وبدافع الفضول، سألت إن كانت الجنيات قادراتٍ على تغيير جنسهنّ أثناء لهوهنّ، فجاءها الجواب قاطعًا بالنفي. ولأنّ في القصة الأصلية شخصيةً ذكورية ذات شعرٍ أبيض، فقد خطرت ببالها صلةٌ محتملة، لكن بدا الأمر محضَ صدفةٍ لا أكثر، إذ لم يكن القاسم المشترك بينهما سوى لون الشعر.
ثم واصلت الإصغاء إلى القصص التي ترويها الإمبراطورة عن ‘فريزيا’ حتى احمرّت السماء بلون الغروب.
‘على الأقل بدأت ألتقط بعض الخيوط.’
فقد حفرت في ذاكرتها بعناية كلَّ تفصيلٍ ذكرته الإمبراطورة عن فريزيا. وإن كانت هذه الجنيّة – كما قيل – تأنس بمخالطة البشر وتميل إلى مجالستهم، فلا يبدو العثور عليها أمرًا مستحيلًا. وإذا استطاعت سيلا أن تجدها، فقد تسألها عن سبيلٍ لرفع اللعنة.
‘لا بدّ أن أجوب أرجاء المملكة كلَّها لأعثر على فريزيا.’
وقد أثقلها التعب من ساعات التوتر والانتباه المتواصل، فاستندت إلى ظهر كرسيّها.
‘ما زالت لديّ أعمالٌ أتمّها حين أعود إلى القصر.’
وضغطت برفق على جفنيها الجافّين من الإرهاق، ثم رفعت يدها فرأت العروق الحمراء شاخصة من وراء القناع. نهضت على عجل وقدّمت إلى ‘غريس’ منديلاً.
“أوه… شكرًا لكِ.”
ولم تدرك الإمبراطورة نزف أنفها إلا في تلك اللحظة، فتناولت المنديل.
“هل أنتِ بخير؟”
“إنها مجرد وعكة من الإرهاق فيما أظن. لقد حدث لي هذا من قبل، وأصبح يتكرر في الآونة الأخيرة.”
سعلت قليلًا، فامتلأت عينا سيلا بالقلق. وخطر لها خاطرٌ جعلها تعضّ على شفتها.
‘أليست البركة تجلب عادةً مزيدًا من العافية؟’
ألم تقل الإمبراطورة – التي التقت الجنيّة بنفسها – شيئًا من هذا القبيل؟
“لقد سمعتُ أنك صرتِ أكثر عافية في الآونة الأخيرة، فلا بد أنّ لقاءك بالجنيّة كان حديثًا.”
ثم أضافت. “كنتُ أظن أن نيل البركة يُفضي إلى مزيدٍ من الصحة… فهل لي أن أسأل، سيدة غريس، عن سبب اعتلالك؟”
تصلّبت ملامح الإمبراطورة لحظةً، فيما ارتجف المنديل بين أصابعها مع السعال. وحين انقطع، ساد صمتٌ ثقيل. قبضت على المنديل بقوة وهي تلتقط أنفاسها المرتعشة، ثم بدأت الكلام ببطء.
“لقد ذكرتِ أنّك لم تعرفي عن الجنيّة إلا ما قرأتِه في الكتب، أليس كذلك؟”
“بلى.”
“وهل ورد فيها أنّ بركة الجنيّة تمنح القدرة على تحقيق أمنية؟”
“نعم. أذكر أنّني قرأت ذلك.”
رفعت غريس رأسها لتواجه عيني سيلا. ورغم أن الدموع لم تترقرق وراء القناع، فقد ارتعشت عيناها الزرقاوان كمن يوشك على البكاء.
“ذلك هو السبب.”
جاء صوتها هادئًا لكنه أوشك أن ينكسر كالنحيب. وحين لمحت سيلا دون قصد ملامح عذابها، حبست أنفاسها وأطرقت بصمت.
***
ولحسن الحظ، توقف نزيف الإمبراطورة سريعًا. وغادرت غريس في عربتها بعد أن وعدت بلقاءٍ آخر، فيما وقفت سيلا تودّعها بصمت.
“هاه…”
تنفست تنهيدةً وهي تستعيد الصمت الثقيل الذي خيّم بعد سؤالها عن صحتها. كان الموقف قد انقضى، لكن أثره ظلّ عالقًا في قلبها.
‘لم أسأل لأنّ الجوّ لم يكن يسمح بذلك.’
ومع ذلك، فقد خمنت في سرّها ماهيّة الأمنية.
‘لا بدّ أنّها تتعلّق بالأميرة.’
إذ إنّ كلّما ورد ذكر الأميرة ارتسم على وجه غريس حزنٌ يشبه البكاء.
‘يُقال إنّ الوالدين لا يستطيعان طمس ذكرى موت طفلهما في قلوبهما.’
فكيف كان شعور الإمبراطورة، وقد عجزت حتى عن العثور على جثمان ابنتها حين احترق قصر الأميرة؟ لقد أثار ألمها شيئًا دفينًا في صدر سيلا، فرفعت بصرها إلى السماء البرتقالية.
‘ترى، هل يشعر والداي الأمر ذاته لو فقداني؟’
‘ولو كانا يبحثان عني…’
وبينما تومض تلك الخاطرة في ذهنها، مررت أصابعها على وجهها وأطلقت زفرة عميقة.
وكانت أمامها مهام كثيرة قبل حلول الليل، فلم يجز لها التأخير أكثر. أسرعت تخطو في الشارع الغارق بضياء الغروب حتى بلغت الموضع الذي يفترض أن تكون عربتها بانتظاره، غير أنّ قدميها توقفتا.
أين عربتي…؟
فبدلًا من العربة التي أقلّتها، كانت هناك عربة فخمة تحمل ختم أسرة إيكاروس.
“…كاليكس…”
همست برفق، وإذا بباب العربة يُفتح فجأة.
“أكنتِ تنادينني؟”
ولعلّه سمع همستها، إذ خرج كاليكس من العربة ووقف أمامها. عيناه الحمراوان الناعمتان المليئتان بالدفء انصبّتا عليها.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“لقد انشغلت حبيبتي عن لقائي مؤخرًا، فجئتُ أبحث عنها بنفسي.”
“……”
“فهل تمنحينني بعض وقتكِ الآن؟”
مدّ يده إليها بأدب.
لقد كان حقًّا كما قال، فقد انشغلت عن لقائه في الأيام الماضية. حتى ساعات نومها كانت مقسّمة، وكلما واتتها فرصة، لم يسمح برنامج كاليكس لهما بالاجتماع. مرّ زمنٌ طويل منذ التقيا آخر مرة.
‘بهذا الشكل قد تنتشر شائعاتٌ غريبة في المجتمع الراقي.’
وحين حسبت الأيام منذ لقائهما الأخير، أدركت أنّ علاقتها به قد تُرى وكأنها تسوء، بما يثير الشكوك والثرثرة.
“العشاء سيكون ممكنًا.”
وبينما كانت تراجع ما تبقّى عليها من مهام اليوم، وضعت يدها في كفّه.
“سآخذك إلى المطعم الذي حجزتُه.”
وانطلقت العربة بهما عبر الشارع المضيء بوهج المغيب. جلس كاليكس أمامها، يسند ذقنه إلى يده، وعيناه مثبتتان عليها، ثم قال.
“أريدكِ أن تركّزي عليّ الآن، بما أننا في موعد.”
“سأركّز عليك وقت العشاء. أما الآن فأحتاج بعض الوقت لنفسي، رجاءً.”
وبينما كانت تقلب أوراق المستندات التي أخرجتها من حقيبةٍ مسحورة، غمرها الضوء البرتقالي المتسلل من النافذة.
‘عيناي جافتان.’
ورفّت أهدابها ببطء وهي تعقد حاجبيها، ثم فركت عينيها بيدٍ مرفوعة إلى جبهتها وأدارت الورقة التالية.
“أودّ أن أحقق جميع أمنيات سيلا إن استطعت.”
نهض كاليكس وجلس إلى جانبها، ومدّ يده الكبيرة لتغطي المستند أمامها.
“غير أنّ هذه الأمنية لا أستطيع تلبيتها.”
عندها فقط رفعت سيلا نظرها إليه وقد عجزت عن التركيز.
“قطّي أيضًا يجلس فوق أوراقي إذا لم أُلاعبه…”
“ويبدو أنكِ أنتِ من لم تعطه اهتمامكِ.”
فابتسمت سيلا بذكرى قطّها المحبوب الذي كان يتخذ أوراقها موضعًا للراحة، وقد بدا تعليق كاليكس عفويًا. ظلّت تحدّق فيه مرتبكة للحظة، ثم أزاحت الأوراق بعد تنهيدة.
‘لم يكن كاليكس مخطئًا.’
فعلى الرغم من انشغاله أشدّ منها، إلا أنّه ما كان يعمل بشيء آخر إذا كان معها. تذكّرت كيف كان يمنحها كامل اهتمامه، ففتحت فمها قائلة.
“أعتذر لانشغالي بالأوراق فيما لم أكن الوحيدة المنشغلة… أرجو الصفح.”
“هل أنتِ نادمة حقًّا؟”
“نعم. من الآن فصاعدًا سأركّز عليك، فعد إلى مقعدك الأصلي.”
قالت ذلك وهي تحدّ عينيها كمن تسأله إلى متى سيظل جالسًا هكذا، لكنه لم يتحرك.
“إن كنتِ صادقة، فلي عندكِ رجاء.”
وتحوّلت عيناه الحمراوان في وهج المغيب إلى نظرات قطّ يستعد للهو. فشدّت سيلا أصابعها لا إراديًا، وقلبها يخفق بشدّة. حاولت أن تحافظ على هدوء صوتها وهي تدير جسدها نحوه ببطء.
“إن كان رجاءً غير معقولٍ أو غريبًا، فسأرفضه.”
وهي تلزم بصرها عليه، بينما أدركت أنّ عينيها تنزلقان جانبًا، فاكتفى هو بابتسامة كسولة وهزّ رأسه.
“أريدك أن تُغمضي عينيك حتى آذن لك بفتحهما.”
ماذا يدبّر هذه المرّة؟ وعلى الرغم من شكّها، أطبقت سيلا جفنيها طائعة. فقد عرفت تمامًا ما الذي سيقوله إن هي امتنعت.
وإذ غمرها السواد، غدت حواسها أكثر يقظة. كان صوت العجلات يهدّئها كلحنٍ للنوم، والنعاس الذي جاهدت طرده بدأ يثقلها.
‘أكاد أنام هكذا.’
وهمّت بأن تسأله كم ستظل على هذا الحال، فإذا بصوته العميق الرقيق ينساب إلى أذنها.
“اعذريني للحظة.”
وبلمسة وادعة، جذب رأسها فانسابت خصلاتها الناعمة على كتفه، حتى استقرّت عليه.
“ما…”
فزعت سيلا وهمّت بفتح جفنيها، لكن يده كانت قد حجبت رؤيتها تمامًا.
“لم آذن لكِ بفتحهما بعد.”
وحاولت أن تبعد يده المتهورة، ثم أرخَت يدها في النهاية.
‘لن أطيل إغماضهما، فلا داعي لإهدار الجهد.’
وبينما تحسب المسافة بين نقطة انطلاقهما والمطعم الذي تم حجزه، قدّرت أنّ الوصول بات قريبًا. فأراحت جفونها مطمئنة.
“……”
وما إن شعر كاليكس باسترخائها حتى أزال يده عن عينيها.
‘لقد نامت.’
فارتسمت بسمة على طرف شفتيه وهو يُصغي إلى أنفاسها الهادئة، ويمرر إبهامه برفق على الهالات الداكنة تحت عينيها.
‘ليت نومها يطول ما أمكن.’
وقد أوصى السائق أن يسلك طريقًا أطول، فلن يصلا إلى المطعم قريبًا.
***
وبعد أن أنهيا العشاء معًا وعادا إلى الدار، وجدتها سيلا كما تركتها، لم يتغير فيها شيء.
‘لا بدّ أنّ تيتي خرج في نزهة.’
ومدّت ذراعيها بارتياح بعد أن أنعشتها قيلولة العربة، فاستردّت نشاطها.
‘لقد هالني حين استيقظتُ أن الوقت قد مضى سريعًا.’
وبابتسامة خافتة، جلست إلى مكتبها، ولما فتحت الدرج لتستعيد الدمية استعدادًا للقاءها القادم مع الإمبراطورة، تجمّد وجهها.
لقد اختفت الدمية.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة. شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 74"