رنَّ الجرس رنينًا خافتًا. فأرخَت سيلا جفنيها، متتبعةً الصوت بنظراتها، ثم عادت لتقع عيناها على عيني كاليكس المرتجفتين باضطراب ظاهر.
“…… يبدو أنّك استدعيتني على عَجَل، فلم يكن لي بُدّ.”
“لكنّك قلت لي صراحة إنّه لا بأس أن أرافقك، فكيف تغيّر كلامك فجأة؟”
“…… نعم.”
كلّما انبعث ذلك الرنين، كان كاليكس يختفي. ولمّا تذكّرت سيلا القِط الأصفر الذي يظهر بعده دومًا، دسّت يدها بين أصابعه المضمومة.
“إذن، فلنذهب معًا.”
اتّسعت عيناه بانزعاج لم يقدر على إخفائه، ووصلها ارتجاف يده المتصلّبة بما تحمله من توتّر. شدّت سيلا قبضتها على يده أكثر.
“لقد جئت لأنّ كاليكس قال إنّه سيذهب. وإن كان لا بدّ من الرحيل، فسأرافقك لأُكمل ما لم أستطع قوله.”
“…… لا ضرورة لذلك. لقد تعرّضتِ لخطر جسيم، فالأجدر بكِ أن تتلقّي العلاج وتستريحي.”
“في الحقيقة…”
كان صدى الجرس أعلى من ذي قبل، يملأ الفراغ بينهما.
“أنا فقط… لا أريد أن أفترق عنك، يا كاليكس. الوحدة تثقلني.”
تمتمت بعينين متدلّيتين كأنّهما على وشك أن تنهمرا دمعًا. وشعر كاليكس برجفة جسدهما المتلامس.
“إن كنتِ متعبةً نفسيًّا وبدنيًّا، فالأفضل أن تعودي.”
عضّ كاليكس على أسنانه وهو ينظر إلى أصابعهما المتشابكة.
كان يرغب في أن يُبقيها ممسكةً بيده، غير أنّ رنين الجرس لم يزد إلا صخبًا وتسارعًا، حتى أوشك أن يُحدث تغييرًا في جسده.
“أنا بخير طالما أنا مع كاليكس. هل لا يزال ذلك غير مسموح؟ أم…”
شدّت سيلا يده أكثر حين حاول ترك يدها. من يكون هذا؟ القط الذي يظهر في كل مرة يُسمع فيها صوت الجرس، والقط الذي بجانبها… هل هذا حقًا كاليكس؟ جمعت كل الأسئلة التي أرادت طرحها في جملة واحدة.
“هل هناك سبب آخر يمنعنا من الذهاب معًا؟”
ارتفع حبّاله الصوتية بشكل واضح.
“……أعتذر.”
كانت سيلا على وشك مواصلة السؤال، لكن صدمة شعرت بها في مؤخرة رقبتها أفقدتها وعيها. التقطها كاليكس في حضنه وهي تسقط كدمية مفكوكة الخيط.
جلسها برفق كي لا تنهار، وظلّ يحدّق بها في صمت، فيما قلبه يخبط كطائر حبيس يُمزّق قفصه. ولم تمضِ لحظات حتى بدأ بصره يهبط شيئًا فشيئًا.
خفض رأسه، فرأى قدميه وقد غطّاهما الفراء. كان ذلك أسوأ ما يخشاه. ولو لم يُغِبها عن وعيها، لتحوّل أمام ناظريها إلى تيتي.
غير أنّ سؤالها الأخير ظلّ يطنّ في أذنه. لقد بدأت تشك.
أما الماركيز أرسيل، فكان يعبر الرواق بخطى سريعة وهو في ثياب نومه. وعلى طرف الممر، وقفت كلارا مع وصيفتها شارل. وكان شحوب وجه كلارا تحت نظراته الباردة أشبه بوجه ميّت.
“لماذا عدتِ إلى القصر، يا امرأة؟”
“…….”
ظلت واجمة كالمذهولة، فما كان منه إلا أن نقر بلسانه بلامبالاة. لقد أراد أن يعيدها إلى عائلة شتاين قبل أن تقع عليها عينا سيلا. كان ينظر إليها بعينٍ لا تحمل أدنى شفقة، رغم ما بدا عليها من إرهاق.
“عودي من حيث جئتِ—”
“لوردي!”
قاطعت شارل كلماته، ثم هوت جاثيةً على الأرض.
“أرجوك، أشفق على سيدتي. الحقيقة أنّ…”
نظرت حولها بخوف، ثم خفضت صوتها.
“الماركيز شتاين وابنه الأكبر… قد اعتُقلا وسِيقوا إلى فرسان البلاط الإمبراطوري.”
أغمضت كلارا عينيها بإحكام عند سماع ذلك. ولا تزال صورة أبيها وأخيها وهم يُجرّون بعيدًا من قبل فرسان البلاط عالقة في ذهنها. لم يكن لهما ذنب. لم يفعلا سوى تلبية طلب الابنة، والأخت. كانت هي المذنبة وحدها. هي من استغلّت حبّهم لتُنقذ ليلِيا، التي كانت على وشك الموت. هي من استخدمت ذلك الحب لتبقيها حيّة.
‘لم أرد سوى أن أجعل ليلِيا سعيدة.’
هكذا همست في أعماقها بحرقة وندم. ثم ترنّحت، مترنّحة كدمية مقطوعة الأوتار.
“سيدتي!”
أسرعت شارل إلى دعمها.
“مستحيل…!”
اتسعت عينا الماركيز كقشور الكستناء، وحدّق بهما صاعقًا. لم يكن ثمّة سبب يُفسّر اعتقالهما إلا أمر واحد.
“أفُضح الأمر؟”
“…….”
“أسألك! هل انكشف الأمر؟!”
لكن كلارا ظلّت واقفة بلا حراك، صامتة كمن فقد روحه. كان صمتها كالسهم يدفعه إلى حافة الهاوية، فقبض أرسيل على أسنانه بغيظ.
لقد عالج أغلب الأمور عبر منزل شتاين، لكن في البدايات كان ماله قد تدفّق إلى هناك أيضًا. كان الأمر قديمًا، وغاية ما أراده أن يُبقي ليلِيا على قيد الحياة. لكن إن علم البلاط الإمبراطوري بذلك…؟
قبل ثمانية عشر عامًا، كان كأنّ نظرات الإمبراطور الحادّة، الباردة كالنصل، قد ارتطمت به واخترقت أعماقه.
‘…… تمالك نفسك.’
ضغط الماركيز براحة كفّه على جفونه المرتجفة، ثم مسح وجهه بيده الثقيلة، وقد تسلّل الخوف إلى قلبه.
“هُووف… أيقظوا كبير الخدم.”
كان قد أتلف منذ زمن معظم الوثائق التي تتعلّق بعائلة شتاين، غير أنّه أراد التأكّد إن لم يتبقَّ دليل واحد يجرّه إلى الهاوية.
‘لا بدّ من أن أمنع ليلِيا أيضًا من مقابلتهم متى شاءت… لن أترك الأمور سائبة بعد الآن.’
وحين همَّ أن يغادر بخطى متعجّلة، استدار نحو كلارا مرّة أخرى.
“ما دامت فترة العقوبة لم تنقضِ بعد، فلن أسمح لك بدخول القصر. ستقيمين في الجناح الخارجي، ووعدكِ أن لا تتضرّر عائلة أرسيل بسببكِ… احرصي على الوفاء به.”
وحين ظلّت صامتة لا تجيب، أدار ظهره ببرود قاتل ورحل.
***
كان الماركيز شتاين قد غفا غفوةً قصيرة. وفي منامه، رأى ابنته العزيزة كلارا، التي ربّاها كما يُصان جوهر نفيس، وهي تتشبّث بثوبه والدموع تنحدر من عينيها.
[أبي! أرجوك… أُنقذ ابنتي، أُنقذ حفيدتك!]
فتصدّع قلبه في الحلم تصدّعًا لا رجعة فيه. لم يستطع أن يُدير ظهره لتلك الدموع.
“……”
ولمّا عاد إليه وعيه، كان السكون مطبقًا من حوله. حتى هو نفسه استغرب. كيف له أن ينام في وضع كهذا؟ لم يعرف كم مرّ من الوقت في أعماق هذا السجن الأرضي، لكنّه اعتدل مسرعًا، فإذا بشخص ينتظره أمامه. ثيودورو.
“هل نلتَ قسطًا من النوم الهادئ، ولو كان قصيرًا؟”
فتح ثيودورو القفل بمفتاح، وبإيماءة من يده تكسّرت السلاسل التي كبّلت الماركيز.
“الآن يمكنك الخروج.”
غير أنّ وجه الماركيز، وهو يحدّق في عينيه الخضراوين اللامعتين وسط الظلام، ارتسمت عليه صرامة مشوبة بالقلق. بدا وكأنّ ظهوره لا يثير في نفسه إلا النفور. قبض على يده حتى برزت عروقه، ثم خرج بخطوات ثابتة من زنزانته. وما إن وقعت عيناه على ما أمامه، حتى اتّسعتا بذهول، وأمسك ثيودورو من ياقة عنقه.
“لماذا قتلتَ راندولف؟!”
كان ابنه مطروحًا على الأرض، لا يتنفّس. بل لم يكن وحده؛ فكلّ من في المكان، عدا ثيودورو وهو نفسه، قد لفظوا أنفاسهم بلا أثر لجراح، كأنّ أرواحهم انتُزعت فجأة.
“أنت تعلم، ايها ماركيز، أنّني لم أُخرجك لأجل إنقاذك.”
ابتسم ثيودورو ابتسامةً ماكرة، ورفع يده مقلّدًا حركة الخنق، بينما خاتم فضّي في إصبعه يلمع في الظلام بسطوة لا تخطئها العين.
“أخمد غضبك… إلا إن كنت ترغب في إرسال كل من تحبّ إلى جوار ابنك.”
“كـ…غغ!”
رغم رقة نبرته، أدرك الماركيز أنّ تهديده جِدّ لا هزل فيه، فاضطرّ أن يفلت قبضته عن ياقة الرجل.
“أحسنت. والآن…”
مدّ ثيودورو إليه مقبض سيف طويل.
“أمسك بهذا السيف، وافعل كل ما آمرك به من الآن فصاعدًا.”
أطبق الماركيز أصابعه على السيف وهو يواجه عينيه الخضراوين الزاهيتين، وأغمض جفنيه بقوة، ليكبح غضبًا يوشك أن يفتك به، وقد عقد العزم أن يحمي من تبقّى له بأي ثمن.
“……”
ابتسم ثيودورو ابتسامة ضيّقة وهو يتفحّص السجن الملطّخ بالدماء. وما أن رمش بعينيه، حتى تبدّل المشهد أمامه؛ لم يعد قبوًا مظلمًا، بل أرضية رخامية بيضاء تتلألأ تحت قدميه.
***
“لقد عدتَ.”
“أرجو أن تُخطر سريعًا أولئك الضيوف الذين لم تُسجّل أسماؤهم في الدفاتر التي وقعت بيد البلاط الإمبراطوري. فلا قلق من افتضاح أمر هذا المكان.”
انحنى مساعده وأسرع بالخروج. تقدم ثيودورو بخطوات هادئة إلى خزانة، وأخرج سجلًّا. ثم بلا اكتراث، مزّق الصفحة التي كُتب عليها اسما ‘نيكولاس شتاين’ و’راندولف شتاين’.
لقد كانت قوّة ذاك قادرة على محو الذاكرة من جذورها، لذا كان انكشاف الأمر هذه المرّة أمرًا لم يخطر له ببال قط.
“ثيودورو، أعذرني على اقتحامي.”
“ما الأمر؟”
عاد معاونه مسرعًا، وأطرق رأسه.
“لقد وصلت الآنسة ليليا…! الآنسة ليليا!”
دفعته جانبًا، واندفعت إلى الداخل. كانت ثيابها مضطربة كأنّها هرعت في عجل، وعيناها تلمعان بحدة جارحة وهي تُحدّق في ثيودورو بوجه متوتّر متربّص.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات