استمتعوا
ضغط الماركيز على جفنيه المعتمين بشدة.
لم يكن قادرًا على النوم جيدًا منذ مدة، وكانت عيناه جافتين.
لم يكن الأمر أن عبء عمله قد ازداد،
بل ما ازداد هو عدد الأمور التي تحتاج إلى حل.
أطلق تنهيدة عميقة ورفع رأسه عند سماعه وقع خطوات تقترب.
“ طاب يومك، أبي.”
دخلت سيلا غرفة المكتب بحذر،
وهي تحمل صينية من الشاي والحلوى.
عبس الماركيز عند رؤيتها.
“ ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟“
لم يكن يحبها في البداية،
أما الآن فلم يكن يرغب حتى في رؤية وجهها.
فهي لا تختلف عن مصدر كل المشاكل التي سببتها زوجته وليليا.
‘ لو أنها فقط قالت منذ البداية إنها على علاقة بالدوق،
لما حدثت هذه الفوضى.’
بسبب صمتها،
ازدادت الشائعات السلبية عن ليليا وشوّهت سمعة العائلة.
مزّق الماركيز أرسل الوثيقة التي كان يحملها، مفكرًا في الخسائر التي تكبدها أثناء محاولته التعامل مع العواقب.
“ إن لم يكن لديك سبب وجيه للمجيء، فرحيلك أفضل.”
لوّح بيده الكبيرة، كأنها صينية،
في إشارة إلى الرحيل، وصرف نظره عنها.
سكراتش، سكراتش.
حرّك ريشته فوق الوثيقة، مركّزًا في عمله.
لكن سيلا، غير متأثرة ببروده،
اقتربت منه ووضعت الصينية على زاوية المكتب.
“ أحضرت لك بعض الشاي ووجبة خفيفة،
تبدو متعبًا في الآونة الأخيرة.”
انتشر عبق الشاي الأسود في أنفه.
“ رجاءً، خذ استراحة قصيرة أثناء عملك.”
“…هاه .”
وضع الماركيز قلمه ونظر إلى الوثيقة،
ثم ضغط على جسر أنفه وكأنه يحاول التخفيف من إرهاقه،
ثم راقب سيلا بعناية، لا يزال متحفظًا.
‘ ما الذي تخطط له؟‘
كانت هذه الفتاة قد أخفت كل شيء حتى كُشف عن علاقتها بدوق إيكاروس. كانت قد بررت صمتها بأنها لم تجد فرصة للكلام أثناء الحفلة، لكنه لم يصدقها تمامًا.
ماذا لو كان ذلك متعمدًا؟
‘ إن كان كذلك، فربما هو الأفضل.’
قرر الماركيز أن يستغل اللحظة ليختبر نواياها الحقيقية،
فنهض من كرسيه الضخم.
“ بما أنكِ تكبّدتِ هذا العناء، لنجلس معًا ونتناولها.”
“ حقًا؟“
“نعم .”
أضاء وجه سيلا فجأة كما لو كانت زهرة تتفتح،
واحمرّت وجنتاها وكأنها حقًا متحمّسة لقضاء وقت الشاي معه.
“ اجلسي على الأريكة.”
“ حسنًا!”
جلس الاثنان قبالة بعضهما البعض على الأريكة الموضوعة في زاوية المكتب.
“ أنا سعيدة جدًا بتناول الشاي معك يا أبي.
ولحسن الحظ، تذكرت أن أحضر شيئًا لنفسي أيضًا.”
راحت سيلا تعبث بمقبض فنجانها، تمسحه بإبهامها بخفة.
“ عندما اقترحت الأمر على أمي لأول مرة، رفضتني،
فخفت أن يُرفض طلبي مجددًا هذه المرة. لكنني سعيدة.”
“ لابد أنكِ شعرتِ بالضيق.”
“ لا، ليس كثيرًا. أنا أتفهم مشاعر أمي.”
قدّم الماركيز عزاءً فاترًا، متظاهرًا بالاهتمام وهو يستمع.
وعندما شرب نصف كوبه تقريبًا، وضعه على الطاولة.
“ لكن، سيلا… هل تعتقدين أن ليليا كانت الوحيدة التي شعرت بخيبة أمل مما حدث؟“
الماركيز، الذي تظاهر بأنه يسايرها، غيّر نبرته فجأة.
دون أن يرمش حتى، راقب ردّ فعلها عن كثب.
“ أنت محق. كيف لا يُخيّب أملك بشخص مثلي؟
بصراحة… كان بإمكاني إعلان علاقتي بكاليكس في أي وقت.”
“ همم؟“
اهتز أنف الماركيز من المفاجأة.
“ لكني لم أرغب في ذلك. لأنني كنت أكره ليليا.”
مالت سيلا للأمام،
تخفض رأسها كما لو كانت تواري وجهها في حجرها.
“ عندما سمعت ما قاله توربين في حفلة عيد ميلاد ليليا، اجتاحتني موجة من الخيانة. مهما حاولت أن أغفر لها وأصدق كلماتها،
لم أستطع. والأمر لم يتغير حتى الآن. أنا أكره ليليا بشدة.”
كانت تتحدث بطريقة عشوائية، وجسدها يرتجف بوضوح.
بقي الماركيز صامتًا، يقيم بعناية مدى صدق كلماتها.
‘ لا يبدو أنها تكذب.’
لا يمكن لأي شخص أن يختلق مثل هذا الجواب فورًا في موقف كهذا. علاوة على ذلك، فإن تصرفات سيلا المضللة لم تكن غير مفهومة بالكامل من الناحية الموضوعية.
لكن …
‘ كيف تجرؤ؟‘
برزت عروق جبين الماركيز أرسيل، واشتعلت وجهه بالغضب.
ومع معرفته للحقيقة، أصبحت وجودها أكثر إثارة للاشمئزاز.
كان على وشك أن يأمرها بالمغادرة، لكنها تحدثت مجددًا.
“ ما الذي يجب أن أفعله لأحظى بمغفرة أمي وأبي؟“
تفتحت شفتا الماركيز قليلاً ثم توقفت.
اختفت نظرة الشك التي كانت تملأ عينيه، لتحل محلها مشاعر أخرى – حماس ينبع من اكتشاف فرصة جديدة.
‘ ما حدث قد حدث.’
فشل العلاقة بين ليليا وكاليكس،
والأخطاء التي ارتكبتها سيلا، كانت أمورًا وقعت بالفعل.
عليه أن يكون عقلانيًا.
السماح للعاطفة بتشويش قراراته سيكون كمن يذبح الدجاجة التي تبيض ذهبًا.
‘ إن كانت قد تصرفت بدافع كراهيتها لليليا ولا تزال تتوق لعاطفة الوالدين…’
فلن يكون من الصعب توجيه الموقف لصالح العائلة.
شعر الماركيز بجفاف حلقه وابتلع ريقه بصعوبة،
ثم قبض أصابعه بإحكام.
“ الماضي يمكن أن يُنسى، بناءً على تصرفاتكِ في المستقبل.”
مال إلى الأمام نحو الطاولة، وتابع قائلاً:
“ أهم… كيف تسير الأمور بينك وبين دوق إيكاروس؟“
“ كاليكس؟ نحن على وفاق جيد.”
“ حقًا؟ إذن لا بد أنكما تتبادلان الكثير من الحديث كزوجين.
أتخيله يشاركك أحيانًا أمورًا متعلقة بالأعمال.”
“ حسنًا… كانت هناك أشياء كثيرة لم أفهمها…”
ترددت سيلا قليلاً، ثم فتحت شفتيها بحذر.
“ لكني أتذكر أنه أشار إلى أماكن من الجيد أن يُستثمر فيها.”
ما إن خرجت الكلمات من فمها، حتى ارتسمت على شفتي الماركيز ابتسامة عريضة، أشبه بابتسامة مفترسة.
تسللت ملامح الطمع إلى وجهه بوضوح لا يمكن إخفاؤه.
“ لدي طلب بسيط. أود أن أعرف ما الذي تتحدثين عنه مع دوق إيكاروس.”
ترددت سيلا،
وقد بدت عليها ملامح التوتر وهي تعبث بمنديلها بتوتر.
عند رؤيته لذلك، اخفّض الماركيز صوته ونهض من مقعده.
“ إن لم ترغبي، فلا بأس.”
“ لا، ليس كذلك! يمكنني أن أخبرك بكل شيء!”
“ هاها، جيد، جيد. لنتابع حديثنا على الشاي. لقد أصبح باردًا بالفعل.”
اتكأ على الأريكة، مظهرًا ابتسامة ناعمة.
مسحت سيلا عينيها بمنديلها ثم رفعت رأسها.
“ نعم، أبي.”
لاحظت البريق الطامع في وجهه، فردّت بصوت هادئ، متوازن.
وأخفت بهدوء المنديل الجاف في يدها.
تحدثا طويلًا حتى اقترب وقت لقائها مع كاليكس، فنهضت استعدادًا للرحيل.
وعند وصولها إلى باب المكتب،
توقفت سيلا والتفتت لتنظر إلى الماركيز.
“ أود تناول العشاء مع دوق إيكاروس قريبًا.”
“ سأقوم بترتيب ذلك.”
رافقها المركيز بنفسه حتى باب الرواق، وارتسمت على وجهه ملامح الرضا، وكأنه يعيد في ذهنه تفاصيل الحديث بينهما.
وعندما رأته يبتسم بهذه القناعة، قابلته سيلا بابتسامة مشابهة.
‘ من فضلك، اضحك كما يحلو لك.’
كانت تدرك تمامًا أن ابتسامته ليست سوى قناع.
هو فقط يتظاهر بتصديق كلماتها. وبمجرد أن تستدير،
لن يتردد لحظة في التحقق من المعلومات بنفسه.
لذا، تعمدت أن تدرج تفاصيل قد تفيده،
لتترسخ في ذهنه فكرة فائدتها له.
‘ في الوقت الحالي.’
وإن أصبحت هذه الابتسامة حقيقية، فستُخنق أنفاسك.
ابتلعت سيلا بقية أفكارها، ونظرت إلى الوقت من طرف عينها.
‘ لقد حان الموعد تقريبًا.’
مدت يدها إلى ياقة المركيز.
“ آه، الآن تذكرت، كاليكس ذكر شيئًا آخر. كان عن…”
انحنى المركيز للأمام، مصغيًا باهتمام شديد لكلماتها.
وبينما كانت تهذر بكلمات لا معنى لها،
تحوّل انتباهه إلى وقع خطوات تقترب خلفه.
“ عزيزي!”
ظهرت الماركيزة وهي تتقدم بخطوات سريعة، تمسك بذراع المركيز.
“ هل تدرك كم تعاني ليليا الآن؟“
رؤية زوجها يتصرف كأب مع سيلا جعلت غضب الماركيزة يبلغ ذروته.
ومن دون أن تنظر إلى سيلا، سحبت زوجها إلى داخل غرفة المكتب.
أُغلق الباب بقوة، وتعالى صوت جدالهما من الداخل.
“ ألا تفكر في ليليا؟“
“ ولهذا السبب أفعل كل ما بوسعي لإصلاح الأمور! إلى جانب، من أجل مصلحة العائلة…”
“ أنت تعلم كم تحب ليليا كاليكس.”
“ اخفضي صوتك! ماذا لو كانت لا تزال هنا؟“
“ بل عليك أنت أن تصمت!”
بدأت صرخاتهما العالية،
التي بدت وكأنها على وشك أن تُحطم الباب، تخفت تدريجيًا.
وإذا أصغيت جيدًا، ستسمع بقية الجدال،
لكن سيلا لم تبقَ لتستمع.
استدارت وغادرت.
***
بعد بضعة أيام من زيارتها للمكتب،
دعت سيلا كاليكس والماركيز أرسل إلى العشاء.
تم استئجار مطعم معروف خصيصًا لهذه المناسبة،
وكان الماركيز يبتسم طوال الوجبة.
“ لقد كان حديثًا غنيًا ومفيدًا بالفعل، يا دوق.”
“ وأنا أيضًا استمتعت بفرصة الحديث معك مجددًا.”
صافح الماركيز كاليكس بحرارة.
وكما هو متوقع من أرفع نبلاء الإمبراطورية،
كان حديثهما مليئًا بالرؤى الثمينة.
ورغم أن ما شاركته سيلا من معلومات كان مفيدًا،
إلا أن سماعه مباشرة من الدوق كان أكثر قيمة.
“ سأقضي بعض الوقت مع كاليكس قبل أن أعود.”
“ حسنًا.”
حوّل الماركيز نظره من الدوق إلى سيلا.
ورغم أنه لا يزال عاجزًا عن النظر إليها بمودة كاملة، خاصةً في ظل معاناة ليليا المستمرة، إلا أن كلماتها حتى الآن أثبتت فائدتها.
‘ لكن لا يزال أمامها طريق طويل لتُسدد ثمن تربيتها.’
فكر في المشكلات التي سببتها سيلا في الماضي، فتمتم في داخله بانزعاج، رغم أنه حافظ على ابتسامة لطيفة خارجيًا.
مقارنةً بالأذى الذي تسببت فيه، فإن ما يمكن أن يجنيه منها الآن أكثر بكثير، خصوصًا وهي تتمتع بعاطفة كاليكس.
‘ ربما في المرة القادمة ألمّح قليلًا إلى موضوع الزواج.’
بينما كان يخطط خطوته التالية، عبس الماركيز متذكرًا إلحاح زوجته المستمر الذي سمعه مرارًا.
من الواضح أن ليليا قد فقدت مكانتها عند كاليكس، لكن اقتراح أن تخطب سيلا لشخص آخر؟ ذلك سيكون كمن يذبح الإوزة التي تبيض ذهبًا.
“ سأذهب أولًا.”
صعد الماركيز أرسيل إلى العربة وانطلقت به مبتعدة،
بينما اختفت الابتسامة اللطيفة عن وجه سيلا.
‘ ما حدث اليوم سيجعله يراني أكثر فائدة.’
من أجل مصلحة العائلة، لن يتراجع الماركيز عن صراعه مع زوجته.
فكل من ليليا وازدهار العائلة لهما مكانة ثمينة عنده.
‘ رغم أن إبقاءه متمسكًا بي أمر مزعج، لكن…’
حين يحين وقت جني الثمار،
لن يكون ذلك عبئًا كبيرًا.
كل ما تبقّى هو…
‘ لقد بعت بالفعل مجموعة مركيزة أرسيل إلى نبيلة أخرى من هواة الجمع.’
بعيدًا عن الارتفاع المتوقع في القيمة، كل شيء تم ترتيبه.
‘ عرض المواعدة المُفبرك اليوم سيكون كافيًا.’
كانا قد التقيا بعدد لا بأس به من الناس في طريقهما إلى المطعم، وذلك يكفي للظهور الاجتماعي.
ما التالي في الجدول؟ بينما كانت سيلا تراجع مواعيدها ذهنيًا، خرج منها تثاؤب وغطت فمها.
ولما شعرت بنظرات موجهة إليها، قالت:
“ أعتقد أن التظاهر بالابتسام أرهقني قليلًا.”
“ وأنتِ لم تأكلي جيدًا أيضًا، ربما لذلك السبب.
ما رأيك في وجبة مناسبة الآن؟“
رغم أن جسدها قد تعافى بما يكفي لتتناول طعامًا عاديًا، إلا أنها كانت تتعمد الاكتفاء برشف الحساء حتى لا يكتشف الماركيز تحسن حالتها.
“ لا بأس، أنا ممتلئة بالفعل.”
هزّت سيلا رأسها.
رغم أنها سئمت من الحساء، إلا أنه أشبعها.
وتناول المزيد سيجعل الأمر أسوأ.
“ على أي حال، أظن أنه من الجيد أن نفترق هنا اليوم.
لا بد أنك مشغول، لذا شكرًا لأنك دائمًا تجد وقتًا للقائي.”
ظهرت تجعيدة خفيفة على جبينه.
“ لست مشغولًا.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O ━O ━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 36"