اتّسعت حدقتا تيتي فجأة. وتجمّد في مكانه كتمثال، وفمه مفتوح قليلاً، مما جعل سلوكَه الغريب يُربك سيلا فتطرف بعينيها في حيرة.
“تيتي؟“
“مياو، مياو؟“
“ما بك؟ هل هناك خطب ما؟“
‘ميلان، ميلان!’
هزّ تيتي رأسه بعنف، حتى خشيت سيلا أن تنكسر رقبته، ثم قفز بسرعة مبتعدًا عن الصندوق، واعتلى سطح المكتب متظاهرًا بعدم الاكتراث، موجّهًا نظره إلى النافذة وكأنه لم يُبدِ أي فضول منذ البداية.
“ألم تكن فضوليًا؟“
“مياو، مياو؟“
مال تيتي برأسه جانبًا كما لو أنه لا يفهم عمّ تتحدث.
لقد أصبح أكثر تماهياً مع غرائزه مقارنةً بما كان عليه حين كان بشرًا. ومع ضعف إدراكه، أصبح من الصعب عليه إخفاء انزعاجه. جفّ فمه، وظل يلعق شفتيه. وعندما يكون على هيئة قط، كانت سيلا دائمًا ترد عليه بكلمات من قبيل ‘صغيري الذكي‘، مما جعله يتصرف بلا تفكير أو تردّد.
حين كان لا يزال كاليكس، سأل سيلا ذات مرة. كيف ستعثرين على عائلتك؟ لقد أراد مساعدتها إن رغبت في البحث. لكنّ ردها الوحيد كان: “لا زلت أفكر في الأمر“، وشفتيها ظلت منغلقة، ترفض البوح بما في قلبها.
حين تذكّر كيف كانت سيلا تُفصح عن مشاعرها لتيتي أكثر منه، بدأ العرق البارد يتسرّب بين فروه الناعم، فشدّ مخالبه إلى الداخل بانقباض.
حاملةً الصندوق، اقتربت سيلا من تيتي ببطء. ومع أنه كان من الواضح أنه شعر بها، إلا أنه بقي جامدًا، لا يدير رأسه، ولا يُظهر أي رد فعل.
…تيتي كان متجمّدًا تمامًا.
‘هل كانت ملاحظتي سخيفة إلى هذه الدرجة لتزعجه؟‘
تذكّرت كيف لم يكن يحب كين، فظنت أنه لا يحب الرجال عمومًا. لكنها لم تتوقّع منه هذا النوع من التفاعل، لأنه لم يُبدِ رد فعل مماثل حين ذُكر كاليكس سابقًا.
‘لقد كانت ردة فعله أقوى من ردة فعله عندما ذكرت كين…’
هل كان السبب أنه لا يحب أن يُقارن بكاليكس؟ الفكرة جعلت تيتي يبدو أكثر ظرافة، فارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي سيلا. لم يكن من الصعب أن ترفع معنويات تيتي حين يعبس. جلست على الكرسي وبدأت تتحدث برقة.
“سأخبرك ما هذا.”
لم يُبدِ تيتي أي رد فعل، لكن سيلا لم تكترث، وبدأت بهدوء تشرح له إلى أين ذهبت، وما الذي أحضرته معها.
“…لست متأكدة بعد، لكن إن شعرت يومًا بالرغبة، قد أبحث عن أقاربي الحقيقيين.”
اهتزّت أذنا تيتي المدببتان بشكل ملحوظ.
‘لطيف جدا.’
غطّت سيلا فمها حين رأت أذني تيتي مرفوعتين وموجّهتين نحو الأعلى، وكأنه يُصغي لما تقول بتركيز. لو ضحكت بصوت مرتفع، لربما زاد عبوسه. لذا تابعت الحديث بهدوء دون صوت.
“حتى إن بحثت، فذلك سيكون فقط بعد أن تنتهي كل الأمور الأخرى.”
كانت قد ذهبت إلى الميتم كآخر مهمة، فقط لأن جدّها الراحل وجده لها بشقّ الأنفس. ولم تكن تنوي في الأصل البحث عن أقارب الدم. فالذين كانت تعتبرهم عائلة يومًا ما، كانوا قساة القلب بشكل لا يُحتمل.
ذلك الشك العميق الذي ترسّب في قلبها لم يترك مجالًا حقيقيًا لفضول نحو أقارب قد يكونون أحياء في مكان ما.
‘رغم أنني بدأت أتساءل قليلًا بعد ما قاله كاليكس…’
الفكرة أن يكون هناك من أحبّها لدرجة أن يصنع لها دمية بيديه.
لكن حتى تلك الفكرة، لم تُنبت في قلبها سوى بذرة صغيرة من الفضول.
حتى لو بحثت، فقد لا يرغبون بها. لم يكن هناك داعٍ لتتجرّع السمّ مرة أخرى وتعيش الشعور بالوحدة. كان من المفترض أن تذبل تلك البذرة في قسوة الشك.
لكن حين رأت ردة فعل آيلي لما قالته فلوينا…
“حتى لو قررت يومًا أن أبحث عن عائلتي، وحتى لو لم أكن متأكدة من أنهم سيقبلونني…”
“أنا أيضًا أفتقد أمي. وإن لم تعد بعد سنة، سأحزن، لكن لا بأس الآن، لأن هيوغو معي.”
أدركت حينها أن وضعها قد تغيّر.
“تيتي، لدي انت. وستبقى إلى جانبي، أليس كذلك؟“
استدار تيتي فجأة، والتقت أعينهما.
“أخيرًا تنظر إليّ.”
رأت انعكاسها في عينيه، فانفرج وجهها عن ابتسامة مشرقة، تلمع فيها الفرحة.
“مياو… مياووو…”
“ماذا؟ ألن تبقى معي؟“
“مياو!”
هزّ تيتي رأسه بعنف. وكأنّ بخارًا خفيفًا يتصاعد من فوق رأسه. هل هو بخير فعلًا؟ ربما هناك أمر ما حقًا!
وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة من القلق، قفز تيتي من على المكتب إلى حوض الغسيل، وبحركة سريعة، استخدم كفه ليدقّ على صندوق المجوهرات الموضوع على السطح الأبيض النقي.
“مياو!”
كان صندوق المجوهرات يحتوي على همسة الحب. كانت تنوي إعادته إلى كاليكس، لكنه لم يأتِ لاستلامه، فاحتفظت به.
“مياو!”
ضرب تيتي الصندوق عدة مرات بكفّه. عيناه اللامعتان كالجواهر بدتا وكأنهما تحاولان قول شيء ما.
“هل تسألني إن كان كاليكس هناك أيضًا؟“
أومأ تيتي برأسه للأعلى والأسفل بحماسة.
‘عندما قلتُ سابقًا إنه يشبه كاليكس، أشاح بنظره، فظننت أنه لا يحب ذلك… هل كنت مخطئة؟‘
طرفت سيلا بعينيها ببطء، وقد أربكها هذا السلوك الغامض وغير المعتاد من تيتي اليوم. تابعت نظرة عينيه، وبدأت تتذكّر كاليكس بعناية. في كل مرة كان ينظر إليها، كانت شفتاه تنحني قليلاً، وعيناه تضيقان برفق، وحاجبه يرتفع قليلًا.
تلك كانت نظرته المعتادة إليها.
حتى عندما قضت يومًا في قصر دوق إيكاروس بسبب مسألة الإرث، كان يحدّق بها بذات الطريقة. تذكّرت كيف كانت نظرته القلقة تستقر بلطف على خدها، فمدّت يدها لا إراديًا لتلمس وجهها.
استدارت نحو النافذة، ولم تنطق بكلمة، لا إثباتًا ولا نفيًا، لفترة طويلة. طال الصمت، وكلما ازداد طوله، ازداد ذيل تيتي تيبّسًا، حتى وقف مستقيمًا تمامًا.
***
كانت الأطباق الشهية مرتبة بعناية على طقم الشاي الفضي. من السلطة والشوربة الخفيفة، إلى نودلز الفطر المزيّنة بالكريمة وصفار البيض، وصولًا إلى شريحة لحم متوسطة النضج، تُظهر ملمسها الطري والعصير.
“من المريح أن أتناول شيئًا غير الحساء الخفيف… أشكرك على اهتمامك، يا والدي.”
رغم أنها كانت فقط تتظاهر بأنها انتقلت من الحساء الخفيف إلى الحساء العادي.
ابتسم ماركيز آرسيل، متصنعًا السرور، وأخذ قضمة متلهّفة من شريحة اللحم. كانت شفتاه السميكتان تلمعان بالزيت وهو يمضغ.
“ما أثار دهشتي أكثر أنكِ أنتِ من اقترح علينا تناول الغداء معًا.”
“لم يكن لديّ شهية مؤخرًا، وكنت أعتزم الأكل متأخرة، لكن سمعت أنك لم تأكل بعد، فظننت أنها فرصة مناسبة.”
“هاها.”
أخذت سيلا رشفة من كأس الماء الموضوع بجانبها، ونظرت إلى الساعة. الثانية والثلث. وضعت الكأس بهدوء بعد أن تحققت من الوقت.
“بالمناسبة، كيف حال أمي مؤخرًا؟ بالكاد تتحدث إليّ، ولم أرها كثيرًا في القصر مؤخرًا. هل هي مشغولة؟“
“يبدو أنها كانت مشغولة. تكثر من حضور اللقاءات الاجتماعية مع السيدات النبيلات، وتتحدّث دومًا عن رغبتها في عرض الفستان الذي تصممه ستيلا لـليليا بأسرع وقت.”
ردّ الماركيز بجفاء.
تذكّر كم أزعجته بلا رحمة لأيام، فقط لأنه سمح لسيلا بالبقاء في فيلا كاليكس لبضعة أيام. لا تزال ذكرى صوتها الحاد تُلازمه، فجعله ذلك يقطب أنفه ويضغط بأصابعه على أذنه، وكأنه يحاول حجب الصوت.
هل ما زالت تظن أن هناك أملًا بين ليليا ودوق إيكاروس؟ نقر لسانه بانزعاج.
“أفهم. لا شك أن أمي مشغولة للغاية.”
مسحت سيلا شفتيها بمنديلها برفق، وانحنت عيناها قليلاً بابتسامة. وكان وجه الماركيز المتجهم ينعكس بوضوح في عينيها الزرقاوين.
“على فكرة، كانت ليليا في المنزل اليوم؟ لو علمتُ أنني سأقضي وقتًا لطيفًا معك يا أبي، لطلبت منها الانضمام إلينا، حتى لو انتظرت قليلاً.”
“هذا مؤسف. لكن الأهم، سيلا، هل استمتعتِ بوقتك؟ لم يحدث شيء هناك، صحيح؟“
“نعم. كان البحر جميلاً كأن أحدهم قد أذاب فيه الجواهر. وبفضل كاليكس، عدتُ سالمة.”
“همم. كنتِ هناك لثلاثة أيام، ولم يحدث شيء يُذكر؟“
“نعم. هل كان ينبغي أن يحدث شيء؟“
“لا شيء. في الواقع، من المريح أن شيئًا لم يحدث.”
رفع الماركيز كأس نبيذه وكأنه يطفئ خيبة أمله. وسكب النبيذ الشفاف في فمه. بعد ذلك، استمر الحديث بينهما متقطعًا، يتخلله أحيانًا صوت أدوات المائدة وهي تصطدم بالأطباق.
كانت سيلا تتناول حساءها ببطء، ثم نظرت إلى الساعة.
‘الثانية وخمس وأربعون دقيقة.’
وبينما أنهى الماركيز طبقه الذي امتلأ بأصناف اللحوم، تحدّثت سيلا.
“هل نأخذ جولة في الحديقة بعد الطعام للمساعدة على الهضم؟“
“فكرة لا بأس بها. فلنفعل ذلك.”
ابتسم الماركيز بمكر وأومأ برأسه. ثم وضعا أدوات المائدة جانبًا. وحين وقف الماركيز، وقفت سيلا بدورها. وما إن خرجا حتى لفح وجهيهما هواء أكثر برودة، علامة على تغيّر الفصول.
“الطقس جميل.”
“يبدو أن الخريف يقترب.”
وفي تلك اللحظة، استدارت سيلا في اتجاه آخر.
“سيلا؟“
“دعنا نذهب إلى الحديقة الغربية اليوم. لقد زرنا الشرقية مرات كثيرة.”
اتسعت عينا الماركيز من تصرّفها غير المتوقع، لكنه تبعها بعد قليل وغيّر وجهته نحو الحديقة الغربية.
لم يكن يُهمّه أي حديقة يزوران. فقد وافق على هذه الجولة لسبب واحد. ليتحقق إن كان دوق إيكاروس قد قال شيئًا لسيلا.
وبينما يتبادلان الحديث بهدوء، تجوّلا في الحديقة. ولم يكن هناك أحد غيرهما، مما منح المكان سكونًا تامًا. وبفضل العناية المستمرة، كانت زهور الفريزيا البيضاء في أبهى حالاتها، مشكّلة مشهدًا أخّاذًا.
‘هذا المكان جميل دائمًا.’
كانت الحديقة من أحب الأماكن إلى قلب ماركيزة آرسيل الراحلة، وكان الماركيز الراحل قد منع الجميع من دخولها، ولم يسمح بها سوى لمن يحملون اسم ‘آرسيل‘. ورغم زوال الحظر بعد وفاته، إلا أن العادة بقيت، ولم يزرها كثيرون.
حتى سيلا نفسها، كانت تأتي إليها نادرًا، وغالبًا عندما تشتاق إلى جدّها.
“أبي، ألا يبدو لك أنك تسمع أصواتًا قادمة من مكانٍ ما؟“
ما من أحد كان ليعلم…
“سير جايس، توقّف قبل أن تبدأ بالصراخ.”
كان أمرًا غير متوقّع يحدث الآن… أسفل تمثال الملاك الصغير، الذي مدّ ذراعيه كما لو كان يبارك الأرض.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 52"