الجدران من حولهم كانت مرسومة بلوحات متصلة بخزائن الزينة، وفي الأرض انغرس سيف عظيم، فامتدّ المشهد أمام أعينهم في صمت مهيب.
سيلا، وهي تتأمل الداخل المضيء، كادت تنسى أن بجانبها رفاقًا.
‘لعلّي أجد شيئًا يكشف عن حقيقة الجنيات…’
شدّت بصرها نحو إحدى الجداريات.
‘أجنحة؟ أيمكن أن تكون جنّية؟’
كان أحد الجدران يصوّر رجلًا واقفًا أمام قبر، وبجواره امرأة مجنّحة.
وفي الجدار الآخر، امرأة مجعّدة الشعر مع قطة إلى جانبها.
ثم لوحة ثالثة تُظهر القطة وهي تنزل من حضن المرأة وتبتعد، والمرأة تمد يدها كأنها تريد الإمساك بها.
وفي الرابعة، ظهرت المرأة وحدها مغمضة العينين.
‘ما معنى هذا؟ ما الذي ترمز إليه هذه الرسوم؟’
لم يكن من المعقول أن تكون مجرد خربشات عابثة في موضع كهذا.
لكن مهما دققت النظر، لم تفلح في استيعاب مغزاها. وأخيرًا تركت أمرها جانبًا، وقررت أن تتحقق من أشياء أخرى.
‘ليتني أجد تسجيلًا عن الجنيات هنا.’
وعندما نظرت إلى الخزائن الممتدة على جدار آخر، رأت أحجارًا ماسية الشكل، تشبه تمامًا الحجر الذي يحمله كاليكس، غير أنها جميعًا سوداء حالكة.
‘ربما لهذا تبدو باردة بهذا الشكل.’
جف حلقها، وتذكّرت أن لمسة كاليكس للحجر الأبيض قد أشعلت المشاعل من تلقاء نفسها.
‘ترى، هل لو لمست هذه الأحجار سيحدث شيء؟’
جفّت شفتاها من التوتر، فبلّلتهما بلسانها، ولفّت حجرًا بمنديل ثم رفعته بحذر.
لكن… لا شيء.
حتى حين تناولت غيره، لم يقع أي أثر، فانسدلت جفونها خيبةً، ثم تماسكت.
‘لا بأس، ما زال أمامنا مواضع أخرى نبحث فيها.’
وما لبثت أن وقعت عيناها على كاليكس، فاستغربت.
‘ما الذي يحدّق فيه هكذا؟’
فلمّا تبعت بصره، وجدت الجداريّة التي رسمت الرجل والقبر والجنية. وكان هو واقفًا أمامها ساكنًا، كأنما سُمر مكانه.
سألته بهدوء.
“كاليكس، أيعقل أنك أدركت شيئًا؟”
فأجاب بصوت خافت.
“لا… لا شيء.”
وقد بدا وجهه شاحبًا كالمسحوب إلى قاع ماء عميق. فألقت عليه سيلا نظرة نافذة، وقالت.
“أكان سمو ولي العهد قد أرهقك ثانية؟”
هزّ رأسه بالنفي بسرعة.
“لا… ليس الأمر كذلك.”
عندئذ صرفت شكوكها، وقالت.
“حسنًا، سأتابع تفقد الموضع.”
لكن ما إن خطت خطوة حتى أحست بيده تمسك معصمها. التفتت إلى الوراء، فإذا بحدقتيه الحمراوين تضطربان دهشة. وبعد صمت قصير، قال.
“ما رأيك أن نبحث معًا؟”
أومأت قليلًا.
“كما تشاء.”
وسارت بجواره حتى وصلا إلى كين، الذي كان قابعًا عند الموضع الذي ارتكز فيه السيف. كان السيف من الضخامة بحيث يبلغ طوله أنف سيلا نفسها.
سألت بفضول.
“هل وجدت شيئًا؟”
أجاب مشيرًا بإصبعه.
“انظري هنا.”
رمقت الموضع، فإذا كتابات غائرة على صخر الأرض. اتسعت عيناها دهشة.
‘إنها أحرف قديمة!’
قرأ كين النص بصوت ثابت.
“نستذكر بألم إخوتنا الذين ضحّوا بسبب أنانية البشر. لقد كنتم جنّات رائعة، تميزتم بشعوركم البيضاء المشرقة وعيونكم الرمادية أكثر من أي أحد آخر. حتى وإن لم تتمكنوا من الحفاظ على ألواننا الفخورة حتى النهاية، سنحتفظ بذكراكم. ولن يكون هناك المزيد من التضحية لإخوتنا بعد إعادة أحد الإخوة الخائنين الذين لم نكتشفه بعد إلى حضن الطبيعة. وأخيرًا، نتقدم بالشكر لصديقنا المقرّب، نوكس إيكاروس، الذي ساعدنا في بناء القبر.”
تنفّس كين عميقًا بعد أن أنهى القراءة، وقال بنبرة متردّدة.
“إن كان هذا المكان قبرًا بالفعل، فذلك الحجر الذي لمسته قبل قليل كان…”
أما سيلا، فقد خطر ببالها كتاب قديم قرأته فيما مضى، ألّفه أحد الباحثين المهتمين بالأساطير، يدرس فيه سبب هزيمة الجنيات أمام البشر.
‘لقد ذكر الكتاب أنّ قلّة عدد الجنيات كانت السبب الرئيسي في هزيمتهم.’
فالجنيات – بما أنهم أطول عمرًا وأقوى بأسًا – لم تكن لهم رغبة شديدة في التكاثر كالبشر، فظلّ نسلهم نادرًا.
سألت بصوت متهدّج.
“في سجلات جدّك نوكس إيكاروس، هل ذُكر شيء عن تلك الحرب؟”
أجاب كاليكس، وهو يمرر إبهامه على الحجر الأبيض في يده، كأنّه يفتّش في ذاكرة بعيدة.
“صحيح أنّه كان بشرًا في ذلك الزمان، لكنه لم يترك سجلًا مباشرًا عن الحرب. غير أنّه كتب هذه العبارة.
‘لقد كانوا أقوى وأجمل من الجميع، ومع ذلك كانوا أتعس أصدقائي، إذ قاسوا العذاب بما حملوه من قوّة وجمال’ .”
ركعت سيلا بجانب كين، وراحت أناملها الرقيقة تتلمّس النقوش على الحجر. توقفت أصابعها فجأة عند عبارة ‘الشعر الأبيض’ ، وتجمدت في موضعها.
‘الإمبراطورة كانت قد قالت إن فريجيا أيضًا ذات شعر أبيض وعيون رمادية.’
هوت عليها الصاعقة كبرق، فقفزت واقفة وهي تلهث.
‘ذلك الفتى في القصة الأصلية…!’
كان هناك شخصية تُدعى ‘باتريك’، صبيّ أبيض الشعر رمادي العينين.
‘إذن الشعر الأبيض والعيون الرمادية سمة من سمات هذا العِرق.’
وبذلك عاد الشك القديم. أن باتريك نفسه قد يكون ذا صلة بالجنيات.
‘في القصة الأصلية، صُوّر باتريك كمطارد مهووس.’
ظهر أول مرة وهو يعترض سبيل ليليا في الحديقة، ثم ما لبث أن تبعها إلى كل مكان، حتى قصرها، يترصدها كالظل. كان سريع الحركة إلى حد أن أحدًا غير كاليكس ما كان ليقبض عليه. وفي النهاية أُسر في سجن تحت الأرض وخرج من القصة إلى غير رجعة.
‘أذكر أنّ في القصة الأصلية، عائلة ماركيز آرسيل كانوا قد استعانوا بكين ليكشفوا عن وجهة باتريك.’
رفعت سيلا رأسها وقد أشرقت على شفتيها ابتسامة حازمة، ونادت.
“كين، كاليكس.”
وبعد أن أوضحت لهما ما جال بخاطرها، أومآ بالإقرار.
قال كين.
“سأرسل الخبر إلى أعضاء النقابة العاملين في كل الأنحاء.”
وأضاف كاليكس.
“إن كان يمر عبر الغرب قاصدًا العاصمة، فلا بد أن يجتاز أراضي إيكاروس. سأصدر أمرًا بأن يُقبض على أي رجل أبيض الشعر ورمادي العينين يسمّي نفسه باتريك.”
بعد أن فتشوا المكان بأدق ما يكون، أيقنوا أن لا مزيد مما يستحق النظر. فغادر كين أولًا، ولحقه كاليكس بعد أن وقف عند الباب، وأشعة الشمس من الخارج تنهمر على الحجر الأبيض في يده.
لحظةً قبل أن يغادر، أدار رأسه وألقى نظرة على الجداريّة، ثم مضى. وفي اللحظة التي انغلق فيها المدخل خلفهم، انمحت الجداريات كسراب، وخبت المشاعل في رجفة، ثم عمّ الظلام.
***
‘ها قد جاءت من جديد.’
ابتسمت سيلا بفتور وهي ترى ليزا تدخل بعد طرق خفيف على الباب.
قالت الخادمة.
“آنستي، لقد وصلت هدية من دوق إيكاروس، كيف أصنع بها؟”
أجابت بهدوء.
“ضعيها حيث توضع سائر الهدايا.”
“أمركِ!”
دخل الخدم واحدًا تلو الآخر يحملون صناديق شتى من الهدايا. جلست سيلا تحدّق بها تتراكم في الغرفة أمامها، وكلها مقدمة من كاليكس.
‘ما الأمر؟’
في الآونة الأخيرة أرسل لها كثيرًا من الأعشاب الطبية والجرعات الثمينة. لم يكن غريبًا أن يهديها دواءً أو عشبًا، لكن أن تتضاعف الكمية على هذا النحو فجأة، فهذا أمر أربكها.
‘ثم إن هذه الزيادة بدأت بعد عودتنا من القبر تحديدًا.’
لو ملأوا ثلاث موائد كاملة بما أرسل، لما استطاعت استهلاكها كلها. وضغطت أصابعها على جبينها متضايقة.
‘لولا أن سلوكه في سائر الأمور لم يتغيّر، لظننت أنّه أصيب بجنون.’
التفتت إلى تيتي وهو يحمص قطعة خبز على الطاولة. كان دوما مستودع أسرارها، ولكن هذه المرة أحست أنها لا تستطيع البوح له بشيء يتعلّق بكاليكس قبل أن تفك ألغاز ما يجري.
زفرت تنهيدة طويلة.
“هاه…”
“نيااانغ؟”
قفز تيتي واقفًا، ومدّ عنقه يتفقدها بعينين متسائلتين. وضعت يدها على صدرها وقالت مبتسمة.
“لقد غلبتني محبتك يا تيتي، فتنهدت.”
“نيااانغ!”
انتفخ صدره بفخر وهو يخرخر مسرورًا.
‘إن كان السبب في فهمه لكلامي هو كونه كاليكس….’
أغمضت عينيها بشدة، تخشى أن يمتلئ قلبها وفكرها باسم واحد.
“إذا انتهيتم من ترتيب الهدايا، فلتخرجوا جميعًا واتركوا لي ليزا، فهي ستساعدني على الاستعداد للخروج.”
“حسنًا آنستي.”
خرج الخدم، وتقدّمت ليزا تعتني بشَعر أنستها وتصففه بمهارة، وهي تورد لها آخر الأخبار.
“أوراق هذا الشهر رتبتها على المكتب. آه، وقد أمرني القائد أن أبلغك أنه سيتغيب بعض الوقت.”
“أهكذا؟”
ترى، هل خرج في مهمة تسلل أخرى؟
لم تعلق كثيرًا، فقد اعتادت على ذلك.
قالت ليزا بعد أن انتهت.
“ها قد فرغنا، آنستي.”
نظرت سيلا إلى المرآة الكبيرة، فابتسمت. لم يكن مظهرها مبالغًا فيه، بل أنيقًا مهذبًا على قدر ما يليق بالخروج.
“هذا تمامًا ما أردت، شكرًا.”
“رحلة موفقة!”
وودّعتها ليزا وهي تخرج. لكن قبل أن تخطو سيلا خارج الباب، اعترضها تيتي فجأة.
“نيااانغ!”
“تيتي؟”
رفع رأسه بعينيه الواسعتين نحوها، يطالبها بغير كلام.
“نيانغ!”
كانت نظرته تصرخ. ‘اصطحبيني معك!’
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة. شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 102"