54
الفصل 54 : أسوأ خاطِب ²⁷
“……”
لكن بغض النظر عما قالتهُ هيلين، أبقت جولييت فمها مغلقًا بوجهٍ قاتم.
رؤية جولييت صامتةً هَكذا مزق قلب هيلين، لكنها تماسكت في كل مرة.
‘جولي تشعرُ فقط بالارتباك لأنها على وشك الزواج.’
بِمُجرد أنْ ترتدي الفستان الأبيض في قاعة الزفاف المتلألئة وتلقى التهاني مِن الكثير مِن الناس، ستتغير أفكارها بالتأكيد.
لحُسن الحظ، لَمْ تُكرر جولييت تلكَ الكلمات الفظيعة مُجددًا.
لَمْ تكُن متحمسةً للتحضيرات، لكنها لَمْ تُعارضها أو تعرقلها أيضًا.
رؤية ذَلك جعلت هيلين تتشبثُ بالأمل وتُكرس نفسها أكثر في تجهيز الزفاف، وكأنهُ الشيء الوحيد الذي يُمكنها فعله مِن أجل ابنتها.
مرت الأيام وأخيرًا جاء اليوم الذي يسبق الزفاف.
أقيمت الأمسية الاحتفالية، ووصل الكونت ميزورا.
بوجههِ الوسيم وأسلوبهِ الراقي، انحنى بأدبٍ نحو جولييت، التي كانت ترتدي الطرحة البيضاء.
صفق الضيوف المُحيطون وهللوا بحماس.
“يا لهُما مِن زوجين مُتناسقين، تمامًا كالأمراء والأميرات في القصص الخيالية.”
“إنهُما جميلان حقًا. سيُصبحان أكثر زوجين محبين في الإمبراطورية.”
أظهر هيمفري، وكذَلك هيلين، تعابير مُتأثرة.
الجميع كانوا يبتسمون.
الجميع، باستثناء جولييت التي كانت تُخفي وجهها خلف الطرحة.
بعد انتهاء الحفل، تفقدت هيلين القاعة حيث سيُقام الزفاف في الغد.
كان طريق العروس مزينًا ببريقٍ الذهب، وسقف القاعة يزدان بنوافذ زجاجية ملونةٍ مِن صنع فنانٍ شهير.
وفي صباح الغد، ستُملأ القاعة بمئات الزهور الطبيعية التي اعتنت بها هيلين بنفسها لمُباركة زواج ابنتها.
عندما تخيلت ابنتها وعريسها واقفين هُناك بابتسامةٍ مشرقة، ارتسمت ابتسامةٌ على وجهها.
اقترب هيمفري ووضع يدهُ على كتفها.
“لا بد أنكِ مُتعبةٌ بعد استقبال الضيوف طوال اليوم، لماذا لا تستريحين بدلًا مِن القدوم إلى هُنا؟”
“أردتُ التأكد مِن كل شيء للمرة الأخيرة.”
“حتى أفراد العائلة المالكة لا يُحضرون زفافهم بهَذا القدر مِن التفاني.”
لَمْ يكُن يتحدث لمُجرد المجاملة، فقد بذلت هيلين جهدًا كبيرًا لدرجة أنْ هيمفري كان قلقًا على صحتها.
ثم عبُس قليلاً وقال.
“لكن جولييت تبدو مكتئبةً طوال الوقت، هل ستكون بخير؟”
أجابت هيلين بوجهٍ متوتر.
“لقد أخبرتُك، إنها فقط متوترةٌ قبل الزفاف. لا داعي للقلق.”
“حسنًا.”
تقبل هيمفري كلامها بسهولةٍ، لأنه كان يعلم أنْ هيلين كانت أمًا تُحب ابنتها حُبًا شديدًا.
نظر هيمفري إلى القاعة الفارغة وقال.
“غدًا ستُغادر جولييت هَذا المنزل.”
شعرت هيلين بألمٍ في قلبها.
وسط تصريحات جولييت الصادمة وانشغالها في تجهيزات الزفاف، كانت قد نسيت للحظة أنْ اليوم هو آخر يوم لجولييت كابنةٍ لعائلة بلورانس.
“أريدُ قضاء الليلة معها.”
“افعلي ذَلك.”
بينما كانت هيلين مُتجهةً إلى غرفة جولييت، تذكرت الماضي.
الطفلة الصغيرة التي بكت بصوتٍ عالٍ عند ولادتها.
الرضيعة التي كانت ترضعُ وهي بين ذراعيها.
اللحظة التي نطقت فيها بكلمة “أمي” لأول مرة.
“أحبُكِ يا أمي أكثر مِن أيِّ شيء. سأعيشُ معكِ إلى الأبد.”
ابنتها الثمينة التي ابتسمت لها بابتسامةٍ أكثر إشراقًا مِن ضوء الشمس.
أرادت استعادة جزءً ولو بسيط مِما فُقد بينهما منذُ ذَلك اليوم.
“جولي……”
لكن عندما دخلت الغرفة، توقفت فجأةً.
لَمْ تكُن جولييت، التي توقعت أنْ تجدها مرتدية ثياب النوم ومستلقيةً على سريرها، كذَلك.
بل كانت تحشو حقيبةً كبيرة بالكثير مِن الأشياء.
تفاجأت هيلين وسألتها بقلق.
“أنتِ… ماذا تفعلين؟”
نظرت جولييت إلى هيلين المذهولة ثم فتحت فمها لتتكلم.
“أمي، لقد حاولت اتباع رغبتكِ. لكن اليوم، أدركتُ تمامًا بأنه لا يُمكنني أبدًا أنْ أكون زوجة لذَلك الرجل. إذا تزوجتُه، سأكون تعيسةً مدى الحياة.”
“إذًا… هل تُخططين للهرب؟”
“نعم.”
صرخت هيلين بغضب.
“طفلةٌ لَمْ تخرج بمُفردها مِن قبل، كيف تنوين الهروب؟!”
“هَذا أفضل مِن أنْ أفقد نفسي تمامًا!”
وقفت جولييت أمام هيلين، وهي تحمل حقيبتها.
“دعيني أذهب، ماما. أرجوكِ.”
كانت عيناها مليئتين بالرجاء، لكنهُما أيضًا تحملان قوةً لا يُمكن إنكارها.
لَمْ يكُن مُجرد دلال أو كلماتٍ طائشة.
كانت جولييت تتحدثُ مِن قلبها.
ولهَذا السبب، لَمْ تستطع هيلين التراجع.
“لا. لَن أسمح لكِ أبدًا.”
وقفت هيلين مسندةً ظهرها إلى الباب، باسطةً ذراعيها لمنع جولييت مِن الخروج.
توسلت جولييت بصوتٍ يائس:
“ماما، أرجوكِ…!”
لكن هيلين هزّت رأسها بصرامةٍ، ووجهُها يوحي برُعب لا يتزعزع.
“أنا أمكِ. لا يُمكنني تركُكِ تسلكين طريقًا خاطئًا!”
كانت تلكَ الكلمات هي القشة الأخيرة.
تساقطت دمعةٌ واحدة مِن عيني جولييت.
“حتى أنتِ ترفضينني، ماما؟”
“.…؟!”
لَمْ تكُن هيلين تعلم.
لَمْ تكُن تُدرك مدى صراع جولييت الداخلي، ومدى الألم الذي عانتهُ وهي تحُاول إنكار ذَلك مرارًا وتكرارًا.
كم مرةً قاومت، وكم مرةً أعادت التفكير، إلى أنْ استطاعت أخيرًا جمع شجاعتها لاتخاذ هَذهِ الخطوة.
لَمْ يكُن هروبًا طفوليًا.
بل كان خطوةً يائسة للعثور على مشاعرها الحقيقية.
لكنها قوبلت بالرفض القاطع.
ومِن مَن؟
مِن والدتها، التي كانت تُحبها أكثر مِن أيِّ شخصٍ آخر.
اللحظة التي انهارت فيها أعمدة التوازن الهشة في عقلها، انهارت مثل قصرٍ مِن الرمل.
كرهت والدتها لأنها لَمْ تكُن إلى جانبها.
لا، بل كرهت نفسها أكثر.
كرهت نفسها بشدةٍ، شعرت وكأنها لا تستحقُ أنْ تكون على قيد الحياة.
تحرك جسدُها وسط يأسها العميق.
استدارت بعيدًا عن هيلين، ثم أسقطت الحقيبة مِن يدها بخواء.
لماذا كان يجبُ أنْ تكون النافذة مفتوحةً في تلكَ اللحظة بالذات؟
لماذا كان يجبُ أن يكون القمر مُنيرًا بهَذا السحر؟
كأنهُ يدعوها إليّهِ…
قفزت جولييت مِن النافذة.
سُمع صوت ارتطامٍ شديد.
هيلين، التي صُدمت إلى حد أنها لَمْ تستطع التنفًس، استعادت وعيّها أخيرًا وركضت نحو النافذة.
هُناك، أسفل النافذة، كانت جولييت مُلقاةً على الأرض.
رأسها مغطى بدماءٍ قرمزية، وعيناها مفتوحتان على مصراعيهما.
تحدثت نظراتُها بصمت.
كل هَذا بسببكِ، ماما.
“آاااااه!”
في ذَلك القصر المليء بأزهارٍ عطرة، تعالت صرخة هيلين اليائسة.
عادت هيلين إلى الواقع، جاثيةً على رُكبتيها، وأمسكت بيدي أرتيا بإحكام.
“حتى لو وقف العالم كُله ضدكِ وانتقدكِ، كان عليّ أنْ أكون إلى جانبكِ، لكنني كنتُ غبية… سامحيني، جولي. أرجوكِ، سامحيني…”
انهمرت الدموع الغزيرة مِن عينيها الذابلتين وكأنها كانت تبكي كُل الماء المُتبقي في جسدها.
امتلأت عينا أرتيا بالدموع أيضًا.
‘جولييت، لا أعرفُ كم كنتِ تتألمين وتُعانين. لكنني أعرفُ شيئًا واحدًا بالتأكيد. أمكِ أحبتكِ بصدق.’
رُبما تسببت في جرحها، ورُبما أدت إلى أسوأ نتيجةٍ مُمكنة، لكن مشاعر هيلين كانت دائمًا صادقة.
‘لهَذا، أرجوكِ، سامحيني على قولي هَذا.’
وضعت أرتيا يدها بلطفٍ فوق يد هيلين وقالت.
“أمي، ألا تخجلين مني بعد الآن؟”
“لا… لا، لستُ خجلةً منكِ أبدًا. لقد كنتِ دائمًا ابنتي الحبيبة والفخورة.”
“إذن، هَذا يكفيني. لَمْ أعد أشعرُ بأيِّ ألمٍ تجاهكِ.”
اتسعت عينا هيلين، قبل أنْ تنفجر بالبكاء مُجددًا، كطفلٍ صغير.
بعد وقتٍ طويل مِن البكاء، مسحت دموعها وأخرجت شيئًا مِن تحت السرير.
كانت حقيبةً جلدية قديمة.
الحقيبة ذاتها التي كانت جولييت قد حشوتها بأغراضها قبل عشرين عامًا.
مدتها هيلين نحو أرتيا وقالت.
“اذهبي، جولي.”
“…..”
“اذهبي إلى أيِّ مكانٍ تريدينه، وعِشِي حياتكِ كما ترغبين.”
لا يهُم كيف ستكونين، أو أين ستكونين.
فقط عيشي بسعادةٍ. هَذا كل ما أتمناه.
نظرت أرتيا إلى هيلين، والدموع تملأ عينيها، قبل أنْ تأخذ الحقيبة بيديها.
كانت ثقيلةً. تمامًا مثل قلب هيلين.
ثم عانقت أرتيا والدتها.
“شكرًا لكِ، أمي.”
كانت هَذهِ آخر كلمات وداعها.
خرجت أرتيا مِن الغرفة حاملةً الحقيبة، ولوحت لها هيلين بابتسامة.
وكأنها تُعيد إحياء تلكَ الليلة قبل عشرين عامًا… ولكن هَذهِ المرة، النهاية كانت مختلفة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة