت أناملها وهي تمسك بالقارورة، فسارعت إلى إخفاء الارتجاف بابتسامةٍ واهنة، كأنّها ستنهار في أية لحظة.
“أعتذر لأنّي أريكنّ مشهدًا كريهًا كهذا.”
ورؤية ابتسامتها المرهَقة جعلت الفتيات لا يجدن ما يفعلنه سوى عضّ شفاههنّ صامتات، عاجزات عن قول كلمة تعزية.
وفي تلك اللحظة، أسرع كبير الخدم من بعيد.
“ليزا أخبرتني بكل شيء. هل أنتِ بخير، سيّدتي؟”
“جسدي بخير. لكن… أن أسمع أنّ أمي حاولت أن تُلصق بي التهمة…”
انخفض رأسها، وصمتت كلماتها.
فهم كبير الخدم ألمها غير المنطوق، فقبض على قبضته واستغاث في صمت بالماركيز الراحل.
“أرجوكِ أن تخبريني بكل ما جرى.”
قصّت سيلا على كبير الخدم اعتراف دانا، وما إن أنهت كلامها حتى شحب وجهه الشاحب أصلًا أكثر فأكثر.
“لا بدّ من التحقيق للتأكّد من صدق اعتراف الخادمة. تفهمين ما أعني، أليس كذلك؟”
“نعم.”
انحنى كبير الخدم العجوز باحترام، ثم انصرف سريعًا. جمع الخدم والفرسان تحت لواء الأسرة، ثم توجّه إلى جناح كلارا.
“كبير الخدم، ما معنى هذا الاقتحام المفاجئ؟”
قبل لحظات من دخوله، كانت كلارا تستمتع بوقتها مع الشاي بوجه بشوش، تنتظر في سرور ما سيجري. لكنّ حاجبيها انقبضا بامتعاض حين قُطع صفوها.
“سيّدتي، حدثت ضوضاء بالخارج. أرجو المعذرة.”
“ضوضاء؟”
أرهفت كلارا سمعها.
“يبدو أنّ سمًّا وُجد في شاي الانسة الشابّة.”
“أحقًّا؟”
نهضت كلارا، تكبح ابتسامةً كادت تتسلّل إلى شفتيها.
“إن كان كذلك، فلمَ أتيتَ إليّ بدلًا من الذهاب إلى هناك؟ هل سيلا بخير؟”
لم تكن بخير. فبعد تناولها سمًّا قويًّا، كان الأجدر أن تكون فاقدة الوعي. الأفضل ألّا تصحو مجددًا، لكن من أجل ليليا كان ينبغي إعطاؤها الترياق. أما عواقب ذلك على حياتها، فلا تعنيها البتّة.
“الانسة الشابّة لم تُصب بأذى.”
“…أحقًّا؟”
لم يكن ينبغي أن تكون بخير. فتراخت شفتا كلارا التي حاولت أن تثبّتهما على الحياد.
“نعم. لقد شرب الدوق إيكاروس الشاي بدلًا منها، فلم يصل السمّ إلى الانسة الشابّة.”
“ماذا؟! ولماذا؟! لِمَ شربه؟ وهل هو بخير؟”
سألت كلارا في جزع.
‘سيلا لم تشرب السمّ—لكن الدوق كاليكس شربه؟’
ارتجفت أصابعها بعنف وهي تمسك بطرف ثوبها.
وتوالت على ذهنها في لحظة أفكارٌ قاتمة؛ ماذا لو أصيب كاليكس بعاهةٍ دائمة؟ ماذا لو نشب صراع لا يُجبر بينها وبين أسرة إيكاروس؟ وماذا لو واجهت عواقب غير متوقّعة؟
شحب وجهها من فرط الهواجس،
“لابد أنّ الطبيب فحصه الآن. كما أنّ من سمّم شاي الانسة اعترف بالفعل.”
“…يا لها من راحة.”
تنفّست كلارا الصعداء، وأيقنت أنّ دانا قد اعترفت.
‘ليس ثمّة دليل يربطني بذلك على أيّ حال.’
بل لعلّ الأمر سينقلب لمصلحتها.
إذ ستشي دانا زورًا بأنّ سيلا هي الفاعلة، وستُزرع الأدلّة في جناحها.
وربما يفترق كاليكس وسيلا بسبب ذلك.
ارتسمت ابتسامة على وجه كلارا وهي تغوص في ذلك التصوّر.
“ومن قالت دانا انه الجاني؟”
لم يُجب كبير الخدم حالًا.
“هذا لا يكفي. عليّ أن أتأكّد بنفسي من سلامة الدوق.”
كادت كلارا تخرج، لكنّها تجمّدت حين رأت الجنود والخدم مصطفّين خلف الباب. ارتعدت فجأة، وأدركت أنّ الأحداث تتّجه اتّجاهًا آخر تمامًا.
“لقد شهدت دانا بأنّها عملت بأمركِ، سيّدتي. ولذا وجب أن نفتّش المكان. وفي هذه الأثناء نرجو أن تنتظري في غرفة أخرى.”
“…….”
انفرجت شفتاها في ذهول.
‘دانا… خانتني؟’
لو كانت صاحبة ضمير، لكان الأمر مفهومًا. لكن دانا كانت من ذوات المصلحة. هنالك خطب، لكن لم يتسنَّ لها التفكير طويلًا، إذ سرع الغضب يخنق حنجرتها.
“أتظنّونني جانية لمجرّد وشاية خادمة وضيعة؟”
“إن بدا الأمر كذلك، فأنا أعتذر. لكن لا بدّ من التحقّق من صدق أقوالها.”
بقي كبير الخدم وقورًا، لكن موقفه الصلب أفصح عن عزمه.
شدّت كلارا ثوبها حتى ارتجفت أصابعها، ثم نظرت إلى شارل.
“…….”
فأومأ شارل فهمًا.
“حسنًا. بالنظر إلى خطورة الموقف، سأمتثل لما يطلبه كبير الخدم.”
“أقدّر تفهّمكِ، سيّدتي.”
رفعت كلارا رأسها بكبرياء. فالضعف في مثل هذا الموضع لا يساوي إلا اعترافًا بالذنب. كان لزامًا عليها أن تُظهر اتّزانًا أبهى من ذي قبل.
‘لا أثر في غرفتي، سأكون بخير.’
إذ إنّها لم تفعل سوى أمر دانا بتسميم الشاي واختلاق اعتراف، أما الأدلة الحقيقيّة فقد أُخفيت في جناح سيلا على يد شارل.
‘حالما أبرئ نفسي، سأجرّهما معًا إلى الهاوية.’
وبينما كانت تلوّح بمروحيتها لتطفئ جمر الغضب، جلست تنتظر عودة كبير الخدم. لكن الوقت طال، والباب ظلّ موصدًا.
عبست وهي تتقدّم بخطى صارمة إلى الباب.
“ألم تنتهوا بعد؟”
“…….”
لم يأتِ رد.
“هل من أحد هنا؟”
شدّت مقبض الباب بكل قوّتها، فلم تسمع سوى صوت ثقيل يحجبه. وإذ لُويت كرامتها—حتى من أتباعها—اشتعل غضبها أكثر.
في البداية تماسكت وجلست، لكنها ما لبثت بعد ساعة من الانتظار أن ثارت تضرب الباب بقبضتها.
“ألا تسمعونني؟ أحضروا كبير الخدم حالًا! كبير الخدم!”
وبعد أن أضناها الصياح والطرق، انهارت في مقعدها. عندها انفتح الباب بصرير.
“كبير الخدم!”
قفزت واقفة، وانبعث الغضب من أعماقها مجددًا. لكن الداخل لم يكن كبير الخدم.
إذ كُتب فيها بوضوح تاريخ شراء السمّ، وأنّه لم يكن ميليان الضعيف، بل ماليان الفتّاك، وكان اسمها هي مكتوبًا دون لبس.
“هذا مزيّف! سيلا—نعم، سيلا هي من زرعته لتلصق بي التهمة!”
“تنهد، أما زلتِ تلومين سيلا؟”
انتزع الماركيز الأوراق منها بامتعاض، وضغط على جبينه بأصابعه وهو يدير لها ظهره.
‘سيلا… سيلا… سيلا…!’
ضغط بأصابعه على جبهته المقطّبة، وأدار ظهره تمامًا لكلارا.
في الماضي، كان يبذل جهدًا ليستمع، ولو قليلًا – أمّا الآن فلم يَعُد يرغب في سماع كلمةٍ واحدةٍ منها.
خرج عاصفًا، فأسرعت تلحقه، لكن الباب أُغلق في وجهها ببرود.
“اتركوها حتى تهدأ.”
“أمرك.”
“لا! لا تفعلوا!”
ضربت الباب بقبضتها حتى ارتجف، وصرخت متوسّلة إلى الماركيز الذي لم يبتعد كثيرًا.
“إنّه حقا مزيّف! لماذا لا تصدّقني؟ افتح الباب! أرجوك! أرجوك!”
لكن الباب لم يُفتح.
***
في اليوم التالي، تناولت سيلا الطعام الذي جاءت به ليزا، وهي تصغي للتقرير.
“حتى الفجر، كان كل من يمرّ بالممرّ يسمع صرخاتٍ يائسة تتوسّل إطلاق سراحها.”
‘ليس في انتظارها خارجًا إلا الهلاك.’
وجاء كبير الخدم بالدليل إليها فورًا.
“إن كان ماليّان… حتى مع الترياق يترك آثارًا عميقة باقية. أحقًّا وُجد هذا في غرفة أمي، يا كبير الخدم؟”
تظاهرت بالانهيار أمام السيّدات، فوقعن في صدمة، ولم تُتح لها فرصة أن تشرح أو تستعطف كيلا يُشيعن الخبر.
“وعلى صعيد آخر، يبدو أنّ اضطرابًا وقع في غرفة الانسة ليليا أيضًا. كانت تسعى لكسب وُدّ النبيلات من خلال الماركيزة، لكن يبدو أنّ ذلك أصبح مستحيلًا.”
“بل إن بعض الأثاث تحطّم.”
“نعم. حتى تيفاني التي كانت قريبة نالها الأذى.”
ورغم أنّ الخبر أشاع في نفسها ارتياحًا، لم تستطع أن تبتسم. وفسدت شهيّتها حتى وضعت أدواتها جانبًا.
“ألم تنامي جيدا البارحة؟”
“لا، ليس هذا السبب. الأهمّ، ماذا عن الاستعدادات التي طلبتها؟”
“كلّها جاهزة.”
قدّمت ليزا كيسًا ورقيًّا.
“وقد تحقّقت مرارًا أنّ جدول اللورد دينيس لم يتغيّر.”
“أحسنتِ.”
اليوم كانت تعتزم زيارة قصر الدوق لتكشف عن نقطة ضعف دينيس وتُطيح به.
ولفعل ذلك، كانت بحاجة إلى زيّ خادمة عائلة إيكاروس وشَعرٍ مستعار – وكلاهما كان بين يديها الآن.
“أما الإكسير… فقد دفعت ثمنًا باهظًا لأحصّله في هذه المهلة القصيرة.”
“لا بأس. ارفعي رأسكِ، توقّعت ذلك.”
الغريب أنّ كاليكس كان يُوزّع الإكسير كما لو كان ثمرة عاديّة—ولم يكن أيّ إكسير. فخواصّه الشفائية عظيمة، وثمنه باهظ لا يُحصّل في ليلة واحدة.
‘مع الكمّ الهائل من الثروة التي يجنيها كلّ يوم، فمثل هذه النفقة لن تُحدِث على الأرجح أدنى أثر.’
كان السُمّ الذي تناوله كاليكس من النوع الذي يستطيع حتى الإنسان العادي احتماله والتعافي منه في غضون يومٍ أو يومين.
وفوق ذلك، كان كاليكس أقوى بكثير من معظم الناس، وقد تناول الترياق على الفور، لذا سيكون بخير.
“…….”
لكن حين شرب السمّ، اضطرت هي كذلك أن تبتلع صمتها، والكلمات المانعة ظلّت عالقة على طرف لسانها، تطنّ في رأسها كالرعد. لذلك اشترت الإكسير.
فإن كان مبلغًا من المال يُسكت تلك الكلمات الخانقة، أفلا يُعدّ صفقة رابحة؟
وضعت صندوق الإكسير جانبًا، وأكملت استعدادها للرحيل. وما إن وصلت قصر إيكاروس، حتى تحسّست أن تترك خطواتها بلا أثر، حتى لا يفطن دينيس. وما إن دخلت، هرع إليها رون يلهث.
“مرحبًا، رون. جئتُ قلقة على كاليكس، هل هو بخير؟”
“أهكذا إذن؟”
“نعم. أهو بخير؟”
“في الواقع…”
ضغط رون شفتيه، وأدار عينيه في حيرة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 91"