استمتعوا
دانـا نظرت إلى سيلا بوجهٍ يعلوه التوتر، كأنّها قد نسيت كيف تتنفّس.
وعلى الرغم من أنّها كانت واقفةً فيما الآنسة جالسة، شعرت دانا وكأنّها تنظر إليها من أعماقٍ سحيقة.
‘أيعقل أنّها قد عرفت كلّ شيء سلفاً؟’
وما إن تذكّرت اللحظة التي أُمسِكَت فيها وهي تحاول خداعها، حتّى وجدت نفسها عاجزة تمامًا عن الكذب مرّةً أخرى.
“لقد… لقد ارتكبتُ خطيئةً عظيمة! والحقيقة يا انستي…”
أغمضت دانا عينيها بشدّة، ثم اعترفت بكلّ شيء.
“أعطتكِ الماركيزة هذه القارورة، وأمرتكِ أن تتأكّدي من أنني شربتُها؟”
“نـ، نعم.”
“أعطيني إيّاها.”
أخذت سيلا القارورة الصغيرة المملوءة بالمسحوق الأبيض من يد دانا المرتجفة.
لقد شككتُ أنّها ستُقدِم على أمرٍ ما، مذ رأيتُ الحقد في عينيها آخر مرّة. وها قد فعلت.
هذه المرّة سمٌّ؟ أتُراها تريد قتلي؟
“وبعدها، حينما تسقطين، أمرتني أن أعترف اعترافًا كهذا.”
“…”
“قالت لي أن أقول إنّكِ، يا آنسة سيلا، أعطيتني هذه القارورة كي أُلبِس التهمة لليليا، لكنني لم أستطع أن أظلم الآنسة ليليا، فاعترفت بالحقيقة.”
“تسمّين هذا اعترافًا.”
ابتسمت سيلا ابتسامةً باردة وهي تحدّق بالقارورة.
“هل ذكرت لكِ أيّ نوعٍ من السموم هو؟”
“نعم، قالت إنّه سمّ ميليان.”
كان سمّ ميليان خفيفًا نسبيًّا، لا يخلّف إلا آثارًا طفيفة لبضعة أيّام.
‘همم… ربّما لم يكن سم ميليان أصلًا.’
فجأة تذكّرت حكايةً رواها لها العم كين. في السوق السوداء، كان كثيرًا ما يختلط اسم ميليان باسم ماليان، وكثيرًا ما وقع الناس في ورطةٍ جراء ذلك.
‘ميليان وماليان… تشابهٌ في الأسماء والهيئة، فكلاهما مسحوقٌ أبيض، لكن الفرق في الأثر عظيم.’
فبينما يسبّب الأوّل أعراضًا طفيفة، فإنّ الثاني قاتل إن لم يُعالج خلال يوم. بل إن لم يُعالج خلال ساعة، قد يفقد المرء طرفًا من أطرافه إلى الأبد.
‘أيُرِيدون أن يُظهِروا أنّني متُّ في محاولةٍ فاشلة لتوريط ليليا؟ أم لعلّهم يريدون أن يتركوني عاجزة، مشلولة؟’
‘والفارق بينهما؟ قالوا إنّه في الرائحة.’
فإن كان بلا رائحة، فهو ميليان. أمّا إن فاحت منه رائحة حلوة ما إن تُفتَح القارورة، فهو ماليان.
فتحت سيلا القارورة.
ولمّا قرّبتها من وجهها، شمّت على الفور رائحةً عذبة.
‘كما توقّعت… ليس ميليان، بل ماليان.’
وضعت القارورة على الطاولة.
“سآخذ هذه أوّلًا.”
“نعم.”
“وبالمقابل، ستأتينني بسمّ جديد.”
“…… ماذا؟”
“امزجي السمّ في شايي، ثم اعترفي أنّكِ فعلتِ ذلك بأمرٍ من الماركيزة.”
ابتسمت سيلا ابتسامةً خفيفة، وهي تملي على دانا التفاصيل بعناية.
“سأفعل ما تأمرين.”
“حسن. إن قمتِ بما قلتُه لكِ، سأدمّر الأدلّة المسجَّلة، كما وعدتُ.”
“حقًّا؟”
اتّسعت عينا دانا بدهشة، كأنّها لم تُصدّق ما سمعت.
“ولِمَ؟ أتُراكِ لستِ راضية؟ هل أعيد النظر إذن؟”
“لا! أبدًا، يا آنستي!”
“كنتُ أمزح. لكن، على حسب أدائك، قد يصبح المزاح حقيقة.”
وضعت سيلا ذراعيها متشابكتين، وأخذت تنقر بمؤشّرها على مرفقها في حركةٍ هادئة تحمل التهديد.
“لكن… كيف علمتِ أنّ الماركيزة هي من أمرتني؟”
“أتدرين لماذا أسندوا إليكِ مهمّة تقديم الشاي في الحفلة؟”
“قال لي كبير الخدم إنّه فعل ذلك تقديرًا لجهدي.”
‘أنا من أمرته أن يقول ذلك.’
“صحيح. كنتِ بين الأسماء المرشّحة، لكن في النهاية… أنا من اختارتكِ.”
“أنا؟”
“أهذا يجيب عن سؤالكِ؟”
ظَهرت الحيرة على ملامح دانا، لكن سيلا لم تُفصِح بأكثر من ذلك.
‘منذ البداية، وضعتُها في الموضع المناسب كي تُستَخدم.’
وظنّت الماركيزة أنّها تنصب فخًّا محكمًا، غير عالمةٍ أنّها هي نفسها العالقة فيه.
“يمكنكِ الذهاب الآن. وإن سُئِلتِ عن سبب مناداتي لكِ، فقولي إنّه بخصوص حفلة الشاي.”
“مفهوم.”
بعد خروج دانا، أسندت سيلا ظهرها إلى المقعد، وغريزيًّا راحت تبحث بعينيها عن تيتي.
كان القط يجلس على حافة المكتب، يحدّق بصمتٍ في قارورة السمّ، وذيله متدلٍّ بلا حياة.
“تيتي.”
مدّت سيلا إصبعها برفق ولمست أنفه.
فأخذ، كعادته، يحتكّ بوجهها.
“ما لك عابسًا هكذا؟ أهو بسبب السمّ؟”
“مياو—.”
“لا تقلق. سأستبدله بميليان. لن يسبّب إلا بعض الألم المؤقّت بلا عواقب. فلا داعي للقلق.”
وضعت كفّها على وجهه، فألصق خدّه براحتها وحدّق فيها بعينيه اللامعتين.
“مياو.”
***
ومنذ ذلك اليوم، انشغلت سيلا تمامًا بترتيباتها. إرسال الدعوات لحفلة الشاي، إعداد الخواتم المنقوشة مع كاليكس، والاعتناء بكلّ التفاصيل الصغيرة.
وما هي إلا أيّام حتى حلّ الموعد.
“هل أرفع شعركِ ليتناسب مع الفستان؟”
“همم… يبدو مناسبًا.”
“إذن فلنبدأ.”
وبينما كانت ليزا تنسّق شعرها بعناية، قالت فجأة.
“لقد أوصلتُ سمّ ميليان إلى دانا، كما وضعتُ كلّ وثائق الشراء في درج الماركيزة.”
“أحسنتِ.”
“لكن… لم أخبر السيّد كما طلبتِ. حقًّا… هل ستشربين الشاي المسموم؟”
“نعم. فشربي له هو السبيل الوحيد كي لا تجد الماركيزة مغفرةً من أحد.”
“أشكركِ لأنّكِ تفعلين هذا من أجلي.”
“سيترك أثرًا طفيفًا فحسب، لكن عليكِ أن تتناولي الترياق الذي أعددته لكِ.”
“مفهوم.”
وبعد أن أتمّت ليزا تسريحة شعرها، قالت مبتسمةً.
“لم يتبقَّ إلا اختيار الحلي.”
ومن بين الحُليّ الموضوعة، اختارت سيلا عقدًا فضّيًا رقيقًا وزوج أقراطٍ مرصّعة بالياقوت الأزرق.
وحين نظرت في المرآة، لامسَت أقراطها بخفّة، ثم وجّهت بصرها إلى خاتمها.
ذلك الخاتم الأزرق البهيّ كان يشعّ كأنّه يعلن عهدًا جديدًا.
“ما إن تُستكمل الأوراق الرسمية، سيكون ذلك خِطبةً رسميّة.”
لم يعودا مجرّد عاشقَين، بل مخطوبَين.
بالنسبة للبعض كان ذلك محطة مهمّة، أمّا بالنسبة لها فكان تغييرًا لا يُغيّر الكثير.
‘كنتُ أتوقّع من دينيس أن يُعارض الخطبة بأشدّ مما يفعل أيّ شخص آخر…’
ذلك الذي لم يكن يعرف الصمت صار صامتًا فجأة، وكان هذا أدعى للريبة.
وبينما تُمعن النظر في الخاتم، أنزلت سيلا يدها برفق قبل أن تغادر الغرفة.
وصلت باكرًا إلى المكان الذي سيُقام فيه حفل الشاي، وجلست تنتظر.
وسرعان ما كانت أييشا وديزي أوّل من حضر.
“أشكركما على قبول الدعوة.”
“حفلة شاي لصديقة عزيزة لا بدّ من الحضور.”
أطلقت أييشا ابتسامةً ماكرة وهي تفتح مروحتها.
“ذلك الفستان… يبدو أنّ موضة جديدة على وشك أن تغزو المجتمع.”
“إنّه من عمل الانسة ديزي.”
“كنتُ أظن ذلك. آخر مرّة رأيتها، كانت منهمكة في العمل حتى نزف أنفها.”
وكأنّ الأمر كان مُرتّبًا، تحوّلت أعينهما معًا نحو ديزي.
احمرّت وجنتاها بلون ورديّ خفيف وهي تبتسم في هدوء مفعمة بالحماسة.
“الفستان… يليق بكِ أكثر ممّا كنتُ أظن.”
وبينما تبادلن لمحات سريعة عن أنشطتهنّ الأخيرة، وصلت فتيات أخريات.
رحّبت بهنّ سيلا بحرارة وشكرتهنّ على قدومهنّ.
‘يبدو أنّ جميع السيّدات اللواتي أكّدن حضورهن قد وصلن.’
ألقت سيلا نظرة على أرجاء القاعة قبل أن تعطي إشارة خفيّة إلى الخادمة المنتظرة.
بعد لحظات، دخلت دانا تحمل بعناية صينيّة وضعت عليها أكواب الشاي برفق على الطاولة.
“…….”
ولمّا التقت عيناها بعيني سيلا، ازدردت ريقها في توتر.
وبينما لاحظت سيلا صلابتها في الوقوف عند تراجعها للخلف، تكلّمت أخيرًا:
“أودّ أن أطلب منكنّ تفهّمًا لأمرٍ ما.”
“وما هو؟”
“الأمر فقط أنّ كاليكس ذكر أنّه سيمرّ للحظة قبل أن يغادر قريبًا.”
إذ كان وجود رجلٍ في مجلسٍ خاصّ بالسيّدات أمرًا مثيرًا للانقسام عادةً، كان من المهمّ إبلاغ الحاضرات مُسبقًا بوجود ضيفٍ ذكر.
وضعت يدها على صدرها بخضوع، لكنّها وجدت أنّ الفتيات لا يبدين أي امتعاض، بل فضولًا، إذ كانت عيونهنّ معلّقة بخاتمها.
“هل ذلك… خاتم خطوبة؟” سألت الانسة روز.
“نعم، لقد وافقت على الخطوبة مع كاليكس.”
وانطلقت شهقاتٌ صغيرة في القاعة.
وفي اللحظة التي همّت فيها سيلا برفع فنجانها لتشرب، دوّى صوتٌ عبر المكان.
“أوه! لقد حضر الدوق.”
دخل كاليكس بخطواتٍ واثقة، يلمع الخاتم في إصبعه مطابقًا لخاتمها.
“أعذرنني على مقاطعة اجتماعكنّ.”
ثم جلس بجانبها ببساطة.
“سيلا، أشعر بالعطش. أيمكنني شرب الشاي؟”
“نـ، نعم، بالطبع.”
لكن قبل أن تتحرّك، ابتسم ابتسامةً عذبة ورفع فنجانها بيده.
“إذن سأستمتع به.”
وقبل أن تمنعه… شرب.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة. شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 90"