تحت الثريا المتلألئة، جلست امرأتان متقابلتين. آنسة دوقية دياني، هايلي، بثوب مزخرف بأزهار زرقاء سماوية، وضعت فنجان الشاي بلطف. وانتشرت أمواج هادئة في الشاي البرتقالي.
“ما تقصدينه يا آنسة ليليا، هو أنكِ تطلبين دعمي، أليس كذلك؟“
“أعتذر على زيارتي المفاجئة وإثارتي لهذا الأمر. هناك شيء أسعى لتحقيقه بشدة، ومع أنني أعلم أن طلبي سيزعجك، فقد قصدتكِ أولًا.”
“لا بد أنكِ تدركين جيدًا ما يعنيه أن تطلبي مساعدتي.”
أومأت ليليا برأسها. كانت عيناها المنتفختان محمرّتين من البكاء، والدموع الجديدة توشك أن تنهمر من جديد. كانت يداها المرتجفتان تقبضان على منديل رطب.
‘سمعت أنها صُدمت لدرجة أنها توقفت عن الأكل.’
رؤية معصميها النحيلين وقد أصبحا كالعظام جعلت هايلي تعض باطن خدّها. كتمت تنهيدة وسحبت منديلاً من جيبها وناولته إلى ليليا.
“شكرًا لكِ.”
“لا بأس. بين الأصدقاء، إعارة الأشياء أمر تافه. لكن، آنسة ليليا…”
تغيّر بريق عينيها الذهبيتين، اللتين امتلأتا بالشفقة، إلى نظرة حادّة في لحظة.
“بصفتي انسة شابة من عائلة دياني، يجب أن أعرف ما الذي حدث في حفلة دوق إيكاروس.”
توقّف ارتجاف ليليا فجأة. لكنها سرعان ما غطّت وجهها بمنديلها وانخرطت في البكاء وهي تتحدث.
“إنه خطئي بالكامل.”
مالت ليليا إلى الأمام، حتى اقترب وجهها من ركبتيها.
“حين طلبتِ مني أن أبتعد عن أختي، كان عليّ أن أستمع إليكِ. لكنني وثقت بها، وها هو ما حدث…”
تساقطت دموعها قطرةً تلو أخرى، تغمر المنديل الوردي الباهت بسرعة.
“أنا آسفة. في كل مرة أفكر بما جرى ذلك اليوم، يمتلئ صدري بخيبة الأمل ولا أستطيع حتى أن أتكلم بشكل سليم. هـ،هيييك.”
“آنسة ليليا…”
“أختي، كيف لها أن تفعل ذلك؟ ما زلت أثق بها. لا، أريد أن أثق بها، حتى الآن. هـ،هيييييك…”
خرج صوتها المكسور على شكل شذرات مرتجفة، ممتلئة بالخوف. قبضت هايلي على ثوبها بقوة. ولم تستطع أن تتابع المشهد أكثر، فخفضت بصرها، وانعكس محتوى الفنجان في عينيها الذهبيتين.
لم تكن المرأة الراقية التي أصبحت عليها الآن هي من كانت تنظر إليها من انعكاس الشاي، بل تلك الفتاة الصغيرة، وجهها ما زال ممتلئًا بملامح الطفولة، تبكي في صمت بسبب خيانة مريرة. وإلى جانبها، كانت ليليا واقفة، كما كانت دائمًا.
انعكس الاثنان في الشاي.
“لستِ مضطرة للإجابة اليوم، آنسة ليليا.”
قالت هايلي، مطلقة الزفير الذي كانت تحبسه. انتقلت لتجلس بجانب ليليا ولفّتها بذراعيها في عناق دافئ.
“هايلي… هـ، هيييك…”
“لكن، في المرة القادمة، حين تكون الشابات الأخريات حاضرات، يجب أن تتحدثي.”
قالت هايلي بلطف، وكانت نبرتها بقدر حنان نظرتها.
“الكثيرون، وأنا من بينهم، ما زالوا يتذكرون قسوة سيلا آرسيل. هناك من يطالب بتفسير لما حدث ذلك اليوم.”
رغم الحزم في صوتها، إلا أن دفئه لم يغِب.
“لكي أتمكن من دعمك.”
“نعم. فهمت. شكرًا، شكرًا لكِ انسة هايلي.”
أعربت ليليا عن امتنانها وسط شهقاتها. وبينما كانت تستمع إلى الصوت الهادئ الذي يواسيها، ارتسمت على شفتيها ابتسامة خافتة لم يلحظها أحد.
ومع مرور الوقت، غادرت ليليا قصر دوق دياني واستقلت عربتها. وسارت بها العربة ومعها وصيفتها، تيفاني، خارج أراضي الدوقية. وبعد قليل، توقفت العربة في منطقة هادئة ومعزولة. ناولتها تيفاني منديلًا جديدًا.
“انستي، لقد أحسنتِ التصرف.”
“شكرًا.”
مسحت ليليا وجهها، وفي انعكاس نافذة العربة، ظهر وجه ينبض بالحياة والنشاط أكثر بكثير من تلك التي ظهرت به أمام هايلي.
“من حسن الحظ أن أحدًا لم يلاحظ أن مساحيقي قد تلطّخت.”
“وكان من حسن الطالع أن الانسة هايلي تصرفت بهدوء. حتى حين أخفيتِ وجهكِ بالمنديل طوال الوقت، لم تقل شيئًا.”
“إنها حقًا طيبة! لكنها ليست أطيب منكِ، بالطبع، انستي.”
“أجل.”
ابتسمت ليليا بحرارة وهي تنظر إلى تيفاني.
“عودي الآن واجلسي مع السائق.”
“نعم، انستي. حاضر.”
من دون اعتراض، فتحت تيفاني باب العربة. كان جايس، مرافِق ليليا، واقفًا عند مقدّمة العربة، ومدّ يده إليها بابتسامة ماكرة.
“اسمحي لي بمساعدتكِ على النزول.”
أوه. عبست تيفاني وترددت قليلًا، ثم أخذت يده على مضض ونزلت من العربة. وما إن جلست بجوار السائق، حتى بدأت العربة بالتحرك من جديد بسلاسة.
“هل تأخّر الوقت إلى هذا الحد؟“
تفقّدت ليليا الوقت، وأخذت تعبث بقلادتها دون وعي. كانت قطعة سحرية جديدة من برج السحرة تتيح تخزين أشياء بداخلها. رغم صغر سعتها، إلا أنها كانت مثالية لإخفاء الأشياء دون أن تُلاحظ.
قبضت ليليا على القلادة، فظهر في الهواء أمامها لائحة شفافة بالأشياء المخزّنة فيها.
طقطق.
مدّت يدها نحو قنينة زجاجية شفافة من النافذه الشفافه وسحبتها إلى الواقع. كان السائل الذهبي بداخلها يدور في حركة لولبية، متلألئًا تحت الضوء كما لو كان يُعلن عن وجوده.
“الجرعة الذهبية لن تؤثر على من يتمتعون بقوة عقلية عالية، لكنها ستساعدكِ في تحقيق ما ترغبين، انسة ليليا.”
نزعت السدادة دون تردّد. فاجأها رائحة نفّاذة وكريهة تفوق المرة السابقة، أشبه برائحة مياه راكدة. عبست للحظة، لكن فقط للحظة.
“هناك طريقتان. إن اخترتِ الشرب، فيجب مراعاة توقيت معين.”
وبدون أي تردّد، رفعت الزجاجة إلى شفتيها.
ابتلاع. ابتلاع.
مع كل حركة من حلقها، كان السائل يتناقص بسرعة، ينساب إلى داخلها حتى اختفى.
“هاه…”
وضعت الزجاجة الفارغة جانبًا، وارتسمت على شفتيها اللامعتين ابتسامة متكاسلة متفتحة.
“هاه… هيه… هاه.”
كان شعورًا رائعًا. لا، أكثر من رائع.
“شكرًا، هايلي.”
لأنكِ ما زلتِ تهتمين بي.
لأنكِ ما زلتِ تثقين بي.
شدّت على القلادة، وعيناها الزرقاوان تتابعان بعناية النافذة الشفافة التي تطفو في الهواء.
“معلمي، ألا يمكنك جعله ينظر إليّ إلى الأبد؟“
كان هناك حوالي أربع عشرة زجاجة زجاجية تحتوي على السائل الذهبي الذي شربته، وبجانبها ثلاث زجاجات أخرى منقوشة بنقوش على شكل أوراق.
“لا شيء مستحيل بالنسبة له.”
إحدى الزجاجات المنقوشة بالأوراق كانت فارغة بالفعل. أما الاثنتان الباقيتان فاحتويتا على سائل وردي ناعم يتوهّج بخفوت في الداخل.
“بفضل هذا، أنقذتُ واحدة.”
همست ليليا، وقد ضاقت عيناها من شدة الفرح، ونظرتها باتت حنونة لدرجة أن زوايا عينيها تجعّدتا وكأنها تتأمل كنزًا لا يُقدّر بثمن.
“ليمنحها سموّه العون في تحقيق رغباتها، الآنسة ليليا.”
أفلتت القلادة، ووجّهت بصرها إلى النافذة، حيث ظهر انعكاسها واضحًا على الزجاج الشفاف. عيناها الصافيتان وشعرها الذهبي النقي كانا يلمعان بلا شائبة. وبينما كانت تلهو بخصلاتها بأصابعها، خطرت على بالها فجأة صورة امرأة بشعر ذهبي ضارب إلى الحمرة، كأنها تحاول تقليدها.
“أختي الحمقاء.”
أختها التي استحوذت على ما يخصها ورفضت أن تعيده، كانت تزعجها منذ وقت طويل، حتى كاد صبرها أن ينفد. مجرد فكرة أنها ما زالت تتنفس بحرية أمامها كانت كافية لتُحدث قشعريرة في جسدها وترفع شعر بدنها من رأسها حتى أخمص قدميها.
“كنت على وشك التخلّص منها كل يوم.”
كيف تجرؤ على استعادة ما هو لي؟
“يا لها من متغطرسة.”
لقد فات الأوان على ندمها لعدم بقائها في غرفتها، تكتفي بالتنفس فقط. أسندت ليليا رأسها إلى النافذة، وازدهرت ابتسامتها.
لقد اقترب وقت استرجاع كل شيء.
***
“إذًا، تقولين إن سلوك الخدم تغيّر فجأة؟“
“نعم.”
أجابت سارا باختصار وأومأت.
كان صحيحًا أن الخدم يحبّون ليليا لأنها كانت مفضلة لدى زوجَي آرسيل، لكن بعد الحادث الأخير، بدأ البعض يتهامسون بالسوء عنها. ومع ذلك، عندما خرجت ليليا من عزلتها، تغيّرت تصرفات أولئك الأشخاص فجأة، كما لو بسحرٍ ما.
“إنها تحاول أن تبدو مبتهجة، أشعر بالأسف من أجلها.”
“يبدو أنها فقدت وزنًا. لا بد أنها مرت بظروف قاسية نفسيًا.”
“رغم أن الآنسة ليليا ربما أخطأت بحق الآنسة سيلا، إلا أنها كانت دائمًا لطيفة معنا. أندم على ما قلته عنها.”
قلب الإنسان كأعماق البحر… من الصعب فهمه. لكن من الصعب أيضًا تجاهل هذا التغيّر المفاجئ.
“كم عددهم؟ لا يبدو أن المسألة تتعلق بشخص واحد فقط، خاصة وأنكِ رأيتِ أن الأمر يستحق أن تخبريني به.”
“خمسة أشخاص.”
…خمسة.
أومأت سيلا برأسها. لا شك أن هناك أمرًا مريبًا. التغيّرات كانت ملحوظة، لكن أسبابها لا تزال غامضة. تسلسل الأفكار في ذهنها زاد من حيرتها، فوضعت يدها على جبينها.
‘ومع ذلك، يبدو أن ما سمعته اليوم أوضح لي ما عليّ فعله.’
عزمت على كشف خطط ليليا، ومعرفة سبب التغييرات، والتأكد من أنها لن تنهض مجددًا.
بابتسامة باردة، أعطت سيلا أمرًا لسارا.
“هل يمكنك مراقبة الحديقة التي بها تمثال الملاك الصغير غدًا عند الساعة الثالثة مساءً؟“
“نعم، امرك.”
انحنت سارا وقبلت الأمر. وبعد انتهاء الحديث، جمعت الصحون الفارغة في الصينية وغادرت الغرفة. وبقيت سيلا وحدها غارقة في التفكير حتى سمعت صوت نافذة تُفتح فاستدارت سريعًا.
“مياو!”
“تيتي، أأنت هنا؟“
“مياو!”
فرك تيتي خديه الناعمين وهزّ ذيله بلطف. ضحكت سيلا بخفة وهي تراقب قطها يتلفّت حوله بفضول. قفز من فوق المكتب واندسّ تحت السرير.
“تيتي؟ ما الذي تفعله هناك؟“
وقفت سيلا بحيرة. لم تره من قبل يختبئ تحت السرير. وبعد لحظات، خرج تيتي دافعًا بصندوق أكبر من جسده برأسه.
“هاه؟ هذا هو…”
كان الصندوق الذي أحضرته من الملجأ. اهتزّت شوارب تيتي قليلاً. رمشت سيلا ببطء، وقد ثبتت نظرتها على قطها الوحيد.
“هل أنت فضولي بشأن هذا؟“
هزّ رأسه للأعلى والأسفل كأنما يقول. نعم.
رؤية ذلك التعبير المألوف في وجه تيتي جعلت سيلا تجثو على الأرض لتفحص الصندوق عن قرب.
“……”
كان صحيحًا أن تيتي ذكي على نحو استثنائي. يكاد يكون بينهما تواصل، ويقدر على فتح الأبواب بنفسه. ولم يكن غريبًا أن يهتم بأشياء لم يرها من قبل، أو بما تقوله.
‘لكن…’
لم يسبق أن أخرج شيئًا أخفته من قبل. لماذا هذا الصندوق تحديدًا؟
وكأنه يعلم ما بداخله تمامًا.
أدركت سيلا أن أفكارها أصبحت مبالغًا فيها، فابتسمت بسخرية خفيفة. منطقيًا، لا يمكن لتيتي أن يعرف محتوى الصندوق، ولا سبب وجوده، خاصةً أنه لم يكن موجودًا حين تم إخفاؤه.
‘لكن كان هناك شخص له رائحة مشابهة لرائحة تيتي.’
رجل بشعر أسود كظلمة الليل، وعينين حمراوين قادرتين على إحراق كل شيء بنظرتهما. شخص لا يرضخ أبدًا مهما كانت الظروف. حين فكّرت في كاليكس، ضحكت سيلا بخفوت. فكرة سخيفة أخرى خطرت ببالها مجددًا.
“مياو؟“
“آه، آسفة. شردتُ في أفكار حمقاء للحظة.”
“مياو؟“
مررت سيلا يدها على رأس تيتي بلطف وهي تقول.
“هل يمكن أن تكون… كاليكس؟“
فارتجفت حدقة تيتي بعنف.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 51"