56
الفصل 56 : أسوأ خاطِب ²⁹
حدقت أرتيا في وجه شايلوك المُشوه بالغضب، ثم واصلت حديثها.
“لا أرغبُ في إطالة هَذهِ المُحادثة، لذا دعونا نُنهي الأمر. لقد سددتُ الدين، وانتهت علاقتُنا البغيضة والمروعة إلى الأبد.”
أخرجت أرتيا وثائق القرض التي أعطاها لها شايلوك، ثم مزقتها دوّن تردد.
استوعب شايلوك الموقف مُتأخرًا، ولَمْ يستطع إخفاء توترهِ وهو يقول:
“إذا تزوجتِ مِن سيمون، فَسأمنحُكِ ضعف هَذا المبلغ كهدية زفاف. سأجهزُ لكما قصرًا فخمًا في العاصمة كمنزلٍ للزوجية، وسأقيمُ لكما حفل زفافٍ في أرقى مكانٍ في الإمبراطورية، وأمنحُكِ أفخم المجوهرات. إذا لَمْ يكُن هَذا كافيًا، أخبريني، سأحققُ لكِ أيَّ شيءٍ تُريدينه.”
بالنظر إلى أنْ شايلوك كان يُقدّر المال أكثر مِن حياتهِ، فإنْ قولهُ مثل هَذهِ الكلمات لَمْ يكُن سوى دليلٍ على مدى رغبتهِ الحقيقية في زواج أرتيا مِن سيمون.
لكن أرتيا أجابته، بصوتٍ بارد خالٍ مِن أيِّ مشاعر.
“ما أريدهُ هو أنْ لا أراكَ أو أخاكَ أو أيَّ رجلٍ مِن عائلة لوشيان المقيتة مرةً أخرى.”
بهَذهِ الكلمات، استدارت أرتيا وغادرت الغرفة، لكنها توقفت فجأةً واتسعت عيناها.
كان سيمون واقفًا هُناك.
بعد أنٌ سمع بقدومها، كان قد تأنق مِن رأسهِ حتى أخمص قدميه، وارتسمت على وجههِ ابتسامةٌ متحمسة.
“سيدة إيدينبرغ، مضى وقتٌ طويل.”
كان يُحييها بخجلٍ، غير مُدركٍ لما حدث داخل الغرفة.
نظرت إليّهِ أرتيا وقالت:
“كنتُ صادقةً عندما قلتُ إنكَ رجلٌ لطيفٌ وجيد. لكن لَمْ أعد أعتقدُ ذَلك بعد الآن.”
“……!”
“أنتَ رجلٌ أحمق، جبان، وبائس يا سيمون فون لوشيان.”
اتسعت عينا سيمون بصدمةٍ.
لكن أرتيا لَمْ تتوقف عند هَذا الحد، بل طعنتهُ بكلماتها مرةً أخرى.
“ماذا؟ هل ستذهبُ للبكاء بين يدي أخيكَ مرةً أخرى؟”
انكمش وجهُ سيمون مِن الإهانة والعار.
لكن أرتيا لَمْ تكترث، ومرت بجانبهِ بوجهٍ خالٍ مِن أيِّ تعبير، ثم غادرت القصر.
عندما خرجت، رأت السماء الزرقاء الصافية.
كانت قبل لحظات تضعُ تعبيرًا باردًا كالجليد، لكنها الآن ابتسمت بفرح.
“آه، أشعرُ بارتياحٍ كبير.”
تقدمت بيبي متأخرةً خطوة، وسلمت أرتيا ورقة.
“هَذهِ إيصالٌ يؤكد أنكِ سددتِ القرض بالكامل.”
“كنتُ أظُن أنه سيُحاول التملص مِن إعطائهِ لي، لكنهُ سلّمه بسهولة.”
لَمْ يكُن الأمر بهَذهِ السهولة في الواقع، لكن بيبي جعلتهُ كذَلك.
لَمْ يكُن شايلوك الوحيد الذي يعرفُ كيف يحصل على ما يريد مِن خلال التهديد.
لكن بيبي لَمٌ تذكر ذَلك، بل قالت بابتسامة:
“يبدو أنهُ أدرك قوة سيدتي المُخيفة.”
عند سماع عبارة ‘القوة المُخيفة’, ارتفعت زاويةُ شفتي أرتيا.
‘حتى في نظري، كنتُ رائعةً اليوم.’
لكن ثقتُها لَمْ تدُم طويلًا، إذ سرعان ما تبدل تعبيرًها إلى الكآبة.
فلا يزال هُناك أمرٌ آخر أكثر أهميةٍ مِن الدين—ورُبما كان أهم مِن الدين نفسه—عليها مواجهته.
قاعة الاستقبال في القصر الإمبراطوري
كان كيليان وأرتيا يجلسان مُتقابلين.
أرتيا، التي كانت تخفضُ رأسها أمامه، كانت تتعرقُ بغزارةٍ.
على عكس وقفتها الجريئة أمام شايلوك، بدت الآن وكأنها مذنبةٌ تقف أمام قاضٍ.
في الصمت الخانق، كان كيليان أول مَن تحدث.
“مِن الغريب أنْ تعود العروس التي تخلّت عن عريسها.”
كان صوتُه باردًا إلى درجةٍ مخيفة.
أرادت أرتيا أنْ تهرب على الفور، لكنها بالكاد تماسكت وقالت:
“في ذَلك اليوم، كنتُ مشوشةً للغاية. لَمْ أستطع حتى توديعك، وأعتذر عن ذَلك.”
“لا حاجة للاعتذار. حفلُ الزفاف قد أُلغي، لكنني تلقيتُ مكافأةً سخية. بل أكثر مِما كنتُ أتوقع.”
“……هَذا جيد إذن.”
“…….”
سادت لحظةُ صمتٍ خانقة، مِما جعل أرتيا تشعرُ بالظلم.
‘لماذا أشعرُ وكأنني مجرمةٌ هنا؟’
كانت تشعرُ ببعض الذنب لرحيلها دوّن كلمة، لكن لو لَمْ يكُن الشخص المعني هو كيليان، لما كان ذَلك ليُشكل أيَّ مشكلةٍ على الإطلاق.
جمعت شجاعتها وقالت:
“أنا أتفهم أنكَ مُستاء، ولكنكَ أنتَ مَن أتيت إليّ أولًا لأنكَ أردت ذَلك. والآن تُلقي باللوم عليّ؟”
هل هو مُنزعج؟ مُرتبك؟ غاضب؟
لكن الرد الذي حصلت عليهِ لَمْ يكُن ما توقعتهُ على الإطلاق.
“أنتِ خائفة.”
“……!”
ظهرت شقوقٌ في وجه كيليان المثالي.
ارتفع حاجبهُ كما لو كان يشعرُ بالغبن.
“ماذا فعلتُ بالضبط؟”
كل ما فعله كيليان هو إخبارُ أرتيا بما حدث في قصر بلورانس، ولَمْ يُلقِ عليها اللوم، ولَمْ يغضب حتى.
ومع ذَلك، فإنْ أرتيا…
“مع احترامي، لكن جلالتُكَ تحمل لقبًا غيرَ عادي.”
الأمير المجنون يقطعُ رقاب مَن يسيئون إليّهِ دوّن تردد.
لَمْ يكُن هُناك أحدٌ في الإمبراطورية لا يعرفُ هَذهِ المقولة.
“هَذا…”
كان كيليان على وشك الاعتراض، لكن عيناهُ وقعتا على يدي أرتيا.
كانت يداها البيضاوان المُتشابكتان ترتجفان قليلًا.
لسبب ما، شعر وكأنْ قلبهُ سقط للحظة.
قطّبَ كيليان جبينهُ وتمتم بصوتٍ خافت:
“ما الذي تظُنينه عني بالضبط…؟”
ثم زفر زفرةً خفيفة، ومسح شعرهُ للخلف قبل أنْ يقول:
“لنُغيّر الموضوع.”
“حقًا؟”
“نعم.”
عندها فقط، توقفت يدا أرتيا عن الارتجاف.
شعر كيليان بالارتياح لذَلك، لكنهُ وجد الأمر سخيفًا، فَتعمّقت تجاعيد جبينهِ.
رؤية ذَلك جعلت قلب أرتيا ينبضُ بسرعةٍ مُجددًا، لكنها قبضت يديها بقوة.
‘بما أنْ جلالتهُ هو مَن قرر تغيّر الموضوع، فَلَن يقوم بشيءٍ مُخيف. إذًا…’
جمعت أرتيا شجاعتها وقالت أخيرًا ما كانت ترغبُ في قوله حقًا.
“جلالتُك.”
“تحدثي.”
أجابها كيليان بنبرةٍ فاترةٍ بعض الشيء، لكن أرتيا واصلت كلامها.
“عندما لَمْ يكُن لديّ دعمٌ لا مِن أمي ولا مِن أقاربي، كنتُ سعيدةً حقًا لأنكَ أتيت لتُساعدني.”
صحيح أنها لَمْ تتلقَ منهُ مساعدةً فعلية، لكنها كانت مُمتنةً له. كما أنه عرض عليها قرضًا ماليًا أيضًا.
“لذَلك، أعددتُ لكَ هديةً صغيرة.”
الهدايا… لَمْ تكُن كلمةً تُثير أيَّ اهتمام لدى كيليان.
فالعشراتٌ يأتون إليّهِ يوميًا مُحمّلين بأشياءٍ مذهلة.
لكن هَذهِ المرة، لمع بريقٌ غريب في عينيهِ الذهبية.
ما قدمتهُ أرتيا بوجهٍ متوتر لَمْ يكُن سوى…
كعكة شوكولاتة، تفوح منها رائحةٌ حلوةٌ ثقيلة، حتى مِن مجُرد النظر إليّها.
“هل ستقبلُها؟”
***
وجدت أرتيا نفسها جالسةً أمام كيليان مُجددًا.
لكن هَذهِ المرة، لَمْ تكُن في قاعة الاستقبال الرسمية الصارمة، بل على طاولةٍ في حديقةٍ مزينة بأزهار زاهية.
‘كيف انتهى بي الحال هُنا؟!’
تذكرت أرتيا ما حدث.
عندما قدمت الكعكةً له بكُل احترام كما لو كانت كنزًا، قال كيليان:
“لنتناولها معًا.”
“عفوًا؟”
‘متى فقدتُ حاسة السمع؟’
بينما كانت ترمشُ في حيرة، واصل كيليان حديثه.
“أم أنكِ تُخططين للهرب مني مرةً أخرى؟”
“لا! بالطبع لا!”
وهَكذا، وجدت نفسها في مأزقٍ غيرِ متوقع، تجلسُ معه لتناول الكعكة.
‘لكن هَذا الرجل لديهِ رُهابٌ شديد مِن النساء، فَلماذا…؟’
كانت أرتيا غارقةً في حيرتها عندما صُدمت مُجددًا.
الشخص الذي أحضر إبريق الشاي والفناجين لَمْ يكُن خادمًا، بل كان نوكترن.
“تبدين وكأنكِ تتساءلين لماذا أنتَ هُنا؟، سيدة إيدينبرغ.”
قالها نوكترن بابتسامةٍ ناعمة، ثم تابع:
“جلالتُه لا يتقبلُ خدمة أيَّ شخصٍ آخر سواي.”
‘ولهَذا، أنا مَن يُعاني بسببه.’
كتم نوكترن جُملته الأخيرة في داخله، مُتجنبًا التفوه بها أمام سيده.
بمهارةٍ، رتب الطاولة ووضع عليها إبريق الشاي وفناجين مزخرفةٍ بعناية، إلى جانب كعكة الشوكولاتة التي جلبتها أرتيا.
ثم قام بتقطيع الكعكة المثالية إلى ستة أجزاءٍ متساوية، ووضع قطعتين أمام كيليان وأرتيا.
‘أنا أتلقى الخدمة مِن الابن الأكبر لعائلة الكونت، والتابع المُباشر للأمير!’
تصلبت أرتيا مِن ثُقل هَذا الوضع، لكن نوكترن ابتسم بلطفٍ وقال:
“أنا أقومُ بواجبي فحسب، لذا لا تقلقي وتناولي طعامكِ براحة.”
“حسنًا، شكرًا لكَ.”
كلماتُه جعلتها تشعرُ براحةٍ أكبر، فابتسمت لا إراديًا.
عندها، قاطع كيليان الهدوء بصوتهِ الجاف:
“لماذا كعكة؟ ولماذا الشوكولاتة بالتحديد؟”
استدارت أرتيا لتنظُر إليّهِ.
كان يجلسُ مُتشابك الذراعين أمام كعكة الشوكولاتة، وبكُل صراحة…
لَمْ يكُن المشهد يليقُ بهِ إطلاقًا.
‘حتى لو كان ملك الشياطين الشرير يحملُ كرزًا صغيرًا، فَسيبدو ذَلك أكثر طبيعيةً مِن هَذا.’
رغم ذَلك، أجابت أرتيا بنبرةٍ هادئة.
“لأنكَ تُحب كعكة الشوكولاتة.”
“……!”
في تلكَ اللحظة، اتسعت عينا كيليان قليلاً. لَمْ يكُن ذَلك واضحًا، لكن حتى نوكترن لاحظ ذَلك وهو يقفُ بجانبهِ.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة