إنّ الأنظار المتركّزة عليها خلقت ضغطاً جعلها تشعر وكأنّ عليها أن تجيب في الحال.
وفي جوّ مشحون كهذا، خُيِّل إليها أنّ نظرةً حادّة ستخترقها إنْ لم تجب.
“نعم. بالطبع ليس الأمر على ما يُرام.”
رفضت سيلا بصرامة.
“…أختي…”
اتّسعت عينا ليليا أكثر، وارتجف بؤبؤاها، كأنّها لم تتوقّع من سيلا رفضاً كهذا.
“حين سألتِني عمّا كنتُ أفعل في الحفلة التنكّرية، أجبتكِ أنّني كنتُ أستريح على الشرفة، ثم سألتِني. وكيف كنتِ تستريحين، أليس كذلك؟”
“بلى.”
“لم أرغب في الإجابة عن ذلك السؤال، إذ بدا وكأنّكِ تحاولين التطفّل على خصوصيّتي. وفي النهاية، إنّه خياري أنا إنْ شئتُ الإجابة أو الامتناع. أليس كذلك؟”
النظرات المستنكرة التي وُجِّهت بدايةً إلى سيلا بدأت تتبدّل تدريجياً، إذ شرحت الموقف بهدوءٍ وصوتٍ موزون.
– “آه، أهذا كلّ ما في الأمر؟”
– “حتى أنا سأشعر بالضيق من سؤال كهذا.”
وتردّدت همهماتٌ في المكان. ومع انجلاء الحقيقة، تحوّلت الأنظار إلى ليليا وكأنّها هي الغريبة.
“معكِ حقّ يا أختي. لكنني لم أرد التعدّي على خصوصيّتك. لقد أصبحنا بعيدتَين في الآونة الأخيرة، ورغبتُ فقط في الحديث معكِ. كنتُ أبحث عن موضوع أفتحه فارتكبت خطأ. أعتذر.”
وانهمرت دموعٌ أخرى على خدّ ليليا المبلّل، كأنّ الأمر لم يكن إلا زلّةً عابرة لا سوءَ نيّة وراءها. فتراخت حدّة التحديق من حولها شيئاً فشيئاً.
‘إنّها حقّاً تعرف كيف تنفلت من الأمور كالفأر.’
قهقهت سيلا في سرّها بامتعاض.
ورأت من شدّة إصرارها على استدراج إجابة أنّ ذلك هو مقصدها الحقيقي. فأطرقت برأسها، وأخذت تداعب بإبهامها مقبض الفنجان الناعم.
“…”
شدّت أصابعها برهةً، ثم قالت.
“على الرغم من أنّ الأمر يخصّ حياتي الخاصة ويُضنيني الحديث عنه، إلّا أنّك تبكين، فلا خيار أمامي.”
هيئة سيلا المتّزنة، التي تعرض الإفصاح عن أمر يزعجها بدافع نُبل، بدت على النقيض تماماً من ليليا التي تبكي كطفلةٍ مدللة.
“حقّاً؟”
“نعم. سأخبركِ. لكن فلنذهب إلى الحديقة، أشعر بتيبّسٍ في جسدي.”
احتجّت سيلا بعذرٍ عرضيّ، ومضت نحو الحديقة، فيما تبعها حارس ليليا، هاري، بخطًى قريبة.
“إنّ في المكان كثيراً من الناس.”
تمتمت ليليا بامتعاضٍ لم تقدر على كتمانه.
“يبدو أنّ الجميع جاؤوا ليستمتعوا بجمال ألوان الخريف.”
كانت الحديقة، النائية عن مركز العاصمة، تعجّ بالناس، وأكثرهم من العامّة.
“هل أنتِ بخير؟”
“نعم. لا أجد الحركة شاقّةً كثيراً.”
نظرت ليليا إليها بعينين حائرتين، ثم همست.
“…آه، صحيح…”
غاب صوتها المتعالي بين ضجيج المكان. وبينما تمسح ليليا بنظراتها ما حولها، توقّفت سيلا عن السير.
“على ذكر الأمر، من أوصاني بهذا المكان طلب منّي أن أحمل بعض الفطائر معي. نسيتُ ذلك تماماً. هل لكِ أن تنتظريني هنا في الحديقة؟”
“سأذهب معكِ.”
“لا حاجة. سأسلك الطريق ذاته في العودة. انتظري هنا مع السير هاري، وأنا بخير وحدي.”
تبادلت سيلا نظرةً خاطفة مع هاري ثم التفتت.
“حسناً، سأعود بعد قليل.”
رحلت سيلا، وبدأت ليليا تتأمّل المكان بحثاً عن ركنٍ هادئ بعيد عن الأعين. عضّت شفتها غيظاً إذ لم تجد ما يرضيها.
“إنْ كان هذا المكان يزعجكِ، فثمّة بحيرة قريبة، قلّ من يعرفها. بوسعي أن أصحبكِ إليها إن شئتِ.”
“وكيف لك أن تعلم بوجود بحيرةٍ هنا مجهولة؟” سألت ليليا ببراءة.
“اكتشفتها مصادفةً حين أقمتُ بالجوار.”
“أفهم. لكن، ما مصير أختي إن ذهبتُ هناك؟”
“سأنتظرها هنا، ثم أرافقها إليكِ.”
“حسناً. تقدّم.”
سارت ليليا خلف هاري في ممرٍّ ضيّق، وقد ظلّلته أشجار القيقب على الجانبين كقوسٍ بديع. وتردّد صرير الأوراق تحت خطاهما.
“إذا تابعنا قليلاً نصل إلى البحيرة. فاسمحي لي أن أعود وآتي بالآنسة سيلا.”
“افعل ذلك.”
انحنى هاري بخشوع وعاد أدراجه، فيما تابعت ليليا المسير، حتى بدا أمامها بريق ماء البحيرة يلمع كالمرايا تحت أشعة الشمس.
فخطت بخطًى أسرع.
“!”
اتّسعت عيناها وهي تغادر الممرّ.
رجلٌ وامرأة يتبادلان قبلةً عميقةً على ضفاف البحيرة. لكن ما لبثت أن شهقت.
“الأنسة فيوليت؟ السيد الشابّ؟”
أسرع العاشقان في الانفصال.
“الانـ… الانسة ليليا!”
لقد كان خيانة السيد شاب مع امرأةٍ، بل ومن ذات الدائرة الاجتماعية لخطيبته، ثغرةً خطيرة يمكن استغلالها.
وعبرت عينا ليليا ظلالٌ داكنة، لمّاعة بوميضٍ غامضٍ لا يُقرأ.
⸻
حين زارت سيلا قصر عائلة بلانشيت، لم يكن الكونت قد عاد بعد من البلاط. وبينما تنتظر، أشارت إليها الكونتيسة أن تتأمّل المجموعات التي جمعتها.
‘يقال إنّ للكونتيسة بلانشيت هواية فريدة في الجمع.’
وقد ضمّت مجموعتها لوحاتٍ تجريدية، وعظام حيوانات، وقطعاً من الأحجار السحرية منحوتة على هيئة هلالٍ واسع. وبينما كانت سيلا مأخوذة بترتيبها البديع، دخل الكونت.
“أعتذر لإبقائكِ في الانتظار.”
“لا بأس. استمتعتُ بمشاهدة مقتنياتك، فلا حرج.”
“فما الذي جاء بكِ إذن؟”
كانت رسالتها قد حملت مجرّد رغبتها في الزيارة دون توضيح الغرض.
“في الحقيقة، لي طلبٌ عندك أيها الكونت.”
“طلب؟”
“بما أنّ الأحجار المضيئة باتت اليوم مورداً بديلاً للأحجار السحرية، فما رأيك أن نقيم حفلاً احتفاءً بهذا الإنجاز؟”
“حفلةٌ…؟ فكرة ليست سيّئة. لكن لِمَ ترغبين أن تُقام هنا في قصر بلانشيت؟” قال وهو يمسح رأسه الأملس بكفّه.
“لأنّني بحاجة إليها.”
مسرحٌ يكسر علاقة ليليا بالفتيات النبيلات. كانت ثمّة دوافع أخرى، لكن سيلا لم تفصح عنها، واكتفت بابتسامةٍ صامتة.
“إذن، لن تبوحي بسببٍ أدق؟”
“لقد أجبتك كما يجب.”
ورغم رفضها الصريح، لم يبدُ على ملامحه ضيق.
“حسناً. ما دمتِ بحاجةٍ إلى ذلك، فإقامة الحفل أمرٌ هيّن.”
فلقد رفعتْ مكانة أسرته، وجعلته يربح مالاً وفيراً بفضلها، فتنفيذ طلبها لم يكن عسيراً عليه. وما أن وافق، حتى وضعت سيلا ورقةً على الطاولة.
“شكراً لك. سأتولّى أمر موظّفي الحفل. وهذه مقترحاتٌ لفعالية إضافية أرغب في ضمّها.”
“فهمت.”
“وأخيراً، هذه قائمة بالمدعوّين الذين أريد التأكّد من حضورهم.”
تبدّل وجه الكونت وهو يقرأ الورقة.
“أتطلبين إرسال دعوةٍ أيضاً إلى عائلة أرسيل؟”
“نعم. أرسلها إليّ مباشرة.”
“ألستِ تخطّطين لجلب سائر أفرادهم كمرافقين؟”
ارتجف صوته قليلاً وكأنّ مجرّد الفكرة تُثقل صدره.
“سيأتون جميعاً كمرافقين.”
“……”
شقٌّ رفيع رسم نفسه على جبهته. بدا بوضوح أنّه لا يريد رؤية عائلة أرسيل، لكنّ امتناعه عن الدعوة أمرٌ محرج، فلم يجد بُدّاً إلا أن يتنهّد.
‘كنتُ أعلم أنّه سريع الغضب.’
راقبت سيلا ملامحه بصمت، ثم قالت.
“إذا حضرتُ الحفل، فلن تُقصى كانا من المجتمع مجدّداً، لذا وإن لم يَرُق لك الأمر، فأرجو أن تتحمّله هذه المرّة.”
فلم يكن الأمر لصالحها وحدها، بل لمصلحة ابنته أيضاً. تنفّس الكونت بعمق ثم أومأ.
“ربّما كان الأمر كذلك.”
فدعوة الضحيّة وحضورها حفلة الجاني تعني المصالحة. ولم تكن هناك فرصة أفضل لإعادة كانا إلى المجتمع. ورغم أنّ ذكر الماركيز أرسيل كان يمقته، إلّا أنّه اضطرّ لقبول الأمر في سبيل ابنته.
“وأخيراً، لي طلبٌ آخر.”
ضحك الكونت بخفة، كأنّه يمزح، غير أنّ كلماته جادّة.
“هاه. ليت الأمر لا يتعلّق بعائلة أرسيل مرّةً أخرى.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 78"