اقترب ولي العهد منه دون أن يشعر، ووضع يده على كتفه.
“ألا يعرف الدوق أن لساني ثقيل بالكتمان؟”
قطّب كاليكس حاجبيه، غير أنّ لوكاس، غير عابئ، ابتسم ابتسامة ماكرة وسأله.
“إلى متى ستكتم ما ينهشك في داخلك؟ لقد أظلّت عينك سحابةٌ منذ زمن بعيد.”
وأشار بإصبعه إلى ما تحت عينيه في لمزٍ يشبه المزاح، غير أنّ بريق عينيه لم يكن لعبًا بل جدًّا. كان كاليكس، سيف الإمبراطورية وترسها، منذ أصبح سيّد السيف لم يعرف المرض سبيلًا إليه. بيد أنّه ذات مرّة، طالت به العلّة يومًا كاملًا، ومنذ ذاك الحين عادت العافية إلى محيّاه، حتى إذا عاد الاصفرار اليوم أدرك لوكاس أنّ الأمر جلل.
‘لا ريب أنّ للأمر صلة بالآنسة.’
هزّ لوكاس رأسه مترقبًا أن يفتح صاحبه فمه.
أما كاليكس، الذي يعرف إلحاح وليّ العهد أكثر من أيّ أحد، فقد ابتلع تنهيدة طويلة.
“إنها مجرد كوابيس تجعل مضجعي مضطربًا، لا أكثر.”
“كذب…”
ابتلع لوكاس الكلمات التي كادت تنفلت عفويًا وسأل.
في البداية ظنّ أنّها مجرد حجة مختلقة على عجل، لكن ملامحه لم تكن تلك التي يظهرها حين يضجر من محادثته.
‘يبدو جادًا إلى حدّ ما.’
أيُعقل أن كاليكس العظيم نفسه يضطرب نومه بسبب كوابيس؟
قرص لوكاس فخذه ليتأكد، فشعر بألم أكّد له أنّه لم يخطئ السمع.
ثم غمض إحدى عينيه وسأل.
“همم… أيّ كابوس ذاك الذي يجعلك على هذه الحال؟”
حوّل كاليكس بصره نحو النافذة.
فعندما أصابه سم هوغواك خلال مسابقة الصيد وفقد وعيه، راوده كابوس شديد القسوة.
كان الحلم يعرض عليه، واحدًا تلو الآخر، أبشع اللحظات التي مرّ بها.
حين تحوّل لأول مرة إلى قطة وكاد يُقتل مطاردًا من قِبل قاتل.
حين اكتشف أنّ أكثر من وثق به بعد وفاة والديه كان في الحقيقة الشخص الذي يرغب في موته.
حين فقد والديه صبيًّا في حادث العربة، وغيرها من الأحداث المروعة.
تتابعت تلك الذكريات بسرعة، حتى شعر أنّ مواجهة وحش أهون من مشاهدتها مجددًا.
وعندما وصل إلى هذه النقطة، كفّ الحلم عن اجترار الماضي، لكنه تحوّل إلى كابوس يرى فيه أفظع الماضي الذي لم يكن يودّ مواجهته.
“في الحلم… ماتت سيلا. وقفتُ متفرجًا ولم أستطع حمايتها. ومنذ تلك اللحظة، لم يغب عني ذلك الحلم بسهولة.”
وبينما كان يتحدث بجدية واضحة، ارتسم في عيني لوكاس بريق من الحيرة والدهشة.
‘ظننت أنّه ربما كان يختلف مع الآنسة… لكنّه يكاد يفقدها في الحلم حتى الآن؟’
‘هل عليّ أن أشعر بالملل أم بالإعجاب؟’
ومع ذلك، بما أنّه وافق أولًا على الاستماع بجدية، جلس لوكاس وهو يمرّر يده على ذقنه مطلقًا تنهيدة خفيفة.
“صدقت. لقد كانت ضعيفة الجسد منذ نعومة أظفارها. لا تكاد تمرض حتى تعود لتتدهور أكثر. أذكر أنّها كانت تلعب مع هايلي ساعة أو أكثر، ثم تلزم الفراش أيامًا.”
أطرق رأسه ثم أضاف.
“الآن فهمتُ لمَ يساورك القلق.”
رفع بصره إلى صاحبه وقال.
“صحيح أنّها أصبحت أفضل حالًا، غير أنّ المرء لا يدري متى يخذله الجسد. الحلم مرآة اللاوعي، فلعلّ قلقك تجلّى فيه.”
ربّت على كتفه وأضاف.
“الحلم ليس إلا حلمًا. والآنسة بخير، ايها دوق.”
“… نعم.”
أجاب بفتور، لكن صدره ظلّ مثقلًا. أجل، الحلم حلم. لكنه يعرف أنّ الظلّ الأسود ما زال يتعقبه. اللعنة لم تُمحَ، وما زالت قائمة وإن خفتت بفضل تفاح الجنيّات.
‘لذلك السبب.’
استعاد صورة الجدارية التي رآها في ضريح الجنيّات، لحظة أضاءت المشاعل. كانت أشبه ما تكون بما رآه في الكابوس.
قبض جبينه وهو يتأمل ظلّه الطويل الممتدّ على الأرض.
“إن كبر قلقك، فلتسقها من الأدوية المقوية.”
“ذاك أفعلُه بالفعل.”
“أجل، ما كان ليغيب عنك مثل ذلك.”
هزّ لوكاس رأسه ورفع كتفيه استخفافًا. ثم أضاف في نفسه. ما أعجب الحب إذا غمر قلبًا قاسيًا كهذا.
أدرك كاليكس أنّ الأمير لن يرهقه أكثر بالأسئلة، فقال.
“إن كنتَ قد شفيت غليلك، فدعني أنصرف…”
لكنه جمد في مكانه، وانمحت ألوان وجهه، وبدت أوتار عنقه بارزة متصلبة. حدّق فيه لوكاس متوجسًا وسأله.
“ما بالك، أيها الدوق؟”
“صاحب السمو…”
قال كاليكس بصوت منخفض، وقد تلقى تواً برقية ذهنية عاجلة من رون.
***
كان ثَمّة عينان جليديّتان تحدّقان في سيلا بثقل نافذ. مدّ كونراد يده النحيلة حتى برزت عظامه، وأشار إليها صارخًا.
“من أي جحرٍ خرجتِ، أيتها الفأرة الدخيلة؟!”
“أن تدعو ضيفك بالفأر؟! لعلّك لا تريد مالي إذن؟”
أجابت سيلا بحدة، تخفي ارتباكها خلف قناع من الغضب.
لكن كونراد تقدّم بخطًى ثابتة، غير آبه بردّها.
“لستِ ضيفة هنا.”
كان صوته المليء باليقين، وقربه الزائد، كفيلًا بأن يُبطل أي محاولة للتملّص.
“لو كنتِ ضيفة بحق، لما جهلتِ ما هو هذا المكان.”
غشى ظلّه الـثقيل عتبة خطواتها، فتجهم وجهها. أيّ موضع انكشف أمرها فيه؟ لم يعد بوسعها أن تسمح بمزيد من التوغّل، فتراجعت خطوة.
قال بنبرة واثقة.
“لن تجيبي؟ حسنًا. لا بأس. ستُجبرين على الجواب وإن رغمت أنفك.”
تلاقت عيناه بعينيها، فارتسمت على وجهه ابتسامة ملتوية وهو يتابع الكلام…
واجهها بعينين ثابتتين، يرمقها بنظرة نافذة، ثم رسم على محياه ابتسامة ملتوِيَة وهو يحرّك شفتيه من جديد.
“لنعُد إلى السؤال مرّة أخرى.”
تألّق السوار المعلَّق على معصمه بضياء خافت، ثم انبعث صوته كخنجر.
“من أي جحرٍ خرجتِ، أيتها الفأرة الدخيلة؟؟”
استفزّها كلامه الذي أوحى بأنّها ستُجبَر على الجواب رغمًا عنها، فقبضت على أداة سحرية للدفاع عن النفس حتى ابيضّت يدها من شدّة القبض. غير أنّ شيئًا لم يحدث، وظلّ كل شيء ساكنًا.
أطرقت تحدّق فيه، جفنها يخفق ببطء، فإذا بابتسامته المتهكّمة تنقلب إلى انكماشٍ متوجّس.
“لِمَ لا تجيبين…؟”
لم يستطع أن يحجب ارتباكه، فسعل متصنّعًا وكأنّه يداوي حرجًا، ثم قبض على أصابعه المرتجفة.
“أجيبي! من أين أتيتِ؟ من تكونين؟!”
لكنها بقيت صامتة، فازداد وجهه تشنّجًا. لقد استعمل قوّةً هائلة لا يقوى عليها بشر عاديّ، فكيف ثبتت أمامه؟
‘كل من وطئ هذا المكان خضع لهذه القوّة… إلا هي!’
ارتجفت عيناه المذعورتان ثم توقّفتا فجأة. انفلت من بين شفتيه همسٌ مرتعش. “لا… يمكن!”
وعندئذٍ تغيّر ملامحه إلى قسوةٍ موحشة، وقال بغيظ مكتوم.
“أتراكِ بعد كل ما عانيتِ، ما زلتِ تحملين بركة الجنيّات؟!”
أدركت سيلا على الفور أنّه يتحدّث عن ‘البركة’.
لقد كان هذا ثاني مرّة يُشار إليها وكأنها قد نالتها.
تمتم وهو يقطّب جبينه.
“أمرٌ يدعو إلى الرثاء، بل إلى الرثاء العظيم.”
أيُّ بركة تلك التي حالت دون نفاذ سلطانه؟ لو كان أكثر قوّة لما غُلب. ساوره شعور بالمرارة، فأخرج خنجرًا ولمع في عينيه عزم قاتل.
“لو علمَ سيّدي، لامتلأ قلبه حزنًا عظيمًا…”
لكن قبل أن يحزن سيّده، أقسم أن يزهق روحها، فقبض على الخنجر بقوّة أشد.
سيلا أحسّت ببرودة الجدار خلف ظهرها، كأنّها حُوصرت. وأخذت تفكّر. لقد حاول أن يُخضعها بقوّته، فلم يفلح.
‘إن كان كذلك…’
تطلّعت نحوه وهو يقبض خنجرًا في يدٍ هزيلة، وشدّت قبضتها على أداة السحر. فما لبث أن تدفّق برقٌ أزرق لامع من عصاها، وانقضّ نحوه خاطفًا قبل أن يُدرك ما يحدث.
“آآآاه!”
صرخ وهو يهوي على الأرض جثةً مضطربة.
تقدّمت سيلا بخطوات بطيئة، وانتزعت من جيبه رُزمة مفاتيح، ثم فتحت أحد الأدراج فعثرت على دفتر حساب، فأودعته في حقيبتها السحرية. خرجت بعدها بملامح متماسكة تتظاهر بالهدوء.
لكن خطوات رجل تقدّمت نحوها، فوقف أمامها باحترام وانحنى قائلًا.
“لِمَ خرجتِ وحدكِ، وليس برفقة السيّد كونراد؟”
هل يستكشف أسرارها؟ تساءلت وهي تبتلع ريقها. ثم رفعت طرف عباءتها وأبانت قليلًا من وجهها.
“كونراد مشغول يعدّ المال الذي أعطيته إياه. جئتُ خفية عن جدّي، وأراكم في غاية اللطف.”
“جدّكِ…؟”
ردّدها الرجل همسًا، ثم ألقى نظرة متفحّصة. شعرها الذهبي، عيناها الزرقاوان، ملامحها الدقيقة… لا ريب أنّها إحدى ابنتي أسرة أرسيل. فانحنى أعمق من ذي قبل.
قالت بصرامة.
“دعني وحدي، أريد الخلوة.”
“أمركِ، عفوًا على الإزعاج.”
راقبت سيلا ظهره وهو يبتعد، ثم أرخَت يدها عن أداة السحر.
‘لا بد أن أسرع بالرحيل قبل أن ينكشف أمري.’
اشتدّت خطاها شيئًا فشيئًا… حتى إذا بلغها صوتٌ ارتجف قلبها. توقّفت فجأة، كأن الأرض شُلّت من تحتها.
“سيلا.”
كان صوتًا ما كان ينبغي أن يُسمَع هنا… ومع ذلك دوّى في أذنها.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة. شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 110"